مع انقشاع غبار الحرب في قطاع
غزة ودخول وقف
إطلاق النار حيز النفاذ يوم الأحد 19/01/2025، يُؤمل أن تدخل فرق تحقيق دولية إلى
قطاع غزة لتوثيق النتائج الكارثية لحرب الإبادة التي استمرت 15 شهرًا. فما تناقلته
وسائل الإعلام وما أصدرته منظمات دولية من تقارير لا يعبر عن حجم المأساة
الحقيقية، لذا من المهم تواجد فرق التحقيق على الأرض لمعاينة وجمع الأدلة للاعتماد
عليها بشكل رئيسي في قضية الإبادة المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، ولمساعدة
المحكمة
الجنائية الدولية في توجيه الاتهام لمزيد من القيادات العسكرية والسياسية
المتورطة في جريمة الإبادة.
نحن في سباق مع الزمن في ظل تهديدات نتنياهو
بالعودة إلى القتال بعد انتهاء المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، مما يُحتِّم
على القضاء الدولي التسريع في الملاحقة والمحاسبة. لكننا نشهد تباطؤًا من قبل
المحكمة الجنائية الدولية في اتخاذ الإجراءات اللازمة؛ فقد توقفت المحكمة عند
المصادقة على مذكرات القبض بحق نتنياهو وغالانت قبل شهور، ولم تتخذ أي إجراءات
أخرى، على الرغم من أن قائمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة والضفة
الغربية طويلة.
بطء الإجراءات والتلكؤ في ملاحقة كل
المسؤولين عن ارتكاب الجرائم في قطاع غزة وعموم الأراضي
الفلسطينية المحتلة يعود
لأسباب مختلفة، أهمها تعرض المحكمة لضغوط سياسية وتهديدات لا تخفى على أحد. وهذا
يستدعي من الفاعلين في المجتمع الدولي العمل على تشكيل محكمة دولية خاصة على غرار
محاكم يوغسلافيا ورواندا للعمل بشكل ناجز، متحررة من الضغوط، وتتمتع بقدرات
وكفاءات أعلى تجعلها قادرة على النظر في الكم الهائل من الجرائم المرتكبة.
نحن في سباق مع الزمن في ظل تهديدات نتنياهو بالعودة إلى القتال بعد انتهاء المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، مما يُحتِّم على القضاء الدولي التسريع في الملاحقة والمحاسبة. لكننا نشهد تباطؤًا من قبل المحكمة الجنائية الدولية في اتخاذ الإجراءات اللازمة؛ فقد توقفت المحكمة عند المصادقة على مذكرات القبض بحق نتنياهو وغالانت قبل شهور، ولم تتخذ أي إجراءات أخرى، على الرغم من أن قائمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة والضفة الغربية طويلة.
ولا تقل القضية المرفوعة أمام محكمة العدل
الدولية، التي تتهم فيها جنوب إفريقيا إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية،
أهمية عن الملاحقة الجنائية للأشخاص. ومع مضي أكثر من سنة على رفع القضية وتباطؤ
الإجراءات، تواجه المحكمة مشكلة أخرى تتمثل في استقالة القاضي نواف سلام من رئاسة
المحكمة وإمكانية شغل المنصب من نائبته المساندة لإسرائيل، مما يهدد بزيادة عملية
التباطؤ والتأخير في تحديد جلسات الاستماع.
استقالة القاضي نواف سلام بعد تكليفه بتشكيل
الحكومة اللبنانية تسلط الضوء على منصب الرئيس الذي أصبح شاغرًا، وريثما يتم
انتخاب رئيس دائم، يشغل المنصب بشكل مؤقت القاضية الأوغندية جوليا سيبوتيندي (70
عامًا)، المعروفة بانحيازها الأعمى لإسرائيل.
عملت السيدة جوليا كقاضية في المحكمة منذ
عام 2012 حتى أصبحت نائبة لرئيس المحكمة في عام 2024، لتكون أول امرأة إفريقية
تتبوأ هذا المنصب الرفيع. والأصل في انتخاب القضاة أن يكون بناءً على خبرتهم
ومؤهلاتهم، لكن العوامل السياسية والجغرافية غالبًا ما تلعب دورًا مهمًا في
اختيارهم.
خلال عملها في المحكمة، لم تسلط عليها
الأضواء كثيرًا لجهة نزاهتها وحيادها، سوى أنها أول امرأة إفريقية تتبوأ هذا
المنصب. جاءت من قارة أنهكها الاستعمار، وارتُكبت فيها المذابح ونُهبت ثرواتها،
ولا تزال بعض دول هذه القارة تعاني من الاستعمار بالوكالة من حكام فاسدين يمارسون
مهنة الانقلابات العسكرية وتبديد ونهب ثروات البلاد. فكان مؤملًا أن تلعب دورًا من
خلال المحكمة في إرساء قيم العدالة ليسود السلم والأمن في هذا العالم الذي يموج
بالصراعات والمنازعات.
