كتب

هل يمكن للدولة الإسلامية أن تولد من جديد؟

بنى فيلدمان فكرته بشأن قيام الدولة الإسلامية بصورتها التاريخية باعتبارها دولة شريعة بصورة بارزة - أرشيفية
بنى فيلدمان فكرته بشأن قيام الدولة الإسلامية بصورتها التاريخية باعتبارها دولة شريعة بصورة بارزة - أرشيفية
خصص أستاذ القانون في جامعة هارفرد العريقة، الأكاديمي والسياسي الأمريكي نوح فيلدمان كتابه "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها" (The fall and rise of the Islamic State)، لبحث ودراسة عوامل قيام الدولة الإسلامية "الكلاسيكية"، وأسباب سقوطها، وإمكانية ميلادها من جديد كما تدعو إليها الحركات  الإسلامية السياسية المعاصرة.

وقد بنى فيلدمان فكرته المركزية بشأن قيام الدولة الإسلامية في صورتها التاريخية باعتبارها "دولة شريعة بصورة بارزة"، تشكلت بنيتها الدستورية من عنصرين أساسيين، تمثلا في إقامة التوازن بين سلطة الحاكم (السلطة السياسية) والشرع نفسه (تمثله طبقة العلماء المفسرة للشرع والحامية له).

وبحسب رؤية فيلدمان، فإن دور العلماء إلهام تمثل -إضافة لتفسير الشرع وحمايته-  في إضفاء الشرعية على السلطة السياسية، وقد حافظت الدولة الإسلامية التقليدية طوال مسيرتها التاريخية على توازن السلطات بين السلطان باعتباره السلطة التنفيذية، وبين العلماء باعتبارهم حماة الشرع، ولم يختل ذلك التوازن إلا في عهد الإصلاحيين العثمانيين الذي حرصوا على تهميش مكانة العلماء عبر جملة من الاجراءات التقنينية فيما يعرف بـ"التنظيمات" و "مجلة الأحكام العدلية".

سقوط الدولة الإسلامية ارتبط بشكل وثيق بأفول الإمبراطورية العثمانية، بعد إلغاء مصطفى كمال أتوتورك للخلافة العثمانية سنة 1924، وإعلانه عن قيام الجمهورية التركية، فهل يمكن للدولة الإسلامية بعد سقوطها أن تولد من جديد؟ يرى فيلدمان أن "الإمبراطوريات عندما تسقط، فإنها تميل إلى البقاء ميتة، وينطبق الشيء نفسه على أنظمة الحكم..".

لكن فيلدمان يستثني من الحكم الكلي السابق "مثالين كبيرين لنظم الحكم آخذين في البروز من جديد بعد أن توقفا عن الوجود ظاهريا، الأول: هو الديمقراطية، وهو شكل الحكم الذي حقق نجاحا محدودا في دولة مدنية إغريقية صغيرة بضع مئات من السنين، واختفى ثم بُعث بعد حوالي ألفي عام من ذلك..، أما الآخر فهو الدولة الإسلامية، والتي يرصد المؤلف انبعاثها في تجدد الدعوات إلى قيامها، وتكاثر المطالبات لإنشائها، كي تحكم المسلمين بالشريعة الإسلامية، وقد جاءت تلك المطالبات والدعوات من "حركات سياسية رئيسة تُعرف بالإسلاموية" على حد تعبير الباحث.

قيام الدولة الإسلامية الكلاسيكية ونجاحها

لم يرتضِ فيلدمان صنيع كثير من الكتاب الغربيين "الذين بذلوا جهدا كبيرا في وصف العالم الإسلامي باعتباره مهد الطغاة الشرقيين الذين قاموا بما قاموا به متحررين من القيود التي يُفترض أنها مفروضة على الحكام الغربيين" واصفا حالة "العديد من أكثر المفكرين الغربيين تنورا وحبا للقانون، و"مونتسكيو" مثال مشهور" الذين كانوا "يستعملون صورة الشرق الإسلامي كأداة أدبية لإبراز نظرتهم عن أسوأ نظام غير شرعي ممكن".

واستحضر فيلدمان في هذا السياق مثال "عالم الاجتماع الألماني العظيم ماكس فيبر الذي استعمل الإسلام في شيء من هذا القبيل، فعندما أراد "فيبر" وصف الحكم الصادر من دون قواعد قانونية للقرار استعمل صورة القاضي المسلم الجالس تحت نخلة يقضي بما يحلو له". 

يركز فيلدمان في إظهاره للصورة المغايرة لما هو سائد في كتابات الغربيين عن النظام الإسلامي على مبدأ سيادة القانون الإسلامي أو البنية الكاملة للشرعية الإسلامية، ويشرح ذلك بأنه "يُفترض في القاضي أن يحكم طبقا للشرع، وإذا لم يكن يعرف الشرع فكان يفترض فيه أن يحيل القضية إلى فقيه مؤهل يقوم بالإجابة في شكل فتوى، وكان دور كل من القاضي والفقيه محددا بحذر شرعا وعرفا".

وفي بيانه لدور العلماء الذين يصفهم "بالجماعة التي تنظم نفسها بنفسها، الخبيرة في الشرع" يفرد فيلدمان مساحات واسعة لبيان "كيف أصبح العلماء، وهم رجال لهم سلطة سياسية مباشرة قليلة، وبلا جيوش، ولا مناصب حكومية غالبا، حماة الشريعة الوحيدين، ومن ثم الكابح الوحيد المهم لسلطة الحاكم"، مرجعا ذلك كله "إلى الطريقة التي تطور بها الشرع الإسلامي نفسه إلى جانب الدولة الإسلامية".

