ما زال الجدل محتدما في المجتمعات الإسلامية حول مصدر الشرعية السياسية، وطبيعة النظام السياسي الأفضل، وتدور رحى الصراعات الفكرية حول تلك القضايا الإشكالية، بين قطبي الصراع البارزين، دعاة
العلمانية العربية وغالب الحركات الإسلامية السياسية.
ووفقا لكتاب "الرشد السياسي وأسسه المعيارية.. من
الحكم الراشد إلى الحوكمة الرشيدة" لمؤلفه الكاتب والمفكر السوري لؤي صافي، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والدراسات سنة 2015، فإن طرفي الصراع يختلفان بأطروحاتيهما السياسيتين، ولكنهما يتشابهان في منهجية التعاطي مع مسألة الشرعية السياسية في اعتمادها الكامل على نموذج سياسي، تم تطويره ضمن ظروف تاريخية مختلفة.
يشرح صافي جوهر ما يتبناه العلمانيون والإسلاميون بقوله: "فمن جهة نجد دعاة العلمانية العربية الذين يصرون على التبني الكامل للمذاهب السياسية، التي تولدت خلال القرون القليلة الماضية في المجتمعات الغربية.. وفي المقابل نجد عددا من الحركات الإسلامية تتبنى نموذج الخلافة التاريخي، الذي تحددت معالمه في رحم الدولة السلطانية، ووفق الأحكام المرافقة لها والمعروفة بالأحكام السلطانية.
ويصف المؤلف في مقدمة كتابه طبيعة "المواجهة العلمانية الإسلامية في العالم العربي حول محددات النظام السياسي الأمثل للمجتمعات العربية الحديثة، على الرغم من طبيعتها الفكرية النظرية، إلا أنها لا تنحو منحى فكريا قائما على البحث والمقارنة والنقاش العلمي، بل تأخذ شكل صراع مذهبي سياسي، يسعى كل طرف فيه إلى إلغاء الطرف الآخر، والحكم عليه من خلال أحكام نمطية مسبقة، بل والتشكيك في أهليته الفكرية والوطنية والأخلاقية".
وبعيدا عن مسار الجدل المحتدم بين قطبي الصراع، المحكوم بمنطق الصراع المذهبي السياسي، حدد صافي منهجيته البحثية، واصفا دراسته بابتعادها "عن المواقف العقدية من مسألة الشرعية والمرجعية السياسية للدولة، وتسعى إلى الدخول في نقاش تفصيلي يتناول جذور المفاهيم، ويتجاوز الثنائيات المتنافرة، بحثا عن الأسس القيمية والمعيارية التي تؤطر للمفاهيم السياسية في إطاريها التراثي والحداثي على حد سواء".
فالحداثة طبقا للكتاب "لا يمكن أن تُرفض وفق موقف قبلي عقدي يقوم على أساس أنها نتاج الآخر، وبالتالي فهي تتعارض مع القيم الدينية والثقافية للمجتمعات الإسلامية، ذلك أن تناقض الذات والآخر ليس تناقضا وجوديا أو دينيا في دائرة النظر الإسلامي، الذي يرى في رسالته امتدادا للرسالات السماوية السابقة وحاميه لها.
ويحدد صافي التناقض بين الذات والآخر في الرؤية الإسلامية بأنه يقوم على تناقض في القيم والمعايير، وفي غياب هذا التناقض، فإن إنجازات الآخر هي في جوهرها إنجازات إنسانية يجب تبنيها والبناء عليها وتطويرها إلى مستوى أعلى من الأداء والممارسة، لا رفضها والتنكر لها".
مدخل إلى الرشد السياسي
مهد المؤلف بين يدي فصول الكتاب بمدخل تحدث فيه عن "المجال الدلالي للرشد السياسي"، "الرشد السياسي والمرجعية المعيارية"، "الحكم الراشد والحوكمة الرشيدة"، "الشريعة والقانون"، و"الرشد السياسي وترشيد السياسات العامة".
في بيانه للمجال الدلالي للرشد السياسي لفت المؤلف إلى أن "إصرار كثيرين على العودة إلى المنهل الإسلامي لتحديد معالم النظام السياسي، بعد خيبات الأمل المتكررة في المنظومات السياسية التي قامت في بلاد العرب والمسلمين لتحاكي الأنظمة الليبرالية والاشتراكية والرأسمالية والقومية، يرتبط في وجدان المسلم بنموذج الخلافة الذي وافق عصور الارتقاء الحضاري، ويتعلق بشكل خاص بالخلافة الراشدة" كنموذج راشد في الحكم.
