في
حساب المثلثات فيما يتعلق بالفعل الثوري في ذاته وتوابعه؛ يجب أن نأخذ في اعتبارنا
ثورات ثلاث تتحرك وتتقاطع في وقت واحد وعلى الصعيد
ذاته؛ وهي
الثورة الأساسية وحمايتها، والمضادون
للثورة وتربصهم، وثورة التوقعات؛ ثورة التوقعات من الثورات المغفلة والمهملة رغم
أنها تتعلق بالشعوب وما أسميناه آنفا وعد الثورة.
الثورات
في هذا المقام تقع بين حالين؛ حال الإجهاد، وحال الإجهاض، وثورة التوقعات وتقاطعها
مع الثورات الأخرى تعد حملا خارج الرحم يحتاج لشروط عدة يمكن أن تؤثر على صحة الأم
الحاضنة والجنين الثوري المحتضن برعايتها، فتقاطع الثورات الثلاث شيء مهم جدا في إدراكه
والعمل له ضمن استراتيجيات كبرى تسير فيه الحركة وميزانها وتوازنها، ضمن عملية التقاطع
التي تشكل إدراكا معقدا لفعل الثورات ومراعاة تقاطعاتها وتفاعلاتها.
مع
ثورة التوقعات ومعاش الناس (السياسة معاش الناس) فإن الثورة الحقيقية الأساسية تحتاج
لأدوات لحماية نفسها، حتى لا يتم الالتفاف عليها أو محاولة حصارها، أو المبادرة إلى
فعل التربص لإجهادها. رصد
القوى المضادة للثورة التي تشكل مصالح النظام القديم والقوى
التي تحاول استغلال الأوضاع؛ أمر يحتاج إلى رصد لخرائط هذه القوى، ذلك أن الثورات المسماة
بالمضادة قد تنحني لريح الثورات وتدخل جحورها بصورة مؤقتة، إلا أنها في أول فرصة تخرج
من جحورها بعد تربص للانقضاض على قوى الثورة المختلفة بأشكال شتى ضمن أجهزة الدولة
العميقة القادرة على تبديد الحالة الثورية أو تشتيت انتباهها وتشتيت الأهداف، وتشتيت
المواقف ضمن صناعة الفوضى والفرقة.
المثلث
الثاني يتعلق بماذا حدث في الثورات
العربية؟ مثلث زلزال الثورات/ زلزال المضادين للثورة،
زلزال المواجهات وإجهاض الثورات/ زلزال الإنسانية، (خريطة الثورات العربية بين تزاحم
القضايا وإرهاق الثورات: مخاطر الاجهاد والإجهاض).
مع ثورة التوقعات ومعاش الناس (السياسة معاش الناس) فإن الثورة الحقيقية الأساسية تحتاج لأدوات لحماية نفسها، حتى لا يتم الالتفاف عليها أو محاولة حصارها، أو المبادرة إلى فعل التربص لإجهادها
من المهم
أن نؤكد بعد مرور أكثر من عقد على الثورات العربية أن الزلازل التي رافقت الثورات وأعقبتها،
تؤكد أن حدث الثورة لايزال في حاجة إلى النظر العميق والتحليل الدقيق.
كما أن
أخطرها تلك الرومانسية التي جعلت عملية التعاطي مع الحالة الثورية على نحو قد يفتقر
إلى اعتبار الواقع وإلى التقدير الصائب لأمور تفاعلت وتراكمت وتشابكت. بعض هذه
الرؤى جعلت هؤلاء من شباب الثورة وأهلها يتركون ميادين التأثير، كان ذلك أول خطأ تاريخي
لهؤلاء الذين حملوا هَمّ الثورة وأهدافها. إن هيمنة المجلس العسكري على سلطات الدولة
كان في ذلك الوقت هو الأمر الخطير الذي فتح الباب واسعا للتحكم في مجريات الأمور، كما
أن هذه الحالة الرومانسية انفتحت على نخبة تصورها البعض بشكل أو بآخر وكأنها تتبنى
تلك الحالة الثورية، ولم يكن بعض هؤلاء إلا من راكبي موجة الثورة، استطاعوا بشكل أو
بآخر أن ينحرفوا بمسارها وأن يجعلوا مساحات الثورة ميدانا لتصفية الحسابات فيما بينهم،
وظهر الاستقطاب وفيروساته في ساحات الحياة السياسية والحركة الثورية، ما أحدث قابليات
لفرقة مقيمة وانقسام عميق. ومن جملة انحطاط هذه الحالة أنها صدّرت خلافاتها واستقطاباتها
إلى قاعدة المجتمع وشبكة علاقاته الاجتماعية، فأصابتها في مقتل ونالت من تماسك الجماعة
الوطنية.
