كتاب عربي 21

الساحة السياسية التونسية تتحرك لكن في أي اتجاه؟

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
إيقاعان مختلفان؛ صوت انهيار داخلي وصوت مَرَمَّةِ بناء في يوم واحد في جغرافيا واحدة. حزب ينهار وينقسم وحزب يضم أجنحته ويتدرب على الطيران. المشهد ونقيضه. هذه هي اللوحة  العامة في تونس في الأيام العشرة الأخيرة من سنة 2015 في تونس. فرغم تجاهل الطبقة السياسية الحاكمة لذكرى انطلاق الثورة يوم 17 ديسمبر واجتهاد إعلام النظام في تحقيرها بنعتها بثورة البرويطة. فإن الشارع عامة يموج ممسكا أنفاسه منتظرا تغييرا حقيقيا في الساحة. فانقسام حزب النداء وخروج الشق اليساري منه وإعلانه الشروع في تأسيس مواز حول نفس المشروع ينذر بحركة سياسية جديدة بطعم حداثي. يقابل ذلك نشأة حزب جديد يضع نفسه ضمن لائحة الأحزاب الاجتماعية التي لا تعادي الحداثة ويتفصَّى من الاسلاموفوبيا هو حزب الدكتور محمد منصف المرزوقي. وهو ما يطرح الأسئلة حول طبيعة العام السياسي القادم وآفاق العمل السياسي به.

مشهد الانهيار 

 أعلن الأمين العام السابق المطرود تقريبا ومجموعته الأيديولوجية من حزب النداء الشروع في بناء حزب يبدو أنه سيسمى فداء تونس. فبعد طول صراع بين شقي الحزب المنقسم على نفسه تم الطلاق البائن بينهما. بقيت الغالبية النيابية مع الشق الموالي للرئيس الباجي قائد السبسي. والمعلن في خلفية الصراع بين الشقين هو الاختلاف الإجرائي حول كيفية انجاز المؤتمر الأول للحزب الذي تجمع حول الباجي منذ 2012 وخاض انتخابات 2014 بشعارات التحديث واستعادة مشروع البورقيبية الأولى. فشق الأمين العام كان يريده مؤتمرا تأسيسيا يقوم على جهد المجموعة الأولى المؤسسة. وهي مجموعة متجانسة تقريبا حول مبادئ محددة أهمها القطيعة مع الإسلام السياسي ورفض "مشروعها الإخواني الظلامي". بينما دعا الشق الثاني إلى مؤتمر انتخابي يحتفظ بمبدأ التشارك السياسي مع الإسلاميين في هذه المرحلة. وإجرائيا فإن المؤتمر الانتخابي كان يسمح بإلحاق قوى جديدة  بالحزب من خارج المجموع المؤسسة التي كانت ستجد نفسها أقلية فتخسر مواقعها ولا تستقل بالحزب ولا بمشروعه الحكمي. من هنا كان الاختلاف. فضلا عن اتهامات جدية صدرت عن الباجي نفسه لشق الأمين العام بمحاولة الانقلاب على الرئيس قبل إنهاء فترته الرئاسية. واتهامات أخطر بالتعاون مع جهات أجنبية (الإمارات العربية وشقوق في الإدارة الأمريكية) من أجل تمويل الانقلاب على الرئيس. ورغم أنه لم يتم التحقيق في هذا ولا متابعته قضائيا على خطورته إلا أن السائد في تونس أن الأمين العام أراد اختصار المسافة الزمنية نحو القصر بإنهاء حياة الباجي السياسية. وهو ما لم ينفه شق الأمين العام وذهب إلى إبراز مشروعه السياسي والفكري الحداثي المعادي للأصولية الإسلامية ورفض التعاون معها. وقد أكد بوجمعة الرميلي أحد اليساريين المؤسسين للحزب منذ البداية أن الأمين العام لم يكن يحمل مشروعا عند التأسيس وأنه كان مستعجلا على قطف ثمرة لم تنضج بما أكد السبب الحقيقي لإقصائه وعزله مع مجموعته. 

