قضايا وآراء

الإخوان المسلمون بين التمَوْضُع والاقتلاع: قراءة في فشل النماذج وتجدد السؤال

ممدوح المنير
"إلى أين يذهب الإسلاميون بعد كل هذه التجارب"- الأناضول
"إلى أين يذهب الإسلاميون بعد كل هذه التجارب"- الأناضول

منذ سبعة عقود تقريبا، جُرّبت كل أشكال التموضع السياسي والفكري للإسلاميين، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، في مختلف الأقطار العربية؛ جُرّبت المعارضة والمصالحة، السرية والعلنية، الدعوية والسياسية، المشاركة والمقاطعة، ومع ذلك، لم ينجُ أي نموذج من الفشل في تحقيق الحماية الذاتية للحركة، أو الإسهام الفعّال في نهضة مجتمعاتها بشكل يتسم بالاستمرارية والثبات النسبي، بمعنى حدثت صحوات مجتمعية في فترات زمنية قصيرة ثم كان تغول السلطة ساحقا للقضاء على معظم هذه المكتسبات المجتمعية.

بكل تأكيد هناك نجاحات شعبية وفكرية وحتى سياسية لا تنكر، لكنّ المقال يناقش زاوية واحدة لا يتعدّاها، وهي قدرة الإسلاميين على "التصالح مع السلطة" لتحقيق مكاسب للحركة أو للمجتمع، لذلك المقال ليس معنيا بنقاش مدى النجاح أو الفشل في أي قضية أخرى.

في حالتنا هذه نجد تونس والمغرب واليمن والأردن والسعودية، كلها نماذج حيّة لما يمكن تسميته بـ"التموضع المأزوم"؛ فكل تجربة خاضت سباق البقاء ضمن حدود السلطة، لتكتشف في النهاية أن اللعبة محكومة مسبقا، وأن "من يعمل من خلال النظام" ينتهي غالبا جزءا من أدواته أو ضحية له.

أولا: نماذج التموضع السياسي.. من تونس إلى الخليج

المشكلة ليست في نجاح أو فشل التعايش مع النظام، بل في تركيبة الإسلامي الحركي نفسه؛ مهما قدّم من تنازلات، ومهما أظهر من ولاء، فإن طبيعته كتنظيم (منظّم، ذي شعبية، له توجه سياسي) تجعله تهديدا بنيويا للأنظمة القائمة

في تونس، وصلت حركة النهضة إلى حدٍ غير مسبوق من التنازل، دخلت معترك السلطة، وقدّمت تنازلات تحت شعار "الواقعية السياسية"، حتى صار بعض مشايخها يرقصون على المنصات الفنية باسم الانفتاح، بينما كانت جذور الحركة الفكرية تتآكل. انتهى المشهد بانقلاب ناعم أطاح بكل مكتسباتها، لتجد نفسها في مواجهة نظام استبدادي جديد أكثر تشددا مما سبق.

فبعد أن تصدّرت الحركة المشهد السياسي عقب ثورة 2011، حيث فازت بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات التأسيسية، أعلن الغنوشي في المؤتمر العاشر للحركة عام 2016 فصل العمل السياسي عن الدعوي، وقال إن النهضة "تحولت إلى حزب يعمل في الحقل السياسي فقط"، في محاولة لطمأنة خصومها العلمانيين.

لكن التنازلات لم تتوقف عند هذا الحد، فقد شاركت الحركة في حكومات ائتلافية، وقبلت بمساومات سياسية كثيرة، بل وصل الأمر إلى حدّ التطبيع الفعلي مع الواقع السياسي القائم. ومع ذلك، جاءت النتيجة صادمة: في 25 تموز/ يوليو 2021، أطلق الرئيس قيس سعيد ما أسماه "إجراءات استثنائية" جمّد فيها البرلمان وأنهى دور النهضة السياسي. واعتُقل راشد الغنوشي نفسه في نيسان/ أبريل 2023، في مشهد يُظهر أن كل التنازلات لم تشفع للحركة.

تجربة المغرب

أما في المغرب، فقد اختار حزب العدالة والتنمية طريق التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني، بزعم أنه "قرار سيادي" لا علاقة له بالحزب، إلا أن النتيجة كانت انهيارا انتخابيا ساحقا، أفقده شعبيته ورصيده الأخلاقي في آن واحد.

فبعد أن قاد الائتلاف الحكومي منذ 2011، وجد الحزب نفسه في موقف محرج عام 2020، عندما أعلن المغرب تطبيع علاقاته مع إسرائيل مقابل اعتراف أمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.

رغم أن رئيس الحكومة وقتها، سعد الدين العثماني، كان قد صرّح في آب/ أغسطس 2020 بأن "إقامة أي تطبيع مع الكيان الصهيوني لا يمكن إلا أن يصب في خانة دعم هذا الكيان المستعمر"، إلا أن حكومته وافقت على التطبيع في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه. هذا الموقف المتناقض أثار غضبا واسعا، حتى داخل الحزب نفسه، حيث طالب الأمين العام عبد الإله بنكيران؛ العثماني بالاعتذار للشعب المغربي.

جاءت النتيجة في انتخابات أيلول/ سبتمبر 2021 كارثية: خسر الحزب كل شيء تقريبا، فبعد أن كان يمتلك 125 مقعدا (31.6 في المئة من المقاعد)، حصل على 13 مقعدا فقط (3.3 في المئة)، حتى رئيس الحكومة العثماني خسر مقعده الانتخابي في الرباط. كانت رسالة الناخب المغربي واضحة: التنازل عن القضية الفلسطينية من أجل البقاء في السلطة ليس مقبولا، والتناقض بين الشعارات والممارسة لن يُغتفر.

تجربة اليمن

وفي اليمن، تحالفت قوى محسوبة على الإسلاميين مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فتحالف حزب الإصلاح مع مختلف القوى، بما في ذلك النظام السعودي في حربه ضد الحوثيين، ثم دعما لانقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر، وتأييدا لما سُمّي بـ"محور الاعتدال". لكنّ تلك التحالفات لم تحمهم من الإقصاء، بل جعلتهم أداة وظيفية في معارك إقليمية لمصالح غيرهم.

تجربة الأردن

أما في الأردن، فقد لجأ الإسلاميون إلى خطاب الموالاة الوطنية، ورفعوا شعار "الملك هو الوطن". ومع ذلك، لم ينلهم من النظام إلا التضييق والملاحقة، حتّى انتهى بهم المطاف إلى حظر الحركة واعتقال قيادتها واتهامهم بالإرهاب، وتضييق الخناق على أنشطتها.

النموذج السعودي

في السعودية ودول خليجية أخرى، تماهت الحركات الدعوية مع السلطة، فتبنّت خطاب "الطاعة" و"الدعوة بلا سياسة"، وانكفأت إلى العمل الوعظي، حتى تحولت إلى جماعات تبرّر الملكية الاستبدادية وتدعمها علنا.

لذلك ربما يكون النموذج السعودي هو الأكثر دلالة على عمق الإشكالية، فالإخوان المسلمون في السعودية لم يشفع لهم هذا النموذج الفريد في الولاء والطاعة للنظام الملكي. فلم تكن لهم مطالب سياسية علنية، ولم يشكّلوا تنظيما رسميا معارضا، بل على العكس، عملوا من خلال النظام، وتولى بعض قياداتهم مناصب حكومية مهمة، وامتنعوا عن أي شكل من أشكال الإزعاج أو القلق للسلطة.

فقد كانت السعودية لعقود أكبر حاضن للإخوان المسلمين بعد مصر، الدولة الأم للحركة، لكن في آذار/ مارس 2014، أصدرت وزارة الداخلية السعودية قرارا بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم إرهابي، إلى جانب تنظيم القاعدة وداعش وجبهة النصرة وحزب الله وجماعة الحوثي.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل جاء تصنيف أكثر دلالة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، عندما أصدرت هيئة كبار العلماء في السعودية بيانا اعتبرت فيه جماعة الإخوان المسلمين "جماعة منحرفة وإرهابية متطرفة عاثت في البلاد والعباد فسادا"، وأنها "لا تمثل منهج الإسلام". بل إن بعض المصادر تشير إلى أن الجماعة صُنّفت كثاني أكبر تهديد وجودي على المملكة بعد إيران أو تنظيم القاعدة.
 هكذا انهارت "العلاقة الرضائية" المثالية، وأُغلقت المساجد على خطباء كانوا بالأمس جزءا من منظومة التعليم الرسمية، وسُجن رموز أكاديميون وعلماء دون ذنب أو جريرة.

ثانيا: فشل معادلة "العمل من خلال النظام"

قد يُقال إن لكل تجربة خصوصيتها، وإن التعميم ظلم، وهذا صحيح نسبيا، فكل ساحة شهدت شدّا وجذبا، وطرائق مختلفة في التفاعل بين السلطة والحركات الإسلامية، لكنّ الخلاصة العامة واحدة: كل من حاول التموضع داخل النظام خرج خاسرا.

هذا النموذج يكشف حقيقة مُرّة: المشكلة ليست في نجاح أو فشل التعايش مع النظام، بل في تركيبة الإسلامي الحركي نفسه؛ مهما قدّم من تنازلات، ومهما أظهر من ولاء، فإن طبيعته كتنظيم (منظّم، ذي شعبية، له توجه سياسي) تجعله تهديدا بنيويا للأنظمة القائمة.

ثالثا: الإسلاميون في المواجهة.. الخسارة مع حفظ القيمة

في المقابل، لم تكن المواجهة المفتوحة أقل كلفة. ففي مصر أو سوريا أو فلسطين، دفعت الحركات الإسلامية ثمنا فادحا في الأرواح والمعتقلات والمنافي، ومع ذلك، حافظت على منظومة القيم التي تُبقي المجتمع حيا: قيم الصمود، والعدل والحرية والكرامة. تلك القيم انتقلت عبر نخب مؤمنة دفعت الثمن جيلا بعد جيل، لتبقى بذور التغيير حية حتى يأتي أوان جيل التحرير.