أما زلزال
الانقلاب، فقد توج لهؤلاء المضادين للثورة، ودشن سياسات غاية
في الخطورة ضمن منظومة انقلابية حاولت أن توجد لها أرضية جديدة، وتحاول تشويه الثورة
الحقيقية وأهدافها، وتحت دعوى حماية الدولة مع جوقة فريق الدولتية الذين يكررون على
مسامع الناس أن الدولة ومؤسساتها في خطر، ولم يتفهم هؤلاء أن الخطر الحقيقي لم يكن
إلا في سيطرة العسكر على مجمل الحياة المدنية والسياسية وعلى ساحات ومساحات المجال
العام، ومصادرة الفعل السياسي واغتصابه، وتقويض كل أشكال المقاومة والاحتجاج.
كان كل
ذلك وفق خطة ممنهجة تحول ذلك الانقلاب إلى نظام، وتحول كل ذلك إلى حالة فاشية بوليسية،
تزرع الخوف في كل مكان وتصنع حالات الكراهية بين كل مكونات المجتمع والجماعة الوطنية،
وبات كل شيء تحت السيطرة من نظام حاول شرعنة وجوده فلم يجد إلا بوابتين، بوابة الشفرة
الإرهابية، والبوابة الصهيونية التي تتمثل في حماية الكيان الإسرائيلي،
بين هذا وذاك فرض نظام الثالث من تموز/ يوليو في مصر شرعنته في محاولة لإضفاء حق على
غصبه وممارساته الباطشة القائمة على قاعدة الطغيان والاستبداد وفي دول عربية أخرى
كانت محلا لفعل ثوري؛ كانت هناك انقلابات مدنية كما في تونس، وصراعات داخلية وفرقة
اتخذت أشكال الحروب الداخلية في العديد من الثورات الأخرى.
كان أهم
مآلات وتوابع زلزال الانقلاب هي حالة الخوف التي شاعت، وتكميم الأفواه والاعتقالات
والمطاردات التي مورست بشكل يومي حتى صنعت جمهورية الخوف والبلطجة، وكانت محاولة شيطنة
تيار الإسلام السياسي وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين، بصناعة كراهية متعمدة لكل
ما هو إسلامي تحت دعوات شتى. تعلق ذلك بالمجازر التي حدثت في رابعة وأخواتها وما تبعها
من سياسات للترويع والتخويف، مما شكل حالة لا إنسانية خطيرة، وبدت بعض تبعات هذا الظلم
تمتد؛ حيث تعرضت القوى المختلفة -مدنية كانت أم إسلامية- لذلك البطش.
كل ذلك
كان له من التوابع الخطيرة والتي تمثلت في أمرين: الأول يتعلق بحالة الفرز الإنساني
التي زلزلت كثيرا من ركائز المجتمع، ومن هؤلاء الذين ظن كثير من الناس أنهم ضمن الطاقة
الثورية فإذا بهم ينقلبون عليها، مؤيدين هذا النظام الفاشي ومبررين له كل ما يتعلق
بقتله وظلمه واستبداده وازدياد مساحات طغيانه، فبات هؤلاء جميعا ضمن حالة كراهية متبادلة
وضمن أحوال من التحريض معلنة، تؤكد أن "إنسانية المجتمع" ذاته صارت على المحك
وأصبحت على حافة الخطر وفوهة الخراب والتخريب. أما الأمر الثاني فيتعلق بإلقاء بعض
هؤلاء المسؤولية فيما نحن فيه؛ لا على العسكر ولكن على الشعب ذاته، وصارت هذه اللعبة
التي تتعلق بهجاء الشعب وسبه لعبة مشتركة بين كافة الاتجاهات؛ وباعتبار أن التوابع
التي أعقبت هذه الزلازل قدمت حالة من حالات التخويف وخطاب مسكون بروح الانتقام وعمليات
التحريض على العنف من جانب النظام الفاشي في مواجهة معارضيه، ومن جهة أخرى انزلق بعض
هؤلاء إلى مواجهة عنف النظام بمحاولات عنف من جانبهم.
هذه هي
بعض التوابع للزلازل الثلاثة الكبرى التي أحدثت شروخا في الأبنية، بل وتهديم بعضها،
وأسهمت في تكريس بعض الأمراض النفسية الجماعية بين عناصر الجماعة الوطنية، وهو ما أدى
إلى حالة الإحباط التي نرى والجمود والركود الذي شاع، وهو ما حقق لنظم انقلابية رغم
ضعفها مكنة جعلتها تخرج رغم سياسات الفشل وحالة الضعف التي فيها؛ أقوى من ذي قبل، ولا
يزال تتقوى وتتمدد في مساحات فرقتنا وفراغنا في النشاط الحقيقي والفاعلية السياسية.