ما هي حظوظ حزب الفداء الجديد؟ قد يولد هذا الحزب سريعا ولكنه سيولد بدون ماكينات حزب النداء. أي المكانية الانتخابية لحزب التجمع المنحل (وهي نقطة قوة النداء التي ربح بها الانتخابات) وسيولد كذلك بدون مال داخلي يتحوز عليه رجال أعمال المخلوع الذين موَّلوا النداء حتى الآن. (أي حزب فقير ماليا وجماهيريا) سيكون له فقط ماكينة إعادة تدوير الأفكار والآليات الاستئصالية التي اشتغل بها اليسار مع بن علي ضد الإسلاميين طيلة ربع قرن وهي ماكينة مستنفذة الصلاحية لأن عاما واحدا من التوافق السياسي بين حزب النهضة والرئيس الباجي رسخ لدى كثير من التونسيين أن الاستقرار الهش الذي يسمح حتى الآن باستمرار صرف الرواتب مدين لضبط النفس الذي مارسته النهضة على قواعدها وإطاراتها الوسطى لتبقى الدولة قائمة ولو بالحد الأدنى خارج معارك الاستئصال التي لم تعد معركة الشعب التونسي وهذه مسألة ثابتة سيدخل بها التونسيون العام الجديد مع تعديل حكومي ينهي وربما إلى الأبد معركة وضع الإسلاميين على الهامش سجناء أو منفيين. وهنا الخسارة الأكبر لشق الأمين العام.. (لم يعد بإمكانهم بيع سلعة الاستئصال لأحد في الداخل والخارج).

مَرَمَّةُ البناء الجديد 

في قصر المؤتمرات أعلن الرئيس المنصف المرزوقي يوم 20 ديسمبر ميلاد حزب حراك تونس الإرادة بعد عام من التحضيرات في كنف الهدوء والتكتم. وقدم الرئيس العائد إلى الساحة السياسية خطابا جذريا ذا طبيعة اجتماعية يصنفه ضمن اليسار الاجتماعي. وكان خطابه عالي النبرة ضد المرحلة وضد الائتلاف الحاكم الآن الذي أخلف كل وعوده الانتخابية وكذب على التونسيين في كل ما فعله طيلة سنة من تصدره للحكم، بما يطرح ضرورة تنظيم المعارضة بشكل جدي والشروع في تطبيق الدستور الذي ظل حبرا على ورق بل محل استهانة وتحقير.

في الهيئة التأسيسية التي ستقود الحزب لمدة سنة حتى انجاز مؤتمر انتخابي. تبين أن المرزوقي لم يتحرر من هيمنة حزبه القديم المؤتمر من أجل الجمهورية فأغلب الوجوه المتصدرة هي قيادة الحزب القديم بمن فيهم الذين أقصوا سابقا من الحزب وهو ما سبب خيبة ومرارة لكثير من الشباب والكوادر المثقفة الذين اشتغلوا على تأسيس حزب جديد كليا. وشعر البعض بأن هناك "إعادة تدوير" لقديم أكثر مما هناك من تجديد. متجاهلين أن الحزب يفتقد إلى الإمكانيات المادية التي تسمح له بافتتاح فروع ومحليات إذا تمت التضحية بجهاز الحزب القديم الذي وإن كان فقيرا إلا أنه احتفظ بكوادر جهوية وله في المجلس النيابي ثلاث نواب انضموا بعد الاستقالة إلى الحزب الجديد بما جعل المولود الجديد يولد حزبا برلمانيا. فضلا عن انضمام بعض الشخصيات الاعتبارية والمستقلة من أحزاب أخرى تلاشت أو تكاد من المشهد مثل الجمهوري والتكتل وحزب وفاء.