لكن المؤلف ينتقد تلك الدعوات، الداعية إلى إحياء نموذج الخلافة بأنها "لا تعي أن النماذج التي تسعى إلى إعادة إنتاجها نماذج تاريخية، أسهمت في ربط قيم الرسالة ومفاهيمها بمجتمع سياسي تاريخي له خصوصياته التاريخية، وأن نجاح تلك النماذج في سياقها التاريخي لا يعني قدرتها على تنظيم الحياة السياسية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة".
وعليه فإن "هذا الكتاب يسعى إلى إلقاء الضوء على العلاقة بين المعياري والاجتماعي، وإعادة قراءة النماذج التاريخية لتمييز الكلي المجرد عن الزمان والمكان من خصوصياته التاريخية، وبالتالي السعي إلى النظر في الاحتمالات السياسية الممكنة لتوظيف القيم الكلية لتطوير رشد سياسي معاصر، يحاكي في غاياته تلك الغايات التي رفعت المجتمع السياسي الإسلامي التاريخي، ولكنه يعمل على تنزيل تلك القيم في سياق اجتماعي معاصر".
وأوضح صافي أن دراسته "تسعى إلى الابتعاد قليلا عن النموذج الذي عمل عليه المهتمون بدراسة النظام السياسي الإسلامي، وهو النموذج البنيوي الإجرائي الذي يسعى إلى تحديد النظام المعياري الإسلامي من خلال البنى السياسية والإجرائية الإدارية، فكتابه يعتمد مقاربة مغايرة تسعى إلى تحديد القيم والمبادئ العامة التي تميز
السياسة الراشدة بوصفها مطلبا أخلاقيا، عملت الرسالة الإسلامية على ترسيخه بتأكيد القيم التي تتناسب مع الحياة السياسية، ومع رسالة الإنسان الخاصة وغايته الوجودية".
والرشد السياسي طبقا للكتاب "يتمثل بمجموعة من الأحكام المنبثقة عن منظومة معيارية تعطي للرشد معناه وحقيقته، سواء على مستوى الحكم والحكومة أو على مستوى المجتمع المدني والحوكمة.. وهو عملية ثقافية وتعليمية وإجرائية وسياسية، فلا إمكانية لترشيد الحياة السياسية من دون بناء وعي إنساني راقٍ وتطوير ثقافة تقوم على مبادئ أخلاقية مشتركة بين أفراد المجتمع، يشكل مجموعها دائرة المعروف التي يمكن المجتمع من تطوير سياسات عامة تلقي صدى لدى أفراده ونخبه على السواء".
ما هي الحوكمة.. وما محدداتها؟
أوضح المؤلف في تعريفه للحوكمة بأنها "مصطلح جديد يسعى إلى ربط مسائل السياسة وإدارة الدولة، بالقوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة في تشكيل السياسات الناظمة للحياة العامة، وهو بهذا المعنى يعكس تحولا من المقاربة التقليدية لدراسة السياسة بوصفها نتاجا لمؤسسات الدولة الرسمية، ودراسة الإدارة العامة للدولة بوصفها جهدا ديوانيا إداريا صرفا، يسعى إلى تطبيق القوانين النافذة وتحقيق القرارات الحكومية".
ويزيد المؤلف تعريف الحوكمة توضيحا بقوله "الحوكمة إذن مقاربة تركز على دور الجماعات السكانية والقوى الاجتماعية في تطوير السياسات التي تنظم الحياة العامة في المجتمع السياسي، وتبحث في تفاعل هذه القوى، بصورة متوازية ومتراكبة، مع المؤسسات الأساسية الثلاث التي تحكم تنظيم المجتمع الحديث، وبالتحديد مؤسسات الدولة ومؤسسات السوق، ومؤسسات المجتمع المدني".
من أين تستمد الحوكمة الرشيدة التي يسعى المؤلف إلى تحديدها في كتابه مفاهيمها؟ يجيب صافي بأنها تستمد مفاهيمها العامة من التجربة السياسية المتمثلة بتشكيل أول مجتمع سياسي سعى إلى إخضاع الفعل السياسي إلى معايير أخلاقية وقيمية تحت تأثير التوجيه القرآني والهدي الرسالي .. وامتداد هذه التجربة الرسالية في المرحلة التالية التي اصطلح على تسميتها بالعصر الراشدي، مع الاستفادة كذلك من التجربة السياسية الحداثية في سعيها إلى ضبط السلوك السياسي لتحقيق المصلحة العامة وتطوير آليات المساءلة، وبشكل خاص من أدبيات الحوكمة الصالحة التي دخلت الخطاب السياسي الحداثي في نهاية ثمانينيات القرن العشرين".