ذهبت هذه الآمال أدراج الرياح عندما تصدت مع
قضاة آخرين لقضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، حتى
أصبحت تتصدر عناوين الأخبار بسبب آرائها التي سطرتها ضد قرارات المحكمة ورأيها
الاستشاري في عدم مشروعية
الاحتلال، التي صادقت عليها المحكمة. حيث تبنت رأيًا
غريبًا وشاذًا مستمدًا من معتقدات دينية وقصص تاريخية مزورة.
من يقرأ آراءها المطولة يجد أنها قضت وقتًا
طويلًا في تطويع مبادئ القانون الدولي بطريقة تناسب هواها ومعتقداتها. ويُخيَّل من
النتائج المشوهة التي توصلت إليها أنها كانت تجول بين أساطير دينية كالتي يروج لها
عتاة الصهيونية الدينية، والتي لا يعترف بها نظام المحكمة أو القانون الدولي الذي
تحتكم إليه في فض المنازعات، بل يجرمها. ناهيك عن أهمية القضية التي تنظرها، كونها
تتعلق بخطر حقيقي يهدد وجود جماعة قومية على أرضها.
بمقارنة رأيها في القضية المعروضة مع رأيها
عندما نظرت في التدابير الاحترازية التي أصدرتها محكمة العدل الدولية في قضية
الإبادة الجماعية التي رفعتها أوكرانيا ضد روسيا، نجد القاضية جوليا وباقي القضاة
نظروا في الأدلة المعروضة وأنزلوا عليها حكم القانون دون التطرق إلى أي عامل ديني
أو أبعاد سياسية بارزة في القضية، واتخذوا قرارهم فيها باعتبارها عدوانًا محضًا من
دولة ضد دولة ذات سيادة.
كان أول التدابير الاحترازية التي فرضتها
المحكمة ووافق عليها أغلبية القضاة، بما فيهم القاضية جوليا، هو وقف إطلاق النار
الذي يجرد روسيا مما تدعيه حق الدفاع عن النفس ووقف تمدد "النازيون
الجدد" الذين تدعي روسيا أنهم ارتكبوا مذابح بحق مواطنين أوكران من أصل روسي.
على العكس تمامًا كان موقف القاضية جوليا في
قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل. فعلى الرغم من خطورة
الموقف، لم تتضمن التدابير الاحترازية التي قررتها المحكمة وقف إطلاق النار، وكان
هذا خطأ جسيمًا وقعت فيه المحكمة، يدلل على أن بعض القضاة غلبتهم سياسة دولهم
الداعمة لإسرائيل.
القاضية جوليا، ومع خلو التدابير الاحترازية
من تدبير وقف إطلاق النار، رفضتها جملة وتفصيلًا، متجاهلة الحقائق والأدلة التي
تحويها أوراق الدعوى وأحكام القانون الدولي الإنساني. وظهر جليًا في مطالعتها رفض
كافة التدابير الاحترازية ومعارضة صدور الرأي الاستشاري، أنها تستند إلى عقيديتها
الدينية وخلفياتها السياسية، إضافة لتزويرها الحقائق لتناسب تسبيبها لما خلصت إليه.
في قرار المحكمة الصادر بتاريخ 26/01/2024،
والذي تضمن 6 تدابير احترازية (15 قاضيًا مقابل 2)، رفضت القاضية جوليا التدابير
الستة، حتى منها ما يدعو إسرائيل إلى السماح بتدفق كافة المساعدات الإنسانية.
والغريب أن القاضي المعين في المحكمة عن إسرائيل، أهارون باراك، وافق على تدبيرين
هما التدبير الثالث الداعي إلى إلزام إسرائيل باتخاذ كافة الإجراءات لمنع التحريض
على ارتكاب الإبادة، والتدبير الرابع الداعي إلى إلزام إسرائيل بتدفق المساعدات
الإنسانية.
