كتب
عبد الله السناوي: تحتاج
مصر أن تضع كمامة ثلج فوق رأسها المشتعل وتواجه الحقيقة دون تهرب من استحقاقاتها.
فكل شيء مهدم تقريبا، ويحتاج إلى بناء جديد بعد إزالة أثقال الماضي التي تعطل كل حركة وتنفي أي أمل.
الحوار العام مدخل إجباري للاضطلاع بمسؤولية البناء والقدرة في الوقت ذاته على دحر الإرهاب.
تغييبه يعني بالضبط حجب كل فرصة ممكنة للاصطفاف الوطني.
الاصطفاف لا يعني على أي نحو أن يقف جميع المواطنين في طابور يقولون الكلام ذاته.
حيوية أي اصطفاف في تنوعه وقوته في قدرته على بناء التوافقات العامة.
بمعنى أوضح التوافق غير الإملاء.
الأول مشروع نهوض والثاني منزلق خوف.
أول شروط الحوار الضروري أن تكون البيئة العامة مهيأة لتقبل الاختلاف في الرأي، دون طعن في أصحابه أو نيل من كرامتهم الإنسانية.
بقدر اتساع المجال العام تتأكد قوة النظم السياسية، وتتسع طاقتها على تعبئة أفضل ما في مجتمعها.
المسألة من أولها إلى آخرها أن تكون هناك قواعد دستورية وقانونية تحترم.
أخطر وجوه أزمة الحوار العام أن الدستور ذاته جرت تنحيته بقسوة، لا قيمه محل اعتبار ولا التزاماته تنفذ.
هذا شرخ فادح في الشرعية لا يصح التهوين من خطورته.
في تنحية الدستور تغييب لأي قواعد تحكم الأداء العام.
باليقين هناك جهود مضنية تبذل، غير أنها تفتقد أي خطة واضحة تحدد طبيعة أي أزمة وأفق حلها.
في أي مصارحة بالحقيقة لا توجد منظومة صحية على أي قدر من الاحترام لأبسط حقوق مواطنيها، ولا منظومة تعليمية على أي صلة بالعصر واحتياجاته، ولا منظومة عدالة وأمن تليق ببلد قام بثورتين.
بنية الدولة كلها متآكلة، وتحتاج إلى خطة عمل تعيد بناءها.
خطة العمل طويلة النفس شيء، ومداهمات كبار المسؤولين لمواضع الإهمال الجسيم شيء آخر تماما.
الأولى تدخل جراحي حاسم، والثانية علاج موضعي لمرض ينخر ويتفشى يبحث أحيانا عن «أكباش فداء».
في بداية حكم الرئيس «عبدالفتاح
السيسي»، طلب من وزرائه الحضور إلى مقار عملهم في السابعة صباحا.
كانت فكرته أن حجم العمل المطلوب يتطلب درجة الالتزام المعهودة في الجيوش المقاتلة.
لم تكن التجربة إيجابية ولا كان الوزراء مقاتلين.
بدت الحركة المفرطة بلا دليل عمل أقرب إلى المجهود العضلي بلا نظر إلى عوائده.
بمضي الوقت، تحولت الحركة إلى روتين لإثبات الوجود، دون مواجهة جدية لأغلب الملفات المتراكمة.
وبمضي الوقت، تحولت فكرة «الوزير البلدوزر» إلى عبء إضافي على الأداء العام.
دور المسؤول التنفيذي أن يخطط قبل أن يفتش، وأن يضع يده على مواطن الخلل الرئيسية قبل أن تستغرقه جولاته.
العمل التنفيذي هو بالأساس عمل سياسي.
هذه ليست مشكلة رئيس الحكومة المهندس «إبراهيم محلب» فقد اختير لمنصبه الرفيع باعتباره رجلا تنفيذيا ميدانيا من خبرته الطويلة في المقاولات العامة.
باستثناء وزير أو اثنين غاب الوزراء السياسيون تماما من المشهد، وهذا أفقر العمل الحكومي بفداحة.