فالدولة الإسلامية قامت لتطبيق الشرع الإسلامي، وتستمد شرعيتها ومبررات وجودها من قيامها بذلك، والطبقة المفسرة للشرع والحامية له هي جماعة العلماء، الذين يثختار القضاة منهم، لتطبيق أحكام الشرع وفقا لاجتهادات العلماء وفتاويهم، وما حافظ على كينونة الدولة الإسلامية طوال الفترة التاريخية الممتدة هو تمثلها لروح الشرع والتزامها بأحكامه على الجملة، مع هنات تقع هنا وهناك. 

لماذا سقطت الدولة  الإسلامية؟

في الفصل الثاني "الأفول والسقوط" أرجع فيلدمان مقدمات أفول الخلافة العثمانية إلى ما أطلق عليه "سلسلة من ترتيبات الحكم الجديدة تبناها إصلاحيون محليون وضغط بها الدائنون الغربيون"، يقول فيلدمان شارحا: "وفي القرن التاسع عشر، بدأ الحكم الإسلامي يتداعى بوضوح فالإمبراطورية العثمانية التي كان سلطانها يدّعي قيادة  العالم الإسلامي باعتباره خليفة اعتمدت سلسلة من ترتيبات الحكم الجديدة... وعلى الرغم من أن الإمبراطورية بقيت إسلامية شكلا، إلا أن تغييرات عصرية، مثل البرلمان والتشريع، هزت أركان الدستور التقليدي العرفي الذي كان سائدا في ظل الحكم الإسلامي.

يتابع قائلا: "وعندما انهارت الإمبراطورية العثمانية في أعقاب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، تم تقسيم أراضيها إلى مناطق نفوذ تقودها، إن لم تكن تحميها، فرنسا وإنكلترا، وأعلنت الحكومة التركية الجديدة التي أسست في نهاية المطاف على قطعة الأناضول التابعة للإمبراطورية العثمانية، أنها علمانية وألغت الخلافة، ومن منظور رمزي وعملي معا لقد ماتت الدولة الإسلامية في عام 1924".

وكرؤية كلية شارحة لمقدمات انهيار الدولة الإسلامية يقول فيلدمان "وفي هذا الترتيب الدستوري الجديد، لم يتم الاحتفاظ بفكرة أن العلماء أو محاكمهم كانت هي حامية الشريعة إلا في المعنى الرمزي، وهو احتفاظ المحاكم الشرعية بالاختصاص في الشريعة، وغابت فكرة الشريعة التي تسمو على ما سواها وتقر كامل النظام الدستوري، وتضفي الشرعية عليه غيابا تاما. كان دستور 1876 العثماني أول وثيقة تطلق نفسها أنها دستورية تصدر في أي مكان في العالم المسلم. لذلك لن يكون من المبالغة القول إن قدوم الدستور المكتوب في العالم الإسلامي كان علامة على بداية نهاية الدولة الإسلامية". 

نهوض الدولة الإسلامية من جديد

يصف فيلدمان الحراك الواسع في العالم الإسلامي نحو الدولة الإسلامية بأنه "ركوب لموجة الحنين، لكنه يتطلع إلى الأمام أيضا"، يريد مصممو الدولة الإسلامية الجديدة والمدافعون عنها استعادة جوهر ما صنع مجد الدولة  الإسلامية التقليدية، وهم يعلنون ولاءهم للشريعة بينما يصرحون في الوقت ذاته بميلهم إلى الديمقراطية. وهذا يعني أن الدولة الإسلامية الجديدة ستكون مختلفة عن الدولة القديمة، ليس هناك مجال لإعادة ساعة التاريخ إلى الوراء، مهما قال القائلون وفقا لفيلدمان.

وعن إمكانية قيام الدولة الإسلامية ونجاحها ربط فيلدمان ذلك بقدرة الحركات الإسلامية على إيجاد سلطة مؤسساتية قادرة على الوقوف في وجه السلطة التنفيذية ومراقبتها باسم القانون، فإذا كان بإمكان الدولة الإسلامية الجديدة إيجاد مؤسسة تملأ الدور الذي كان يقوم به العلماء تقليديا، فإن لها فرصة معقولة لإقامة عدالة سياسية، ومن خلالها شرعية شعبية".

ولئن كانت رؤى فيلدمان التحليلية بخصوص قيام الدولة الإسلامية الكلاسيكية، وعوامل نجاحها ودوامها، وأسباب أفولها وسقوطها، تدخل في نطاق الاجتهادات التفسيرية المعقولة، فإن توقعاته حول إمكانية قيام الدولة الإسلامية من جديد تركز على مدى قدرة الداعين إليها، والمطالبين بها، لتهيئة المناخات والمواصفات الداخلية القادرة على إنجاحها ونهوضها، من غير أن تحفل كثيرا (وردت إشارات عابرة إليها في الكتاب) بالتحديات المحلية والإقليمية والدولية الكبيرة والضخمة التي لن يسرها بأي حال قيام تلك الدولة، وتجارب الربيع العربي خير شاهد على ذلك.
التعليقات (1)
آسـمـآعيـےل
السبت، 11-06-2022 05:24 م
تحليـےل مـنطـقيـے