من أجل بيان مدى تشبعها بعدم الحياد
وإيمانها المطلق بحق إسرائيل في فعل ما تشاء، ذكرت في رأيها بشكل حاسم، ودون أي
تحقيق، ارتكاب الفصائل الفلسطينية جرائم شنيعة، منها الاغتصاب وقتل الأطفال. في
حين أنها، عندما تطرقت لما يعانيه سكان قطاع غزة، لم تشر إلى أي أرقام أو أحداث
بعينها، معتبرة أن ما أوردته جنوب إفريقيا من وقائع مناقض للحقيقة، وأن المحكمة في
هذه المرحلة غير مختصة للفصل بها، منكرة، خلافًا لرأي الأغلبية، أن الأدلة
المعروضة تشي باحتمال ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
استقالة القاضي نواف سلام بعد تكليفه بتشكيل الحكومة اللبنانية تسلط الضوء على منصب الرئيس الذي أصبح شاغرًا، وريثما يتم انتخاب رئيس دائم، يشغل المنصب بشكل مؤقت القاضية الأوغندية جوليا سيبوتيندي (70 عامًا)، المعروفة بانحيازها الأعمى لإسرائيل.
أيضًا عارضت القاضية جوليا التدابير
الاحترازية الإضافية الثلاث (13 قاضيًا مقابل 2) التي تضمنها القرار الصادر بتاريخ
24/05/2024 بعد هجوم إسرائيل على رفح. ويبدو أن القاضي أهارون باراك تعلم منها،
فمن غير المعقول أن تكون هي أكثر صهيونية منه، فانضم إليها بالرفض، بل وتراجع عن
التدابير التي وافق عليها في القرار الأول، عندما عارض التدبير الأول الذي يؤكد
على التدابير الاحترازية التي اتخذتها المحكمة في قرارها الصادر في يناير.
بعد مرور أربعة أشهر على قرار المحكمة
الأول، لم تغير جوليا رأيها، على الرغم من تضاعف أعداد الضحايا وتوسع عملية
التدمير والتجويع. بل أمعنت في تجاهل هذه الحقائق، مشيرة إليها بأنها "أزمة
إنسانية معقدة"، في حين أسهبت في شرح معاناة الإسرائيليين بالأرقام وأحداث
محددة أدت إلى إصابات وعمليات قتل محدودة، ودخول لاعبين جدد مثل جماعة الحوثي على
خط الصراع، وتصاعد عمليات حزب الله في الجنوب، ما يبرر، حسب رأيها، رفض طلب
التدابير الاحترازية بالتوقف عن اقتحام رفح.
لا يمكن وصف مطالعتها في هذا القرار والقرار
السابق إلا بأنها دعوة لسفك الدماء؛ فهي تؤيد استمرار العمليات العسكرية من أجل أن
تحقق إسرائيل أهدافها. وحسب رأيها، "إن وقف العمليات العسكرية يهدد أمن
وسلامة 100 رهينة تحتجزهم منظمة حماس الإرهابية"، في حين أثبتت الأدلة
وباعتراف رسمي من جيش الاحتلال أن العمليات العسكرية أدت إلى مقتل العديد من
الأسرى.
في الرأي الاستشاري الصادر بتاريخ
19/07/2024 عن المحكمة والمتعلق "بالعواقب القانونية الناجمة عن سياسات
وممارسات إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية"،
وخلافًا لرأي أغلبية القضاة الذين اعتبروا أن الاحتلال غير شرعي ويجب أن يتم
تفكيكه، اعتبرت أن المحكمة ما كان ينبغي لها إصدار الفتوى ابتداءً، كونها ستزيد من
تعقيد المشكلة بتحايلها على الإطار التفاوضي المتفق عليه بين منظمة التحرير
وإسرائيل. ووجهت سهام نقدها لزملائها القضاة، كاشفة هذه المرة بشكل واضح وجلي عن
معتقداتها الدينية المستمدة من العهد القديم وتعاليم وشروحات النصوص الدينية
والحفريات الأثرية التي تعود إلى 3 آلاف عام مضت وتثبت وجود "أمة
يهودية"، نافية وجود شيء اسمه فلسطين.
"تم العثور على
العديد من القطع الأثرية، بما في ذلك الفخار والأختام والنقوش، في جميع أنحاء
إسرائيل ويهوذا. توفر هذه القطع الأثرية دليلًا على وجود مجتمع مستقر ومتعلم يشارك
في التجارة والزراعة والحكم. يقدم الكتاب المقدس العبري (العهد القديم) روايات
مفصلة عن تاريخ إسرائيل وثقافتهم وحكمهم خلال هذه الفترة. في حين أن هذه النصوص
ذات طبيعة دينية، إلا أن العديد من العلماء يعتبرونها وثائق تاريخية قيمة… تدعم
هذه الأدلة الأثرية والنصية والتاريخية مجتمعة وجود الشعب اليهودي وسكنه المستمر
في إسرائيل القديمة خلال الفترة من 1000 إلى 586 قبل الميلاد."
تخيلوا معي أن نزاعًا رُفع أمام أي محكمة في
هذا العالم، باستثناء إسرائيل حول ملكية عقار من قبل طرف حول ملكية عقار، فقام هذا
الطرف بإبراز نص ديني في كتاب مقدس يدعي أنه يثبت ملكيته لهذا العقار قبل مئات
السنين ، بينما الطرف الآخر أبرز عقودًا رسمية موثقة أصولًا من الدوائر المختصة مع
شهادة ملكية عقارية. فماذا سيكون رد فعل القاضي؟ اعتقد انه سيأمر بإيداعه في مشفى
مجانين او سيأمر بحبسه لتحقيره المحكمه وإضاعة وقتها.
تناقض القاضية نفسها وهي تسرد في مطالعتها
المخالفة ما يثبت شرعية دولة إسرائيل بالاستناد إلى وعد بلفور وقرار التقسيم، وفي
نفس الوقت تنكر حقوق الفلسطينيين المثبتة في الوعد والقرار. وتمتد في مغالطاتها
إلى الضفة الغربية والقدس التي تعتبرها أراضي متنازع عليها وليست محتلة، وأن
لليهود حقًا فيها، وتتجاهل كل قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة التي تؤكد أنها
أراض محتلة.
وبسبب معتقداتها الدينية، أصيبت بعمى
البصيرة شأنها شأن عتاة المستوطنين، حيث لجأت إلى تزوير التاريخ لتطويعه خدمة لهذه
المعتقدات، فألقت باللوم على العرب منذ الانتداب وحتى اليوم. فهم الذين، حسب
رأيها، رفضوا كل الحلول التي طُرحت عليهم لتقاسم الأرض والعيش بسلام مع جيرانهم
اليهود، معتبرة كل العمليات الإرهابية التي شنتها العصابات الصهيونية والحروب التي
شنتها إسرائيل ذات طبيعة وقائية للدفاع عن النفس.
على مدار المناقشات في كافة جلسات المحكمة،
تمسكت القاضية برأيها باعتبار أن هذا صراع أيديولوجي، سياسي لا مكان لحله في أروقة
المحاكم. رغم ما عُرض عليها من أدلة وإثباتات شاهدها العالم أجمع، تُظهر كيف أن
آلة الحرب الإسرائيلية تفتك بالبشر والشجر والحجر في إبادة منهجية مخطَّط لها
بعناية، راح ضحيتها عشرات الآلاف بين شهيد وجريح، وتدمير مدن بأكملها، وتهجير أكثر
من ثلثي المواطنين.
لا يمكن لقاضية مسكونة بتخرصات وأساطير
دينية أن تجلس على كرسي الحكم لتحكم بالعدل بين الدول. فمكانها الطبيعي للتعبير عن
معتقداتها الدينية هو معبد أو حزب أو منظمة إجرامية كجيش الاحتلال لتكون جندية أو
ضابطًا تشارك في مثل هذه المذابح. فمن الظلم لمهنة القضاء ولأعلى سلطة قضائية
أُوكلت إليها مهمة الفصل في المنازعات بين الدول حفاظًا على السلم والأمن
الدوليين، أن يقودها إنسان موتور لا يؤمن بالأمن والسلام وقدسية الحياة.
في كل الأحوال، المطمئن أنه أيًا كان من
يشغل رئاسة المحكمة فإن القرارات تُتخذ بالأغلبية، ورأينا أن القرارات المذكورة
اتخذت بأغلبية ساحقة، ولم يكن لها أي تأثير في تمرير القرارات. لكن في بعض الأحيان
يكون صوت رئيس المحكمة مهمًا إذا كان هناك انقسام ويحتاج تمرير القرار إلى صوته
المرجح، وهذه حالة غير متوقعة في معظم القضايا.
لكن المقلق في انتخابها كرئيسة، وضمن
صلاحياتها كمشرفة على اللجان الفنية في المحكمة، أنها قد تلعب دورًا في إبطاء
الإجراءات وتعقيدها وتأخير جلسات الاستماع. وقد يصل الأمر، نظرًا لتطرفها، إلى
تسريب مناقشات أو وثائق سرية عن سير القضية. لذلك، يجب على قضاة المحكمة ألا
ينتخبوا قاضية تعتنق فكرًا متطرفًا لتتبوأ مثل هذا المنصب الرفيع. فهناك تناقض
صارخ بين مهمة المحكمة في فض المنازعات بين الدول وتحقيق الأمن والسلام، ومهمة
التيار الذي تنتمي له هذه القاضية، وهو زرع الفوضى وإذكاء الحروب وإراقة الدماء.
لذا، يجب عزلها ابتداءً ومنعها من شغل منصب رئيس المحكمة.