قوة العمل الدبلوماسي من قوة الوضع الداخلي.
بقدر تماسك الدولة تتماسك سياستها الخارجية.
وبقدر تعافي اقتصادها يتعافى دورها الإقليمي.
رغم أي جهود مضنية بذلت واختراقات كبيرة حدثت الشوط لازال بعيدا لاستعادة زمام القيادة في العالم العربي.
بكلمة أخرى حجم الإنجاز يتوارى أمام مستوى التحدي.
هناك فارق بين تجاوز الحصار الدبلوماسي شبه المحكم الذي فرض على
مصر بعد (30) يونيو وحلحلة أزمات وجودية مستحكمة كـ«سد النهضة» وتهريب السلاح عبر الحدود وبين التقدم بثقة كلاعب محوري في أكثر أقاليم العالم حساسية واشتعالا بالنيران.
أمام انهيارات إقليمية جديدة ومنذرة فإن الوقت يضغط.
الحوادث لا تستأذن من أحد ولا تمهله ما يطلبه من وقت حتى يستعد.
من الصحيح أن البلد منهك اقتصاديا وأمنيا غير أن الإحجام عن الحركة سوف يكلفه غاليا.
السؤال الحقيقي الآن: كيف يمكن في مثل هذه الظروف الصعبة توسيع الخيارات الاستراتيجية والتخفف من أي قيود؟
مصر ليست دولة هامشية أيا كانت مشكلاتها، تحتاج إلى الإقليم كما يحتاجها، وأي تعامل ينال من قدرها إهانة لا يجب تقبلها.
إن حسم خيار الانفتاح على المراكز الدولية الكبرى وتنويع مصادر السلاح بلا وجل أيا كانت الضغوط الأمريكية يفسح المجال واسعا أمام إدارة أكثر كفاءة للمصالح الاستراتيجية العليا.
نقطة البداية أن نتصارح بالحقائق أمام أنفسنا أولا ومع حلفائنا في
الخليج ثانيا.
هناك حساسية مفرطة من أي تحرك مستقل والدبلوماسية المصرية شبه مكبلة في إقليمها.
لا مبادرات لها صوت مسموع وأثر في حركة الحوادث الكبرى.
حيث يمكن الحركة تتوقف المبادرات في منتصف الطريق.
في الأزمتين
اليمنية والسورية هناك اتصالات تجري مع الأطراف المتنازعة، بعضها في العلن الدبلوماسي والأخرى في ظلال الكواليس، غير أن الحساسيات تفرمل كل اتصال وتحجب أية مبادرة، مما يحتاج إلى حوار جدي وصريح مع الأشقاء.
في أول زيارة قاهرية لوزير الخارجية السعودي الجديد «عادل الجبير» جرى شيء من المصارحة لكنها ليست كاملة.
تصريحاته اقتربت من الملف الحساس لكنها نفت أن تكون هناك فجوات بين مصر والسعودية في ملفي اليمن وسوريا.
النفي نفسه محاولة لتخفيض مستوى خطورة أزمة لن يطول كتمانها.
ما معنى أن تكون العلاقات استراتيجية؟
أن تفتح الملفات الإقليمية على الطاولة وتجري التفاهمات الكبرى، أن تتحدد الالتزامات المتبادلة والمصالح المشتركة على مدى طويل نسبيا.
في الأزمة اليمنية فجوات في الرؤية.
هناك التزام مصري نهائي بأمن الخليج غير أن أحدا لم يناقش بالجدية اللازمة حدود هذا الالتزام، وما إذا كان يعني تأمين الخليج من أية تهديدات عسكرية أو مخاطر تنال من سلامة دوله أم أنه يتسع إلى عمليات اليمن؟
السؤال بطبيعته يستوجب تعريف العدو.. أين يتوقف السلاح وتبدأ السياسة؟
لم تكن مصر مقتنعة أن
إيران هي العدو.
سعت لتأسيس علاقة جديدة مع طهران دون قفز على الخلافات والريب لكنها أحجمت عن نقل حواراتها إلى العلن الدبلوماسي خشية أية حساسية في الخليج وحرصا على العلاقات الاستراتيجية معه.
المثير أن دول الخليج بلا استثناء واحد لها علاقات دبلوماسية مع إيران.
