أجواء الهزيمة التي ألحقتها الثورة المضادة بأعظم
ثورة في التاريخ
المصري الحديث 25 كانون الثاني/ يناير 2011 كانت أشبه بمن ألقى
على القوى السياسية المصرية قنبلة جرثومية أظهرت حروقا وتقيحات شديدة في سلوك
المصريين بعضهم البعض، ما نتج عنه انقسامات شديدة داخل التيار الواحد وانقسامات
مماثلة أو أشد بين التيارات المختلفة (إسلامية- ليبرالية- يسارية- ناصرية)، نتج
عنها حالة غير مسبوقة من الاستقطاب السياسي الحاد، حيث أصبح المعسكران
المؤيد والمعارض شديدي التشاحن ووصل حد العداء.
هذا العداء أدى إلى تفكك العديد من التحالفات
والائتلافات السياسية، بما في ذلك تلك التي كانت تتشارك مع بعضها في عمل جبهوي واسع
قبل الثورة (الحملة الدولية ضد الهجمة الصهيوأمريكية على فلسطين والعراق) نموذجا، وقد
استمرت فعالياتها ومؤتمرها السنوي ثمانية أعوام متصلة قبل أن يضيق بها النظام ذرعا
ويمنعها في 2009.
كذلك ساهمت
عمليات
القمع السياسي الممنهج والتشديد على المعارضة بعد
الانقلاب، حيث قامت السلطات بتكثيف حملات القمع ضد المعارضة، سواء داخل مصر أو في
الخارج. هذا القمع شمل اعتقال الرموز السياسية، تقييد النشاط السياسي، وملاحقة
المنظمات الحقوقية. هذه السياسات أسهمت في تقليص القدرة على التنسيق الوطني الفعال.
يسود شعور عام بأن النظام المصري يواجه تحديا وجوديا، فهو يواجه مجموعة معقدة من الأزمات والمشاكل البنيوية التي تتطلب حلولا شاملة ومتكاملة لا يمتلكها النظام وربما غير مقتنع بها أصلا أو مدرك لأهميتها
بمرور
الوقت وغياب الأفق تضاءل الدعم الشعبي للثوار وتراجعت وتيرة الاحتجاجات،
وانحسر دعم العديد من الفئات الشعبية للثوار والمعارضين للنظام بعد الانقلاب، سواء
بسبب القمع أو بسبب التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها البلاد. وهذا أيضا
أضعف من حركة التنسيق بين القوى الوطنية.
ساهم الدعم الدولي والإقليمي للنظام المصري بعد
2013، خاصة من قبل بعض الدول العربية الكبرى والدول الغربية، ساعد في بقاء النظام.
هذا الدعم أدى إلى تقليل فرص نجاح المعارضة الوطنية في بناء تحالفات فعالة على
الساحة الدولية.
وهناك الافتقار إلى رؤية موحدة، حيث تعددت وجهات نظر
الرموز الوطنية المعارِضة حول كيفية التعامل مع الوضع بعد الانقلاب، سواء كان من
خلال الاستمرار في العمل الثوري أو الانخراط في عملية سياسية ضمن إطار النظام. هذا
عزز من تفكك العمل الوطني وأدى إلى حالة من الإحباط، خاصة في وسط
الأجيال الشابة ما أدى إلى إحباطها وعزوفها عن المشاركة في المجال العام.
هذه العوامل مجتمعة أسهمت في تراجع فعالية العمل
الوطني الجبهوي بين الرموز الوطنية في مصر.
ما الجديد؟
يسود
شعور عام بأن النظام المصري يواجه تحديا وجوديا، فهو يواجه مجموعة معقدة من
الأزمات والمشاكل البنيوية التي تتطلب حلولا شاملة ومتكاملة لا يمتلكها النظام
وربما غير مقتنع بها أصلا أو مدرك لأهميتها.
هذه الأزمات
ليست منفصلة بل متشابكة، حيث تؤثر الأزمة الاقتصادية على الأوضاع الاجتماعية
والسياسية، والعكس صحيح. بدون إصلاحات جذرية وفي ظل امتعاض الإقليم من سوء الإدارة
على كافة الأصعدة وفي كافة الملفات؛ صار من الصعب استمرار الدعم اللامحدود الذي
كان يتلقاه النظام على مدى اثني عشر عاما، ورغم ذلك يميل البعض إلى أن أخطر أزمات
النظام مرتبطة بالتوترات المستمرة بينه وبين عدد من المؤسسات السيادية وأن عمليات
الترقيع التي يقوم بها فشلت في نزع فتيل الأزمة.
تشير بعض التقارير إلى ظاهرة في سلوك
النظام المصري متمثلة في تكرار الإطاحة بأعداد كبيرة من القيادات الوازنة داخل
الوزارات السيادية؛ كان آخرها الإطاحة بالفريق
أسامة عسكر في تموز/ يوليو 2024. أجرى
السيسي تغييرات جوهرية في القيادة العسكرية،
شملت إقالة وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي، ورئيس الأركان الفريق أسامة عسكر،
ورئيس المخابرات العامة اللواء عباس كامل. وتم تعيين الفريق عبد المجيد صقر وزيرا
للدفاع، والفريق أحمد فتحي خليفة رئيسا لأركان القوات المسلحة.
تعددت التفسيرات حول دوافع هذا التغيير، فأشار
بعض المحللين إلى وجود خلافات بين السيسي وبعض قيادات الجيش بسبب قضايا تتعلق
بالأمن القومي، مثل التعامل مع ملف سد النهضة، والتوترات على الحدود الشرقية مع
إسرائيل نتيجة الحرب في غزة. كما أُثيرت تساؤلات حول دور شخصيات مثل إبراهيم
العرجاني وتأسيس "اتحاد القبائل العربية" في سيناء، وتأثير ذلك على
العلاقة بين القيادة السياسية والعسكرية.
تتحدث بعض الكتابات الغربية عن اختلال التوازنات داخل النظام، الوزارات السيادية عادة ما تكون
موزعة بين قوى ومصالح مختلفة، والتغييرات المتكررة قد تؤدي إلى اختلال هذه
التوازنات، مما قد يفتح المجال لصراعات داخل النظام نفسه، فضلا عن التأثير على
الأمن والاستقرار.
يعزز هذا الرأي ما يتداول همسا في دوائر
عدة حول أسباب إقالة رئيس المخابرات العامة المقرب من السيسي اللواء عباس كامل،
والتي يؤكد البعض أنها كانت ترضية للمجلس العسكري على خلفية إقالة الفريق أسامة
عسكر؛ المغضوب عليه بسبب حديثه السلبي عن السيسي وسوء إدارته لعدد من الملفات
أثناء اجتماعه بمسؤول رفيع لدولة وازنة في الإقليم، والقصة فيها تفاصيل أكثر لا
يتسع المجال لذكرها. هذه الحالة التي باتت عليها الأوضاع في مصر دفعت بعض الوطنيين
من أبناء النظام للبحث عن مخرج.
الوطنيون الغاضبون من النظام:
بداية
لا أميل إلى الآراء والتصورات العدمية التي ترى أن كل مؤسسات الدولة فاسدة
ومتواطئة، ورغم ذلك يمكن أن أتفهم هذا التوصيف العام للمؤسسة، لكن الذي لا أستطيع
تقبله هو اعتبار كل من داخل هذه المؤسسات فاسد ومتآمر. شخصيا أعرف العديد من
الأشخاص داخل مؤسسات سيادية يتمتعون بالنزاهة والحس الوطني، وإذا سنحت لهم الفرصة
سيكون لهم دور فاعل ومؤثر في نجاح عملية التغيير المنشودة، وفي الحديث: من قال هلك
الناس فهو أهلكهم (بفتح الكاف وضمها).
الغاضبون
صنفان: الأول ما زال على رأس العمل وغالبية هؤلاء من القيادات الوسطى وكتلتهم
كبيرة لكن تأثيرهم ربما أقل، الصنف الثاني القيادات العليا في المؤسسات السيادية
الذين أطيح بهم لأسباب متعددة وساءت علاقتهم بالنظام ويتطلعون إلى اليوم الذي يرد
إليهم اعتبارهم؛ هؤلاء تأثيرهم كبير ولا يحتاجون إلى من يحفزهم، وهم يعرفون جيدا
كيف يصبحون طرفا مؤثرا وفاعلا في مسار التغيير في مصر.
أصبح توحيد التيار الإسلامي الوسطي العام في إطار سياسي جامع ليس مجرد خيار تكتيكي، بل هو ضرورة استراتيجية لضمان تأثيره وفاعليته في المشهد السياسي، وحمايته من التشرذم والتهميش، وتعزيز دوره في تحقيق الإصلاحات التي ينادي بها
من أين نبدأ؟ البداية
بالتيار الإسلامي العام.. ضرورة استراتيجية
حرص النظام وأجهزته الأمنية على تأجيج
الانقسامات داخل التيار الإسلامي لتهميشه أو عزله، حتى يسهل عليه استئصاله وتفكيكه
وقد نجح في ذلك إلى حد كبير، مما ساهم في انفضاض الناس عنه القريب قبل البعيد.
من هنا أصبح توحيد التيار الإسلامي
الوسطي العام في إطار سياسي جامع ليس مجرد خيار تكتيكي، بل هو ضرورة استراتيجية
لضمان تأثيره وفاعليته في المشهد السياسي، وحمايته من التشرذم والتهميش، وتعزيز
دوره في تحقيق الإصلاحات التي ينادي بها.
هذا التيار يشمل طيفا واسعا من القوى والشخصيات المؤثرة ذات
التوجهات المتقاربة، ولكن الاختلافات التنظيمية والمواقف السياسية أدت إلى تشتت
الجهود. وجود مظلة جامعة يساعد في توحيد الصف وتقليل التناحر الداخلي، مما يعزز
قوة التيار ككل، كما أن الكتل الكبيرة أكثر قدرة على التأثير في صناعة القرار.
يحتاج هذا التيار إلى إعادة تقديم نفسه إلى قواعده وكتلته الصلبة
في قالب مختلف وبنفسية مغايرة، فضلا عن تقديمه لخطاب سياسي كرجال دولة وليسوا
كمجموعة من المشاغبين. لن يستطيع هذا التيار استعادة حاضنته الشعبية دون أن يقدم
لهم خارطة طريق ومسارا واضحا لما سيقوم به في المرحلة المقبلة، ولا يتوقع هذا التيار
أن يتم الترحيب أو الحفاوة به قبل أن يقدم إشارات وأمارات واضحة على أنه استوعب
الدرس وأنه قادر على إدارة هذا الصراع بالأدوات التي تناسبه.
قد يتطلب هذا الأمر بعض الوقت قبل
الذهاب إلى الخطوة التالية التي تجمع القوى الوطنية المصرية بكل أطيافها في إطار
عمل جبهوي ومظلة وطنية جامعة، لكن لا بأس من ذلك فالآمال المعقودة على هكذا تحرك
كبيرة وكبيرة جدا.
ملاحظة مهمة:
أخشى أن يُحمل كلامي هذا على غير محمله أو أن يعتبره البعض نوعا من
أنواع الإقصاء للقوى الوطنية الأخرى أو الزهد فيها، بل العكس هو الصحيح باعتبار أن
الخطوة التالية مباشرة هي العمل على تأسيس مظلة أوسع تسع كافة القوى الوطنية، لكن
بغير خطوة تجمع الإسلاميين ما الذي سيعود على القوى الوطنية من التحالف أو التنسيق
مع تيار ممزق ومنقسم على نفسه وتتنازعه أطراف عدة ويسود بينهم الشحناء والبغضاء؟
لذلك كان التسلسل الطبيعي والمنطقي هو العمل على التئام هذه الكتلة البشرية
الفاعلة حتى تصبح إضافة حقيقية.