قضايا وآراء

بين الجحيم والاستقرار.. تقييم قانوني لمشروع قرار مجلس الأمن بشأن غزة

محمود الحنفي
"إسرائيل شاركت فعليا في صياغة مسودة القرار، بهدف ضبط تفاصيل القوة بما يخدم مصالحها الأمنية"- جيتي
"إسرائيل شاركت فعليا في صياغة مسودة القرار، بهدف ضبط تفاصيل القوة بما يخدم مصالحها الأمنية"- جيتي
في أعقاب حرب إبادة شنتها اسرائيل استمرت قرابة عامين على قطاع، وأفضت إلى هدنة واتفاق لتبادل الأسرى، برزت الحاجة إلى ترتيبات جديدة لتفادي الانهيار الكامل في القطاع المنكوب. في هذا السياق، طرحت الولايات المتحدة مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى تشكيل "قوة استقرار دولية" (International Stabilization Force) تتولى إدارة غزة لمدة عامين، في مرحلة انتقالية "ما بعد الحرب"، وتعمل على حفظ الأمن وتسهيل تقديم المساعدات وإعادة الإعمار.

المشروع ليس معزولا عن السياق السياسي؛ بل يشكّل جزءا من خطة سلام أمريكية أوسع قُدّمت على مراحل، تشمل إنهاء حكم حماس في غزة، ونزع سلاح الفصائل، وإنشاء إدارة مدنية بإشراف دولي. تسوّق واشنطن هذا الطرح باعتباره ضرورة لا مفر منها، وذهبت أبعد من ذلك؛ إذ صرّح مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأمريكية بأن "الخيار الآخر هو الجحيم" (The alternative is hell) في حال فشل تمرير المشروع، ما يعكس توجها لفرضه باعتباره السبيل الوحيد لتجنّب حرب جديدة.

دول إقليمية كمصر وقطر والأردن ساهمت في توفير مناخ سياسي مواتٍ، وإسرائيل -رغم تحفظها التاريخي على نشر قوات أجنبية- وجدت، بشكل حذر، فيه حلا وسطا يُنهي حكم حماس دون أن تتحمل أعباء الاحتلال. ومع تصاعد التحديات الميدانية والسياسية، تثار تساؤلات: هل تمثّل هذه المبادرة فرصة لإنهاء الحرب على الأقل في الوقت المتوسط؟ أم أنها مقدّمة لتدويل الوضع وتحويل القطاع إلى كيان انتقالي خارج الإطار الوطني؟ هذا ما سيناقشه المقال في السطور القادمة.

الخوف الأكبر يتمثل في خلق شكل جديد من الوصاية، عبر استبعاد المشاركة الفلسطينية الفعلية وتكريس نمط فوقي في إدارة الشأن المحلي. إن أي تغييب للإرادة الشعبية أو استخدام القوة الدولية لفرض ترتيبات خارجية، سيفقد المهمة مشروعيتها، ويحوّلها إلى سلطة أمر واقع تُذكّر بتاريخ الانتداب

مشروع القرار الأمريكي بين الفصل السابع وحق تقرير المصير

يتأسس مشروع القرار الأمريكي بشأن غزة، إذا صدر تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، على المواد 39، و41، و42، والتي تمنح مجلس الأمن صلاحية اتخاذ تدابير ملزمة تصل إلى استخدام القوة لحماية السلم والأمن الدوليين. ويترتب على ذلك التزام قانوني على جميع الدول الأعضاء وفقا للمادة 25 من الميثاق، التي تنص على: "يتعهد أعضاء الأمم المتحدة بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها". وبالتالي، فإن أي قرار ينشأ بموجب هذا الفصل يُعد مُلزما من حيث المبدأ والنتيجة، ويمنح القوة الدولية المقترحة صلاحيات إنفاذ واضحة، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة عند الضرورة لتنفيذ ولايتها، وهو ما يُستدل عليه من عبارة "جميع التدابير اللازمة".