وفق الدستور، فإن الحكومة هي «الهيئة التنفيذية والإدارية العليا للدولة»، وأول اختصاصاتها «الاشتراك مع رئيس الجمهورية في وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها».
لا شيء من ذلك قد حدث.
بصورة أو أخرى، عادت الحكومة إلى موقعها القديم كـ«سكرتارية للرئيس»، دون أن تكون هناك خطة عامة تضمن الحد الأدنى من التضامن الوزاري.
هذا من أسوأ التطورات السلبية التي تستدعى تصحيحا عاجلا، وإلا فإننا سوف نقرأ التاريخ ذاته في نسخة جديدة.
القضية الرئيسية إنفاذ الدستور ونقطة البدء تعديل القوانين المنظمة للانتخابات النيابية، حتى يكون هناك برلمان يمثل حركة المجتمع الحقيقية ويضطلع بصلاحياته في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية وتشكيل الحكومة وعزلها.
في تغييب البرلمان مصادرة لفكرة توازن السلطات وفق الدستور.
لا يمكن أن تتأسس دولة حديثة على رجل واحد.
هو يطلب الشراكة في تحمل المسؤولية، لكن أي شراكة تتطلب وحدة في التصورات على حدها الأدنى ووحدة أخرى في إرادة العمل.
بصورة رمزية أعرب الرئيس عن عدم رضائه على الأداء الحكومي، وأنه لم يرتفع إلى مستوى ما هو مطلوب منه.
أمام حشد عام تساءل الرئيس: «أين هو البلدوزر؟».
الإشارة كانت إلى رئيس الحكومة الذى كان قد وعده قبل الانتخابات الرئاسية بأنه سوف يمضى أمامه كـ«البلدوزر» يفسح الطريق ويزيل العقبات.
الرواية الرئاسية تستحق التوقف عندها من زاويتين.
الأولى، أنه لم يكن من حق المهندس «محلب» رئيس الحكومة المكلف من الرئيس الانتقالي المستشار «عدلي منصور» أن يتعهد بمثل هذا الكلام لمرشح محتمل، أيا كانت فرصه في تولى المنصب الرئاسي بأغلبية ساحقة.
إنها مسألة قواعد دستورية وقانونية خرقها يطعن بأن الحكومة لم تكن على الحياد في الانتخابات الرئاسية.
والثانية، أنه لم يكن مناسبا، بغض النظر عن الرأي في مستويات الأداء الحكومي، أن تجرى المساءلة الرئاسية على نحو علني، فالقواعد تقتضي أن تجري مثل هذه المساءلات في الغرف المغلقة، وإلا فإن الوظيفة العامة تفقد هيبتها.
بحكم أي قواعد بأي مكان في العالم، فإن السلطة التنفيذية تضامنية، والحساب له أصوله، فإذا كان الرئيس لا يرضى عن مستوى الأداء، فإن من حقه تغيير الحكومة.
المساءلة بهذه الطريقة تعمق من ظاهرة العزوف عن تقلد الوظائف العامة.
الرئيس نفسه اشتكى من هذه الظاهرة.
حسن النية متوافر لتحسين الأداء، لكنه لا يبرر ألا تكون هناك قواعد في عمل السلطة التنفيذية حتى تستقيم الأمور.
في الفجوة بين إرادة البناء وضباب السياسات يجد أي «بلدوزر» نفسه في مأزق.
يقف على أطلال الماضي، لكنه لا يرفعه، ويطل على المستقبل، لكنه لا يدخله.
لا يعرف موضعه على خريطة العمل، فهو يتحرك طوال الوقت دون أن يتوقف لينظر حوله ويرى فعله في سياق.
أمام أزمة مستعصية تعترض هذا البلد، فإنه يحتاج إلى فتح شرايين الحوار العام حتى لا تستنزف حركة البناء طاقتها ويخسر العمل المضنى إلهامه.
(بوابة الشروق المصرية)