أما
حساب المثلثات الثالث فيقع فيما يسمى بالسياقات؛ السياقات كما أكدنا دائما وأبدا
منهج مأمون ومضمون. ومحاولة تحليل أو تفسير الفعل لا يمكن أن يكون في فراغ أو
مقتطعا من السياق؛ ومثلث السياقات الذي نشير إليه في فعل الثورات العربية يرتبط
بمشاريع تتدافع في المنطقة على رأسها مشروع الشرق الأوسط؛ الذي أشرنا إليه ليس
بكونه مفهوما جغرافيا عابرا؛ بل إنه مشروع حضاري متكامل تبنته الحضارة الغربية
واحتضنته، وشكلت له من الأدوات الوظيفية وعلى رأسها الكيان الصهيوني الذي كان من صنيعتها
وصناعتها. وبدا هذا المشروع يتجدد أو يتوسع أو يكبر ضمن مقاسات هذه الحضارة حتى
ابتكرت ما أسمته صفقة القرن، في محاولة السيطرة والهيمنة وتصنيع القابليات لها.
حاجة ماسة إلى رؤية تحاول تجميع عناصر متداخلة ومتعددة لتقديم رؤية شبكية للثورات العربية بعد مرور أربعة عشر سنة كاملة، ومن هنا ربما لا تجد المعلومات والأرقام والإشارات المباشرة إلى الثورات العربية المختلفة والمتنوعة في المنطقة، ولكن يمكن أن تجد رؤية تتعلق بمحاولة نظم ما يمكن تسميته "منهج النظر" للتعامل مع هذه الإشكاليات
وضمن
هذا السياق أكدنا أننا أمام مشروعين الشرق الأوسط والأمة الوسط، ومن ثم كان حال
الأمة هو الضلع الثاني في هذه المثلثات؛ الأمة وسياقاتها وعمليات التغيير، إنها
أمة الحضور والشهادة والشهود وأمة الخذلان والغثائية بلا حدود؛ أمة التداعي وبما
تمثله من قصعة، إلا أن السياقات في ضلعها الثالث لا تفقد بأي حال مستنفرات للنهوض
ومسارات للمقاومة وأدوات للتغيير؛ كان طوفان الأقصى وسياقات المقاومة الحضارية
الحية أهم صورها ومعامل قدراتها وممكناتها.
وفي
النهاية علينا أن نتوقف في حساب المثلثات بزوايا نظر ثلاث لفعل الثورات، ماضية
كانت أم حاضرة أم قادمة؛ أولها زاوية حادة وثانيها زاوية منفرجة وثالثها زاوية
قائمة. أما الزاوية الحادة فهي ترفض النظر إلى فعل الثورات بأنه يتلاشى أو تضيق
مساحاته، وأن الإحباط قد نال من أهلها وأن حال انزوائها عمل سيستمر ربما لعقود
قادمة؛ زاوية حادة؛ حدتها في ضيقها ضمن زوايا النظر. وثانيها زاوية منفرجة تتمثل
في خيال الثورات الحالم؛ فما لم نستفد من الخبرات الثورية السابقة ومراجعتها فإننا
بذلك نهدر المزيد من الدروس والقدرة على التعلم من عالم الأحداث الذي يحيط بنا. إن
انفراج الزوايا في النظر لا بد أن يسكن نفوسنا، مع إرادة التغيير واستلهام كل
عناصر التغيير الإيجابي القادم والعمل بفاعلية واقتدار؛ فتنفرج الأوضاع التي ضاقت
وتتسع
الرؤية التي حبست. ويأتي الفرج بالوعي الدافق والأخذ بعالم الأسباب والسعي
السديد في عالم الأساليب والمهارات والقدرات؛ ثم تأتي زاوية النظر القائمة بواجبات
وموجبات التغيير الفاعل والراشد؛ القائم والرافع والدافع.
تبدو
لنا في المحصلة من حساب مثلثات الثورات أننا في حاجة ماسة إلى رؤية تحاول تجميع عناصر
متداخلة ومتعددة لتقديم رؤية شبكية للثورات العربية بعد مرور أربعة عشر سنة كاملة،
ومن هنا ربما لا تجد المعلومات والأرقام والإشارات المباشرة إلى الثورات العربية المختلفة
والمتنوعة في المنطقة، ولكن يمكن أن تجد رؤية تتعلق بمحاولة نظم ما يمكن تسميته
"منهج النظر" للتعامل مع هذه الإشكاليات، وهو حتما يؤثر بعد ذلك في التعاطي
مع منهج التعامل ومنهج التناول، الرؤية هذه تتبنى معنى التفكير المركب الذي يشير إليه
"إدجار موران" حينما تحدث عن ضرورة التفكير بالمستقبل، وهي محاولة لمواجهة
التفكير الاختزالي والتبسيطي الذي يتسم بعدم القدرة على تمثل الوصل بين الواحد والمتعدد
والمشترك والمتنوع.
x.com/Saif_abdelfatah