في المقابل، إن صدر القرار تحت الفصل السادس، المعني بالتسوية السلمية للنزاعات، لا يكون ملزما بنفس الدرجة، بل يُعتبر توصية، إلا إذا تضمّن صيغا تنفيذية صريحة. وفقا للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في قضية ناميبيا (1971)، قد تكون بعض قرارات مجلس الأمن ملزمة حتى دون الرجوع الصريح للفصل السابع، إذا استهدفت صون السلام الدولي، غير أن ذلك يظل مرهونا بصياغة القرار ورضا الأطراف.

أما من زاوية حقوق الفلسطينيين والقانون الدولي العام، فإن المادة 1(2) من ميثاق الأمم المتحدة، والمادة 1 المشتركة في العهدين الدوليين (الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، تؤكد جميعها على حق الشعوب في تقرير مصيرها. ويُعد هذا الحق من قواعد "jus cogens"، أي من القواعد الآمرة في القانون الدولي؛ التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها. بناء عليه، فإن أي ترتيب مؤقت لإدارة غزة لا يكون مخالفا للقانون الدولي، شريطة أن يكون وسيلة مرحلية تمهّد لممارسة هذا الحق، لا بديلا عنه.

وبخصوص نزع سلاح فصائل المقاومة، فرغم أن القانون الدولي لا يكرّس صراحة حق الشعوب في استخدام العنف، إلا أن قرارات الجمعية العامة مثل القرار رقم 3070 (1973) تعترف بشرعية كفاح الشعوب ضد الاحتلال الأجنبي. ويُقابَل هذا التفسير بقاعدة سيادة الدولة واحتكارها لاستخدام القوة، كما في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بالدفاع الشرعي. لذا، فإن المشروعية هنا تعتمد على السياق: إذا كان نزع السلاح جزءا من إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب من حقوقه، فهو مشروع، أما إذا فُرض دون ضمانات مقابلة، فقد يُعد انتقاصا غير مشروع من وسائل مقاومة معترف بها دوليا.

كذلك، يجب أن يلتزم أي انتشار دولي في غزة بالقانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقيات جنيف الأربع (1949) والبروتوكول الإضافي الأول (1977)، خصوصا في ما يتعلق بحماية المدنيين ومنع التهجير القسري، وحظر العقاب الجماعي. كما تنص اتفاقية لاهاي (1907) على حظر فرض السيادة الفعلية على أرض محتلة دون شرعية قانونية، وهو ما يجب أن تتجنبه أي قوة أممية تعمل في غزة، كي لا يُنظر إليها كقوة احتلال بحكم الأمر الواقع.

مخاوف تدويل الجمود أو إنشاء نظام وصاية جديد:

تُثار مخاوف جدّية من أن يتحوّل المقترح الأمريكي إلى أداة لتدويل حالة الجمود في غزة بدل حلّها، عبر إنشاء إدارة دولية مطوّلة تفصل غزة عن المسار الوطني الفلسطيني الشامل. إن تشكيل قوة بتفويض أمني وإنساني دون أفق سياسي واضح قد يُفضي إلى تحويل القطاع إلى كيان مستقل فعليا، تُلبّى فيه الاحتياجات اليومية لكن يُهمّش فيه حق تقرير المصير. هذا السيناريو -رغم نيّاته المعلنة- قد يمنح المجتمع الدولي ذريعة للتهرّب من معالجة قضايا الاحتلال الأوسع، ويعيد إنتاج مأزق الانقسام بطريقة مؤسسية دولية.

ومن جهة أخرى، الخوف الأكبر يتمثل في خلق شكل جديد من الوصاية، عبر استبعاد المشاركة الفلسطينية الفعلية وتكريس نمط فوقي في إدارة الشأن المحلي. إن أي تغييب للإرادة الشعبية أو استخدام القوة الدولية لفرض ترتيبات خارجية، سيفقد المهمة مشروعيتها، ويحوّلها إلى سلطة أمر واقع تُذكّر بتاريخ الانتداب. وفي حال طال أمد الانتقال أو أخفقت القوة في تحقيق الاستقرار، فقد تواجه مقاومة مجتمعية، وتُصنّف كطرف في النزاع، بما يهدد بتحوّلها إلى قوة احتلال دولي مرفوضة إقليميا وشعبيا.