احتفظ الحزب الوليد بمشروعه الفكري والسياسي المعلن في أدبيات مؤتمر 25 إبريل (نيسان) 2015، التحضيري وهي أدبيات كما أسلفنا تصنفه ضمن لائحة أحزاب الديمقراطية الاجتماعية غير المعادية للإسلاميين والمنفتحة على العمل السياسي غير الأيديولوجي. وقد أرسل المرزوقي في خطابه التأسيسي رسائل جلية إلى المعارضة لتتآلف عبر تنسيقيات فعالة للقيام بدور المعارضة البناء دون السعي إلى قلب نظام الحكم بل علي قاعدة الإقرار بنتائج انتخابات 2014.. وإنما بتطوير أداء المعارضة والتركيز على تطبيق الدستور خاصة في الانتخابات البلدية والمحلية التي يشرِّعها الباب السابع من الدستور والذي تم إغفالها في برنامج الائتلاف الحاكم. يضع المرزوقي نفسه وحزبه في موقع التيار الثالث الذي يؤهله لقيادة المعارضة سنة 2015 وما يليها وهي المنطقة التي ظلت فارغة طيلة 2015، رغم تحرك طيف متعدد من المعارضة حول قضايا لا تختلف فيها مع المرزوقي مثل الشفافية في قطاع الطاقة والحوكمة الرشيدة.

الآفاق الممكنة؟

كيف سيكون المشهد السياسي سنة 2016؟ السؤال الآن بات مطروحا بقوة. حزب النداء صار أضعف مما كان عليه بعد نجاحه الانتخابي، إذ أن سنة في الحكم غربلته ونختله فخرج ضعيفا متلاشيا يعيش ببقية أنفاس الرئيس المرهق رغم أغلبيته النيابية الطيعة. ويصرح بعض قيادييه أنه مدين ببقائه بعدُ لهدوء حزب النهضة وتأجيل الإجهاز عليه، بما يجعله يتراجع خلفه في القدرة على الفعل وربما احتمي به في آخر ساعاته رغم ماكينته المالية والإعلامية والانتخابية الهاجعة. وسيدخل مؤتمره بلا رؤية واضحة إلا التشبث بالسلطة بأي ثمن.

حزب بصدد التشكل لا يمكنه أن يكون خارج الحساسية اليسارية الفرنكفونية المعادية للإسلاميين والتي لا مشروع لها إلا معاداة الإسلاميين والتظاهر بالبراءة من إرجاع النظام السابق في اعتصام الرحيل وتقديرنا أنه سيولد ميتا، خاصة أن المال الإماراتي في تراجع والرهان الخارجي على مثل هذا الحزب لإقصاء الإسلاميين بات ضعيفا وغير مجد. وعندما يعلن الباجي في زيارته للسعودية هذا الأسبوع  لتعاطفه مع/ أو مشاركته في محور إسلام سني تموله تركيا وقطر والسعودية سيقطع الأنبوب الإماراتي الذي تنفس به الأمين العام نهائيا. أما الأنبوب الفرنسي فقد غير رهانه إلى المنظمات الاجتماعية التي تدبر لها جائزة نوبل كتسبقة على الحساب. بقية أطياف المعارضة بما فيها الجبهة الشعبية اليسارية تبين ضعفها وتشتتها يوم 12 سبتمبر 2015 في تحرك رفض قانون المحاسبة ولا يمكنها أن تؤثر على الساحة في ظل ذلك التشتت التنظيمي. فضلا على أنها عوملت باستهانة من قبل أغلبية الحزبين الكبيرين في المجلس، اللذين احتميا بالأغلبية العددية بشكل سافر وغير أخلاقي.

 هذا المشهد  يفتح على مكانة واسعة (نظريا) لحزب المرزوقي الوليد ولكني أعتقد أن الشجاعة تقتضي أن يرى هذا الحزب عوائقه الداخلية التي ولد بها البارحة وهي أن القافزين إلى هيئته التأسيسية لا يتحلون جميعهم بالكفاءة، فقد جربوا وفشلوا ولم يفهموا بعد أن الإيثار قاعدة أساسية لعمل طويل النفس يخطط له المرزوقي. ويرشدهم إليه فينظرون فقط تحت إقدامهم متخيلين أن السلطة عائدة لهم غدا. وقد كان هذا مقتلا لكثيرين طيلة الفترة الانتقالية ويبدو أن البعض لا يزال مصرا على تمطيطه ليجني منه مكسبا فرديا. 
التعليقات (1)
نورالدين بن حميدة
الثلاثاء، 22-12-2015 10:01 م
تهمني جدا الاشارة الى الموضوعية التي سعى العلوي للتحلي بها عبر هذا المقال وخاصة في خاتمته