وزير الخارجية السعودي نفسه لم يستبعد خيار الحوار المفتوح مع طهران.
تحدث عن شروط لجدية الحوار، وهذا طبيعي في مثل هذه النزاعات.
لا أحد يتحاور من أجل الحوار دون أهداف يقصدها ومطبات يعمل على تجنبها.
مع ذلك فإن الدبلوماسية السعودية لا تبدي أدنى تفهم لرغبة القاهرة مد جسورها مع طهران التي تطلب وتلح على تفاهمات ممكنة مع الدولة العربية الأكبر رغم أنها محام مؤتمن عن الخليج ومصالحه.
بالقدر نفسه لا توجد أية تزكية لأدوار تلعبها القاهرة في التسوية السياسية للأزمة اليمنية.
بحسب معلومات مؤكدة وصلت القاهرة وفودا تمثل الأطياف السياسية اليمنية، من بينها جماعة الحوثيين، لكنها لم تجد ما تطلبه وتلح عليه من مبادرات تطلقها ومصالحات تحتضنها.
لا سبيل إلى إنكار الأزمة المكتومة بين القاهرة والرياض وأفضل خيار ممكن أن تكون هناك مكاشفة.
السؤال الرئيسي هنا:
هل تجوز في أي علاقات استراتيجية استدعاء طرف للعمل العسكري وتنحيته عن العمل السياسي؟
من المثير أن تتزامن الحساسيات المفرطة مع أحاديث القوة العربية المشتركة.
بحسب ما هو ثابت، فإنها سوف تعلن 29 حزيران/ يونيو الحالي، وهذه رسالة مقصودة بتوقيتها.
بيوم واحد يستبق الإعلان المنتظر توقيعا مرجحا على اتفاق نهائي بخصوص المشروع النووي الإيراني ترفع بعده العقوبات الاقتصادية والمالية.
غير أن رسائل القوة تفتقد معناها إن لم تقف على أرضية سياسية صلبة.
وهذا ما لا يتوافر في الأزمة السورية التي تشهد صدامات في الظلام.
التقديرات تختلف بفداحة، الرياض تندفع مع أنقرة والدوحة إلى توحيد جماعات معارضة، بعضها كـ«جبهة النصرة» تنتمي إلى «القاعدة» مباشرة، بينما القاهرة تعمل على تسوية سياسية وفق مرجعية جنيف (1) لا تستبعد الرئيس السوري «بشار الأسد».
من نتائج الدعم السياسي والمالي والعسكري لـ«النصرة» ومثيلاتها إنهاك الجيش السوري وبسط سيطرة «داعش» على أكثر من نصف الأراضي السورية.
القضية ليست «الأسد» بقدر ما هي أن
سوريا بكاملها مرشحة للسقوط النهائي.
هذه مسألة أمن قومي مصري على درجة عالية من الخطورة لا يصح التهوين منها أو المقايضة عليها.
السقوط السوري يفضي إلى سقوط مماثل في مصر.
السقوط نفسه سوف ينال من دول عربية أخرى كـ«لبنان» و«الأردن» وتضيع فلسطين إلى الأبد.
السعودية ليست بعيدة عن هذا المصير.
بدأ استهدافها في منطقتها الشرقية وضربات الإرهاب لن تتوقف في أي مدى منظور.
بترنح سوريا على مذابحها تقف المنطقة كلها أمام المجهول المرعب.
قد تتسع حروب الإرهاب وتنفسح السيناريوهات لاحتمالات التقسيم التي لن يفلت منها أحدا.
العراق في المقدمة واللعبة سوف تأخذ في طريقها كل شيء.
أمام الرعب المقبل لا أمل بغير أن تطلق يد مصر، تتحرك وتبادر، تصنع التوافقات الكبرى وتخفض الاحتقانات مع إيران.
من متطلبات أي شراكة استراتيجية أن تكون هناك تفاهمات حقيقية.
المثير أن التوافقات مع موسكو وطهران في الأزمة السورية أكبر من أي توافقات مع واشنطن والرياض.
لا يمكن لتحالف أن يستقر وأطرافه تتناقض خياراتها الاستراتيجية دون رغبة جادة في ترميم الفجوات.
(نشر في صحيفة الشروق المصرية)