مواقف الأطراف المعنية بهذه المشروع:

إسرائيل:

رغم تحفظها التقليدي على نشر قوات أجنبية قرب حدودها، أبدت إسرائيل هذه المرة مرونة مشروطة حيال فكرة القوة الدولية في غزة. تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الأخيرة أكدت بوضوح أن إسرائيل لن تقبل بترتيب دولي يُعيد حماس إلى الحكم في أي صيغة كانت، معتبرا أن أي قوة دولية يجب أن تضمن بشكل لا لبس فيه "نزع قدرة حماس على تهديد إسرائيل مجددا".

تشير التقارير إلى أن إسرائيل شاركت فعليا في صياغة مسودة القرار، بهدف ضبط تفاصيل القوة بما يخدم مصالحها الأمنية. وهي ترفض بشدة أن تكون للأمم المتحدة اليد العليا في الإشراف، وتُفضّل ترتيبات "تُنسّق بالكامل معها" دون إلزام برفع تقارير دورية لمجلس الأمن، لتجنّب رقابة دولية مشددة. كذلك عبّرت تل أبيب عن رفضها الصريح لمشاركة دول تعتبرها "غير صديقة" في هذه القوة، وعلى رأسها تركيا، معتبرة أن مشاركة أنقرة تُضعف صرامة التنفيذ وتفتح الباب أمام تساهل ميداني مع حماس.

في نظر إسرائيل، المقترح الدولي يحقق هدفا استراتيجيا مزدوجا: أولا، يُجنّبها عبء الاستنزاف العسكري في غزة، وثانيا، يمكّن جهة دولية من نزع سلاح الفصائل وضمان أمن حدودها الجنوبية. لكنها تريد ضمانات حاسمة بأن القوة لن تتحوّل لاحقا إلى كيان مستقل يقيّد حركتها أو يمنع تدخلها عند الحاجة.

روسيا والصين:

روسيا والصين تتعاملان بحذر تقليدي مع المبادرة الأمريكية بشأن غزة، نظرا لغياب التوازن في بعض الصياغات الأولية، وخصوصا استبعاد دور الأمم المتحدة كجهة مركزية. إلا أن المؤشرات الأخيرة -مثل تفاؤل واشنطن بإمكانية تمرير القرار دون فيتو- تعكس جهودا دبلوماسية مكثفة لاحتواء الاعتراضات، مع فتح قنوات تفاوض حول مضمون القرار. موسكو تركز على تضمين إشارات واضحة لدور الأمم المتحدة، واستمرار الأونروا، وضرورة التمهيد لحل سياسي شامل، بينما ترى بكين أن أي تدخل أممي يجب أن يتم بموافقة "الدولة الفلسطينية" ويحترم وحدة أراضيها.

الطرفان يسعيان على الأرجح لتعديل صياغة القرار بما يضمن الحد الأدنى من التوازن ويحفظ المعايير الدولية، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الغرب. الامتناع عن التصويت يظل خيارا مرجحا لموسكو وبكين، يوفّر لهما مساحة دبلوماسية للاحتجاج على غياب التوازن، دون استخدام الفيتو أو تعطيل الجهد الدولي لحل الأزمة.

الدول العربية والإسلامية:

في السياق الحالي، لا يبدو أن الدول العربية والإسلامية ستُبدي اعتراضا حادا على مشروع القرار، بل من المرجح أن تتعامل معه ببراغماتية وواقعية، باعتباره الخيار المتاح حاليا لتفادي كارثة إنسانية جديدة في غزة في ظل غياب بدائل حقيقية.

مصر، بحكم الجوار والدور التاريخي، تنسق عن كثب مع واشنطن وتدعم أي صيغة تحفظ أمنها الحدودي وتكرّس دورها السياسي. الأردن يشاركها الهواجس، فيما تنقسم دول الخليج في المواقف: السعودية والإمارات أقرب إلى تأييد مشروع يستهدف ضبط الوضع الأمني ونزع سلاح الفصائل، بينما تسعى قطر لضمان توازن سياسي لا يُقصي حماس ويضمن إعادة الإعمار. أما تركيا فأبدت استعدادا مبدئيا للمشاركة، رغم التحفظ الإسرائيلي، وتسعى لتوسيع مشاركة دول إسلامية لمنح المبادرة شرعية شعبية.

عموما، يبدو أن الدول العربية والإسلامية لن تعارض الخطة إذا ضمنت حماية الفلسطينيين ووفرت آليات دولية للرقابة والمحاسبة، مع التأكيد على ضرورة احترام السيادة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.

موقف السلطة الفلسطينية:
المشروع الأمريكي قابل للتطبيق تقنيا لكنه يفتقر إلى ضمانات جادة وعادلة، ولكي يكون أكثر إنصافا لا بد من وجود إدارة دولية مؤقتة تُدار بشراكة فلسطينية واضحة وتُربط بخطة زمنية لإنهاء الاحتلال وضمان حق تقرير المصير

في هذه المرحلة، لا تبدو السلطة الوطنية الفلسطينية في موقع يُمكّنها من الاعتراض المباشر أو فرض شروط حاسمة، لكنها تبقى منفتحة على أي تحرك دولي يعيد لها السيطرة على غزة. الموقف الرسمي الصادر عن رام الله يتسم بالحذر والترقب، إذ تُرحّب السلطة مبدئيا بأي قوة دولية بتفويض أممي، شرط أن لا تُقصى عن المشهد الانتقالي وأن تكون شريكة فيه على الأقل في المرحلة التالية. ورغم وضعها الداخلي غير المؤهل راهنا لتولي مسؤوليات فورية، تُدرك السلطة أن العودة إلى غزة عبر غطاء دولي قد يكون فرصتها الوحيدة. ولهذا، فهي تسعى، بهدوء ومن خلال قنوات عربية ودبلوماسية، إلى التأكيد على ضرورة أن تؤول إدارة المعابر والمؤسسات تدريجيا لها. من ناحية أخرى، تُلمّح تصريحات دبلوماسية إسرائيلية إلى إمكانية استخدام السلطة لاحقا كشريك في ترتيبات ما بعد الاستقرار.

حركة حماس والفصائل الأخرى:

 رسميا، لم توافق على هذه الترتيبات. فحماس التزمت الصمت العلني حيال التفاصيل خلال فترة وقف إطلاق النار، لكن المعروف أنها ترفض قطعيا نزع سلاحها أو التخلي عن حكم غزة دون ترتيبات تحفظ لها دورا سياسيا. سياسات الحركة تنطلق من اعتبار سلاحها مصدر قوة تفاوضية وضمانة لمنع تهميشها، وبالتالي يرجّح أن تنظر حماس إلى القوة الدولية المقترحة بعين الريبة، وترى فيها مشروعا أمريكيا-إسرائيليا لنزع سلاح "المقاومة" والقضاء على نفوذها تحت غطاء دولي. وقد تؤدي هذه النظرة إلى امتناعها عن التعاون مع القوة على الأرض.

هذا الموقف سيكون تحديا كبيرا؛ إذ بدون -على الأقل- هدنة أو تفاهم ما بين القوة الدولية وحماس، قد تبقى بذور الشك قائمة. ربما تراهن بعض الأطراف على أن هول الخسائر في الحرب يدفع حماس عمليا إلى الرضوخ وقبول التغيير، لكن ذلك غير مضمون. لذا على المجتمع الدولي الساعي لإنجاح الخطة أن يُبقي قنوات غير مباشرة مفتوحة مع قيادة حماس -عبر وسطاء مثل قطر أو تركيا- لنجاح هذا المشروع، وربما لبحث حلول وسط. إن التعامل الذكي معها قد يحوّل القضية من تهديد أمني إلى معضلة سياسية قابلة للحل بالتدريج، وهذا ما ستكشفه الشهور الأولى من نشر القوة إن تم.

بالنظر إلى المعطيات القانونية والسياسية، فإن المشروع الأمريكي قابل للتطبيق تقنيا لكنه يفتقر إلى ضمانات جادة وعادلة، ولكي يكون أكثر إنصافا لا بد من وجود إدارة دولية مؤقتة تُدار بشراكة فلسطينية واضحة وتُربط بخطة زمنية لإنهاء الاحتلال وضمان حق تقرير المصير.
التعليقات (0)

خبر عاجل