هنا، المفارقة الأخلاقية: النماذج التي واجهت لم تربح السلطة، لكنها أنقذت الوعي، بينما النماذج التي تصالحت خسرت الاثنين معا؛ الوعي والسلطة.

رابعا: جوهر المشكلة.. ليس في التموضع، بل في الهوية

المشكلة، في تقديري، أعمق من مجرد تموضع سياسي، إنها مشكلة بنيوية في النظرة إلى الإسلاميين ككيان منظم، ذي هوية دعوية وسياسية وشعبية. فأي كيان يجمع بين هذه الأبعاد الثلاثة -الدعوي والسياسي والشعبي- يصبح بحكم تعريفه تهديدا بنيويا لأي نظام استبدادي، مهما كانت درجة انفتاحه. فوجود "تنظيم" مستقل يملك قاعدة شعبية ورؤية سياسية بديلة هو أمر لا يمكن تحمّله داخل فضاء استبدادي يقوم على مركزية الفرد الحاكم.

لذلك، فإن أي محاولة للتعايش بين النظام والحركة الإسلامية هي مؤقتة بطبيعتها، فهي علاقة هشّة تنتهي بمجرد أن يستشعر النظام أن الكيان الإسلامي لم يعد مجرد أداة، بل مشروع بديل.

خامسا: الشكل الإسلامي المقبول

في المنظومة الإقليمية الحالية، لم يبق من "الإسلام المقبول" إلا النسخة الرسمية: الإسلام المدخلي، أو السلفية الطيّعة التي لا تتحدث في السياسة، وتعتبر طاعة ولي الأمر من أركان الإيمان، وتختزل الدين في مظاهر التعبد الفردي.

هذا هو الإسلام الذي ترعاه الأنظمة، لأنه لا يهددها، بل يمنحها شرعية دينية. أما الإسلام الحركي الذي يربط بين التوحيد والحرية، وبين العبادة والعدالة، فهو اليوم عدوٌّ معلن، يُصنّف كخطر وجودي حتى وهو في السجون أو المنافي.

سؤال المستقبل
هل يجب أن يكون بالضرورة عملا سياسيا تنظيميا؟ أم يمكن أن يكون عملا مجتمعيا وثقافيا وقيميا، يؤثر في المجتمع دون السعي للسلطة؟ هل يمكن أن توجد حركة إسلامية بلا تنظيم هرمي؟ وهل يمكن أن يكون لها تأثير سياسي دون أن تكون حزبا سياسيا؟

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: إلى أين يذهب الإسلاميون بعد كل هذه التجارب الفاشلة؟ هل يواصلون نفس المسارات، متوقعين نتائج مختلفة؟ أم أن الوقت قد حان لمراجعة جذرية لطبيعة علاقتهم بالسياسة، وبالدولة، وبالمجتمع؟

ربما يكون الحل في إعادة التفكير الجذري في معنى العمل الإسلامي نفسه: هل يجب أن يكون بالضرورة عملا سياسيا تنظيميا؟ أم يمكن أن يكون عملا مجتمعيا وثقافيا وقيميا، يؤثر في المجتمع دون السعي للسلطة؟ هل يمكن أن توجد حركة إسلامية بلا تنظيم هرمي؟ وهل يمكن أن يكون لها تأثير سياسي دون أن تكون حزبا سياسيا؟

هذه أسئلة لا تزال مفتوحة، وربما لن تجد إجابات سهلة. لكن ما هو مؤكد أن تكرار نفس التجارب، بنفس الأدوات، ونفس البنية، سيؤدي حتما إلى نفس النتائج. والتاريخ لا يرحم من لا يتعلم من دروسه.

خاتمة

إن الدرس الذي يجب أن يُستوعَب بعد كل هذه التجارب هو أن الرهان على الأنظمة الاستبدادية خاسر مهما طال الوقت، فكل من حاول "العمل من خلال النظام" انتهى إلى العمل لصالح النظام أو إلى الإقصاء الكامل.

المعركة ليست في التموضع، بل في البقاء أمينا على الفكرة الأصلية: فكرة أن الدين رسالة تحرّر لا أداة تبرير، وأن الإسلام لا يمكن أن يُختزل في طقوس معزولة عن قضايا الأمة وكرامتها.

إن الحركات الإسلامية أمام خيارين: إما أن تعيد تعريف ذاتها كقوة مجتمعية مستقلة تستمد شرعيتها من الناس وقيمها من الإسلام، أو أن تستسلم لمعادلة الإقصاء التدريجي حتى الذوبان الكامل.

وفي كل الأحوال، سيبقى الأمل معقودا على تلك النخب التي ترفض أن تموت قِيمها، وتؤمن أن طريق الحرية قد يطول، لكنه الطريق الوحيد إلى نهضة أمةٍ لا تزال تبحث عن نفسها.

للتواصل عبر تيليغرام:
t.me/Mamdouh_Almoner

التعليقات (0)

خبر عاجل