أما محددات الحوكمة الصالحة فذكر المؤلف ثمانية محددات، وهي: المشاركة، والتوافق، والمساءلة، والشفاقية، والاستجابة، والفعالية، والإنصاف، وسيادة القانون. وتسعى الحوكمة الصالحة إلى تقليص مستوى الفساد الإداري، وأخذ مصالح الأقليات بعين الاعتبار، وسماع أصوات أكثر الفئات ضعفا في المجتمع في صنع القرار، كما تستجيب لاحتياجات المجتمع الحالية والمستقلبة".
في هذا السياق تناول المؤلف بالشرح والبيان أهمية إخضاع الزمني للمعياري، والسلطوي للأخلاقي، مشيرا إلى أنه لم يبدأ في النصف الثاني من القرن العشرين مع جهود المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي، التي سعت إلى التعاطي مع أزمة الديون الدولية، بل لم تبدأ مع جهود مفكري الأنوار الغربيين الذين سعوا إلى إخضاع السلطة السياسية للحقوق الطبيعية للمواطنين، مرجعا الجهود الأولى الجادة في هذا الاتجاه إلى التجربة الإسلامية الأولى، التي يجب اعتبارها كما فعل الفيلسوف الألماني جورج هيغل، بداية الفهم الحديث لمهمة السلطة السياسية والدولة، فيما أطلق عليه عصر الأنوار المشرقي، المتمثل في المبدأ المحمدي.
تحديد الأسس المعيارية لنموذج الرشد السياسي
ما يجتهد المؤلف في بلوغه على مدار فصول كتابه السبعة، هو استخراج وبيان وشرح الأسس المعيارية لنموذج الحكم الراشد، التي تمثلت في العصر الراشدي، بسبب خضوعه إلى جملة من المبادئ المعيارية المنبثقة عن التصور القرآني والتقاليد الرسالية التي رسخها صاحب الرسالة، لعل أبرزها المعايير التسعة التالية: الاختيار، العدل، المساواة، المصلحة العامة، الحقوق والذمم، الحسبة (المحاسبة)، الأمانة، الكفاية، والتكافل".
ووفقا للمؤلف، فإن "هذه الأسس المعيارية شكلت بناء هرميا، انقسم إلى قيم عليا خمس، وهي الاختيار والعدل والمساواة والمصلحة العامة، والحقوق والذمم، التي عكفت الكتابات الفقهية التاريخية على تبيانها وتأصيلها، كما انقسمت إلى قيم وسيطة، تمثل قيما مساعدة تمكن المجتمع من تحويل القيم العليا المجردة إلى ممارسات سياسية عملية، وهي المحاسبة، أو الحسبة، التي شكلت أساسا لتحقيق العدالة ضمن علاقات السوق والمعاملات التجارية التي سادت، والأمانة التي تتجلى بشكل أساسي بالنصح للأمة عبر اختيار الأشخاص المناسبين خبرة وعدالة لتولي شؤون المسلمين العامة.
ويتابع بيانه "كما شملت قيم الكفاية أو الكفاءة المطلوبة لمن تولّى أمرا من أمور المسلمين، وأخيرا التكافل الذي أتاح للمحرومين والفقراء والمعاقين حدا أدنى من الحياة الكريمة"، مشيرا إلى أن "النموذج الراشدي بقي محط اهتمام عامة المسلمين وعلمائهم ومؤرخيهم طوال التاريخ الإسلامي الطويل، بما حمله من قيم ومثله من ممارسات ربطت السلطة السياسية والسياسات العامة بحقوق الناس وإقامة العدل، واختيار الأمثل لتولي شؤون المسلمين.
واستدرك المؤلف أن ذلك النموذج "افتقر إلى ممارسة شورية مؤسسية، أصبحت اليوم ضرورة حيوية لتنظيم المجتمعات المعاصرة، ومع دخول مبدأ الشورى تولد نموذج سياسي أكثر فاعلية لحفظ الحقوق وضمان المساءلة الفعالة. وقد أطال النفس في بحثه وتحديد عناصرة ومعاييره، بحسب الممارسة في العهد النبوي والعهد الراشدي.
تدور معالجة المؤلف لمسائل السياسة الشرعية، والشرعية السياسية، على استخراج المبادئ المعيارية في نموذج الحكم الراشد، في العصرين النبوي والراشدي، وبحث مدى إمكانية توظيفها في نماذج الحكم المعاصرة، بالالتزام بتلك المبادئ، من غير التقيد بنماذج الحكم التاريخية، باعتبارها محكومة بزمانيتها وظروفها المكانية، وفي الوقت نفسه بالاستفادة من خبرات الإنسانية في طورها الحداثي، بما لا يتعارض مع مبادئ الشريعة وقيمها، تأسيسا على مقولة الفقيه الحنبلي في تعريفه للسياسية: "السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي".