يحيي
التونسيون الذكرى السنوية 14 للثورة في
14 من يناير (كانون الثاني) 2011، عندما غادر الرئيس زين العابدين بن علي البلاد
هاربا، بعد موجة مسيرات شعبية متصاعدة، انطلقت في 17 كانون أول (ديسمبر) 2010،
احتجاجا على الأوضاع الاجتماعية الصعبة، وغياب العدالة الاجتماعية وتفاقم الفساد،
ورفضا للدكتاتورية والاستبداد التي مارسها النظام على مدى أكثر من عقدين.
عاشت تونس ثورتها بكل نجاحاتها وخيباتها،
بانتصاراتها وانكساراتها، وكانت تتقدم حينا وتتعثر أحيانا، من دون أن تتوقف، حتى
لو بدا ظاهريا أنها استقرت على حالة من الركود في السنوات الأخيرة، على اعتبار
أنها ديناميكية مستمرة.
فهل أوقفت حركة الرئيس قيس سعيد الانقلابية
على المسار الديمقراطي في 25 من تموز/ يوليو 2021 بإلغائه الدستور وحل البرلمان
المنتخب وحل الحكومة المنبثقة عنه، مسار
الثورة والانتقال الديمقراطي في تونس؟
أخرجت المؤسسات الدولية المتخصصة في
الديمقراطية تونس في 2022 ولأول مرة منذ الثورة من الدول المصنفة
"ديمقراطية" وصنّفتها ضمن نادي الأنظمة الهجينة، التي عادة ما تجنح
للاستبداد والحكم الفردي ولكنها تبقي على مؤسسات شكلية كديكور ديمقراطي بما في ذلك
الانتخابات. ويعود تراجع التصنيف إلى ما أقدم عليه قيس سعيد في 25 تموز/ يوليو
2021، من تقويض للمؤسسات المنتخبة، وجمع كل السلطات والصلاحيات بين يديه، وإدارة
البلاد عبر المراسيم، دون أي مؤسسات رقابية، في سابقة لم تحدث في تونس منذ حصولها
على الاستقلال. ويمثل هذا التراجع السياسي في المشهد التونسي، جزءا من العثرات
والانكسارات الذي تعيشه الثورة.
على الرغم من أن الانقلاب يبدي جموحا متزايدا للتمدد والتسلّط، عبر ملاحقة معارضيه المدافعين عن مكتسبات الثورة، وتراوح هذا الجموح بين عمليات الاختطاف والاحتجاز التعسفي، وبين افتعال قضايا جنائية وإرهابية ومالية ضد العشرات من معارضي الانقلاب، تحت عناوين ملفات الفساد المالي والتآمر على الأمن القومي، إلا أنه جموح ينحسر وينكفئ في كل مرة، تحت الاحتجاجات والحملات المضادة للمعارضين وهبّة النشطاء الحقوقيين..
في الوقت الذي يحيي فيه التونسيون ذكرى
ثورتهم، التي كانت منعرجا ليس في التاريخ التونسي الحديث والمعاصر وحده، بل في
تاريخ منطقتنا العربية برمتها، متطلعين لاستعادة زخمها وألقها والمحافظة على
مكتسباتها، جرت كما يقال مياه كثيرة تحت الجسر، كلها تعزز فكرة استمرار الثورة،
وأنها لم تقل كلمتها الأخيرة بعد:
أولا ـ كان لافتا أنه منذ اليوم التالي
للانقلاب في 25 تموز/ يوليو وإلى اليوم تعيش تونس على المستوى الشعبي والسياسي،
حراكا معارضا أخذ أشكالا متعددة ومتنوعة، ولم يتوقف، في مواجهة سلطة الأمر الواقع
من أجل لجمها والحد من استيلائها غير الدستوري على السلطة، ثم محاولتها التمدد
السلطوي في الفضاء العام. وكما يمارس نظام الحكم
سياسة الأمر الواقع تغلبا، مارس
النشطاء والقوى السياسية والمجتمعية حقها في التعبير والنقد والاحتجاج دون خوف ولا
رهبة من السلطة، شعارها في ذلك "مارسوا حقوقكم وحرياتكم ولا تطالبوا بها"،
وهو شعار يعود رفعه لحقبة معارضة نظام زين العابدين بن علي.
وعلى الرغم من أن الانقلاب يبدي جموحا
متزايدا للتمدد والتسلّط، عبر ملاحقة معارضيه المدافعين عن مكتسبات
الثورة، وتراوح هذا الجموح بين عمليات الاختطاف والاحتجاز التعسفي، وبين افتعال
قضايا جنائية وإرهابية ومالية ضد العشرات من معارضي الانقلاب، تحت عناوين ملفات
الفساد المالي والتآمر على الأمن القومي، إلا أنه جموح ينحسر وينكفئ في كل مرة،
تحت الاحتجاجات والحملات المضادة للمعارضين وهبّة النشطاء الحقوقيين، الذين سفّهوا
الكثير من القضايا المفتعلة، والملفات الملفقة. ولقد انتقل المحامون في العديد من
المناسبات إلى الواجهة، ليحوّلوا مرافعاتهم في كل قضية إلى محاكمة لنظام حكم الأمر
الواقع وإدانة ممارساته. وضخّ مسار الثورة على امتداد عشر سنوات قبل انقلاب 25
تموز/ يوليو، في المجتمع وبنية المنظومة السياسية، ثقافة سياسية ووعيا عاما
تحرريا ممانعا، لا يساوم أو يقبل التضييق أو سلب الحقوق والحريات العامة. وقد جعل
موقف قطاعات واسعة من المحامين ومن القضاة ومن والإعلاميين والكثير من نشطاء حقوق
الإنسان والنقابيين، فضلا عن العديد من القوى السياسية، جعل منهم فرسان الدفاع عن
الثورة ومكتسباتها، ورفض عودة الاستبداد والتسلط.
ثانيا ـ رغم الغموض والالتباسات الكثيرة
التي تلف حيثيات انقلاب 25 تموز يوليو 2021، وما تبعه من جدل، حيث اعتبره البعض
انقلابا ورأى فيه آخرون تصحيح مسار، إلا أن كل ذلك لا يمنع من وضعه كحدث رغم
خطورته، ضمن مسار الثورة، بإنجازاته وخيباته. وما أقدم عليه قيس سعيد من انقلاب،
هو بمنظور الثورة ومسارها، أشبه باغتيال شكري بلعيد في 6 شباط/ فبراير 2013 أو
محمد الإبراهمي في 25 تموز/ يوليو من العام نفسه. وهو بالتالي حلقة من حلقات
استهداف مسار الثورة وليس انكسارا لها. لذلك لا يجرؤ قيس سعيد نفسه على إعلان طي
صفحة الثورة، بل إن سرديته اليوم تقوم على الزعم من أن ما يفعله هو تصحيح لمسار
الثورة.
ثالثا ـ حققت تونس بثورتها تحولا نوعيا في
الثقافة السياسية الديمقراطية، وعيا مواطنيا، وتشبعا بالحريات وحقوق الإنسان،
وثقافة ديمقراطية لا تزال بعض ملامحها الأساسية صامدة رغم الاستهداف الممنهج لها
من قبل الانقلاب. وقد تحولت حرية التعبير إلى حالة ذهنية ثابتة، كجزء من هوية
الشخصية التونسية.
وبقدر الحديث عن "الدولة
العميقة"، فإنه يجوز بالقدر نفسه الحديث عن ثقافة سياسية ديمقراطية عميقة،
ومجتمع يستجمع دوما عوامل المقاومة والصمود. وتمثل هذه العوامل اليوم حصونا منيعة
في وجه الاستبداد الشامل والتحكم الكامل الذي تنزع له السلطة. قد تبدو هذه الحصون
المجتمعية في وجه الاستبداد والتحكم هشة ورخوة، ولكن سرعان ما تستعيد حيويتها
وتنتظم أشكالا من المقاومة المتعددة والمتنوعة. وقد فعلت ذلك في عهدي بورقيبة وابن
علي. ونحسب أنها اليوم أكثر صلابة ومناعة وأكثر جاهزية للمقاومة. ولئن نجح نظام
ابن علي بعد انقلابه في 1987 في ضبط المشهد العام وتحكّم فيه على مدى 23 عاما
كاملة، فإن منظومة 25 تموز/ يوليو 2021، تبدّد زخمها في زمن قياسي يقاس بالأشهر.
واستهلك الانقلاب رصيده وشعاراته الشعبوية، وخابت رهاناته، وانكشف حالة مأزومة
تعاني من عزلة سياسية وفشل اقتصادي اجتماعي غير مسبوق.
رابعا ـ من المؤشرات البارزة على روح
المقاومة والتمسك بمكتسبات الثورة ورفض الانقلاب، محطة الانتخابات الرئاسية التي
جرت في 6 تشرين أول/ أكتوبر 2024. ففي وقت راهن فيه قيس سعيد على أن تكون هذه
الانتخابات فرصته لخروج نظامه من قوقعة الانقلاب التي وسمت حكمه بعد الخامس
والعشرين من تموز/ يوليو 2021، وافتكاك شرعية انتخابية، حوّل معارضو الانقلاب
والنشطاء هذه المحطة الانتخابية إلى مناسبة أخرى لإشهاد الرأي العام الوطني
والدولي بأن هذه سلطة الأمر الواقع في البلاد تفرض نفسها أمرا واقعا تغلبا، وليس
عبر الشرعية الانتخابية أو عملية سياسية تعددية.
وكما اختارت العديد من القوى السياسية موقف
المقاطعة للانتخابات الرئاسية وعدم المشاركة فيها، باعتبارها فاقدة للشروط الدنيا
لمنافسة حرة ونزيهة وديمقراطية، وقد أكدت الوقائع صحة توقعاتهم، اختار معارضون
آخرون محاولة المشاركة في المنافسة الانتخابية الرئاسية لإحراج نظام الحكم واختبار
ردة فعله تجاه من قرروا المشاركة. وقد أبدى النظام حالة من الخوف والفزع
والارتباك، بسبب وجود مترشحين جديين منافسين له، فبادرت السلطة إلى قطع الطريق على
ترشحهم، وأقصتهم تباعا في مذبحة انتخابية، تابعها التونسيون والرأي العام الدولي،
وهم مصدومون من حالة الهلع والارتباك والخوف التي انتابت السلطة، ومن عملية الإقصاء لهؤلاء المرشحين وإيداع بعضهم
السجن، وافتعال قضايا جنائية وانتخابية ضد آخرين.
وبدل أن تكون انتخابات 6 أكتوبر فرصة لتعزيز
الشرعية وتجديدها، تحوّلت إلى محطة نضالية ومقاومة للسلطة، أثبت خلالها المعارضون
عبر مسارين متكاملين في المشاركة والمقاطعة، أنها لم تكن بأي شكل من الأشكال
انتخابات حقيقية أو تنافسية، وإنما عملية جرت هندستها لترسيخ سلطة الأمر الواقع.
انتخابات شكلية أُعلن فيها فوز قيس سعيد بأكثر من 90 بالمائة من الأصوات، دون أن
يخوض حملة انتخابية، ولا أن يطرح برنامجا انتخابيا. فخرج قيس سعيد بتلك النسبة
المشينة بصورة أكثر تضررا وشرعية أكثر هشاشة وتآكلا.
إن ثورة تونس التي تحررت بها البلاد من الخوف والاستبداد رغم ما طرأ عليها من تعثر، وأضاءت شعلتها الأركان المظلمة في المنطقة العربية قبل أكثر من عقد، أطلقت ديناميكية لا تتوقف للتحرير والتغيير. ديناميكية اندفعت حينا إلى الأمام وانكفأت أحيانا إلى الوراء، لكنها لم تتوقف ولم تنطفئ جذوتها، ولم يخبو لهيبها.
خامسا ـ اللافت أن تونس التي كانت الرائدة
قبل 15 عاما، في إطلاق موجة ثورات تاريخية للربيع العربي، وألهمت الشعوب العربية،
انتفاضات شعبية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة، تحيي ذكرى ثورتها اليوم، بالتزامن مع
نجاح تاريخي للثورة السورية التي امتدت كفاحا ومقاومة لأكثر من 14 عاما، في إسقاط
أعتى الأنظمة العربية طغيانا ودموية وتوحشا. وهو انتصار ترددت ولا تزال أصداؤه ليس
فقط في سوريا وإنما في كل المنطقة والعالم. فانتصار الثورة السورية بإسقاط نظام
بشار الأسد، لا يمثل اليوم انتصارا لسوريا فقط إنما للمنطقة جمعاء. فسوريا الثورة
التي استلمت شعلة ثورة الربيع العربي من مهدها في تونس، وبما لها من وزن إقليمي،
وأهمية استراتيجية، إنما تعيد لربيع العرب جذوته وزخمه، استئنافا بعد انحناء،
وتقدم بعد تعثر. والمؤكد أن تونس ذات الروابط التاريخية والعلاقات الروحية بالمشرق
العربي، وقلبها السوري، ستلتقط هذه اللحظة التاريخية السورية، وتقرأها لحظة ملهمة،
وحافزا للتوثب من أجل الإصلاح والتغيير.
إن ثورة تونس التي تحررت بها البلاد من
الخوف والاستبداد رغم ما طرأ عليها من تعثر، وأضاءت شعلتها الأركان المظلمة في
المنطقة العربية قبل أكثر من عقد، أطلقت ديناميكية لا تتوقف للتحرير والتغيير.
ديناميكية اندفعت حينا إلى الأمام وانكفأت أحيانا إلى الوراء، لكنها لم تتوقف ولم
تنطفئ جذوتها، ولم يخبو لهيبها.
عندما نراقب ما يعتمل في صفوف التونسيين من
جدل بشأن الحالة السياسية، والمبادرات السياسية والمجتمعية التي لا تتوقف، بل
تتوسع، وتعبر عن نفسها جبهات وتنسيقيات، وعرائض لرجال القانون والقضاة والمحامين،
والإعلاميين والحقوقيين، والحركات الشبابية، يعمّق القناعة بأن الطلب على تغيير
النظام السياسي الحالي في تزايد وتصاعد، كما أن أداءه الاقتصادي والاجتماعي لا
يبدو قادرا على الاستجابة لاستحقاقات التنمية والعدالة الاجتماعية.
قد يضطر نظام قيس سعيد بعد تمنّع لسنوات،
للمبادرة إلى إطلاق عملية سياسية، سعيا لاحتواء تداعيات الخيبات المتلاحقة التي
مُني بها النظام وما يعانيه من انحسار متسارع لشعبيته، وللتغطية على الأزمة
الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد، وأيضا محاولة احتواء تداعيات الثورة
السورية، خاصة وهو النظام الذي عمل على استعادة العلاقة بنظام بشار الأسد وساهم في
محاولة تأهيله داخل جامعة الدول العربية. بيد أن الخشية أن هذه العملية السياسية
لن تتسم بالجدية الكافية، وستكون مجرّد التفاف على مطالب الإصلاح الديمقراطي الجدي
والحقيقي، الذي يستوجب جرأة وقراءة دقيقة للمشهد، لا يبدو أن الحكم الحالي يدركهما.
*كاتب
وباحث.. مدير المركز المغاربي للبحوث والتنمية