قضايا وآراء

ترامب وتحديات الرئاسة الثانية

جمال قارصلي
ستحتاج إدارة ترامب إلى التكيف مع معطيات الواقع الجديد، والعمل بحنكة للتغلب على القيود التي تفرضها "الدولة العميقة" والضغوط الداخلية والخارجية.. الأناضول
ستحتاج إدارة ترامب إلى التكيف مع معطيات الواقع الجديد، والعمل بحنكة للتغلب على القيود التي تفرضها "الدولة العميقة" والضغوط الداخلية والخارجية.. الأناضول
إنَّ أغلب التقارير الإخبارية والتحليلات حول انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد/القديم، دونالد ترامب، تعطينا انطباعًا بأنَّ الرئيس المنتخب سيعود إلى البيت الأبيض وفي يده عصا سحرية يستطيع بواسطتها تحقيق كل سياساته وطموحاته متى شاء وكما شاء، دون أن يقف في وجهه شيء. ولكن بالمقابل، يتم تجاهل كل التحديات والتعقيدات الداخلية والخارجية الهائلة التي ستواجهه والتي لا يمكن تجاوزها بسهولة.

صحيح أنَّ الرئيس الأمريكي يتمتع بسلطات واسعة وإمكانيات كبيرة، إلا أنَّ النظام السياسي الأمريكي، كدولة مؤسسات، يقيّد قدرة الرئيس على تنفيذ أجندته، خاصة عندما تتعارض هذه الأجندة مع مصالح مؤسسات أخرى كالبنتاغون والكونغرس والمخابرات ولوبيات الضغط واستراتيجيات الدولة العميقة. إضافةً إلى ذلك، هناك قضايا دولية هامة تتطلب تعاملًا حساسًا ومتوازنًا مع قوى عالمية كالصين وروسيا وإيران، فضلًا عن ملفات إقليمية معقدة في الوطن العربي وتركيا وأوروبا.

صحيح أنَّ الرئيس الأمريكي يتمتع بسلطات واسعة وإمكانيات كبيرة، إلا أنَّ النظام السياسي الأمريكي، كدولة مؤسسات، يقيّد قدرة الرئيس على تنفيذ أجندته، خاصة عندما تتعارض هذه الأجندة مع مصالح مؤسسات أخرى كالبنتاغون والكونغرس والمخابرات ولوبيات الضغط واستراتيجيات الدولة العميقة.
من أهم هذه التحديات المنافسة الاقتصادية مع الصين ومسألة تايوان؛ حيث تُعد الصين واحدة من أبرز الملفات التي قد تواجه الرئيس المنتخب ترامب. فالعلاقات الأمريكية-الصينية تزداد توترًا بسبب عدد من القضايا، من بينها تايوان التي تعتبرها الصين جزءًا من أراضيها وترى في أي دعم أمريكي لها تهديدًا مباشرًا لوحدتها الوطنية. في ولايته السابقة، شدَّد ترامب سياسات المواجهة الاقتصادية مع الصين، ففرض تعريفات جمركية على البضائع الصينية، ولكن التحديات المقبلة ستكون أكثر تعقيدًا، حيث يجب على ترامب التعامل مع مسألة تايوان بحذر، لأن أي تصعيد في هذا الملف قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع الصين، وهو أمر ستكون له تداعيات كبيرة على الاقتصاد العالمي والأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادي.

أما التحدي الأكثر تعقيدًا فهو الصراع العربي ـ الإسرائيلي؛ حيث الحرب الدائرة في غزة ولبنان وعمليات الدمار والتهجير والمجازر اليومية التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، إضافة إلى تعنت نتنياهو في عدم إيقاف الحرب الدائرة هناك لأنه يعلم بأن مصيره السياسي سينتهي مع نهاية هذه الحرب. ومن المعروف أن الرئيس المنتخب ترامب هو من أكبر داعمي إسرائيل، وما اتخذه في ولايته الأولى من مواقف مجحفة وغير مسبوقة بحق الشعب الفلسطيني، من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، إلى طرح ما يُعرف بـ "صفقة القرن"، تشكل تحديًا صعبًا سيواجهه ترامب في محاولته إعادة إحياء عملية السلام مجددًا، خاصة إذا ما أراد تحسين علاقاته مع الدول العربية التي لا تزال تدعم حقوق الشعب الفلسطيني. علاوةً على ذلك، فقد تصاعدت المطالب الدولية لإيجاد حل عادل ومستدام للصراع، وهذا يتطلب موقفًا أكثر توازنًا وإنصافًا من الرئيس الأمريكي القادم، وكما يُقال بأن العدل هو سيد الأحكام، والحل العادل هو الذي يجلب السلام.

أما بالنظر إلى التحديات التي ستواجه ترامب مع نظام الأسد وميليشيا "قسد" في سوريا، فإن الملف السوري يمثل معضلة معقدة لأي رئيس أمريكي، حيث كان ذلك واضحًا عندما أعلن أنه يريد سحب كل القوات الأمريكية من سوريا، لكن بسبب معارضة بعض أعضاء حكومته لم يستطع تنفيذ ذلك بالكامل، واقتصر الأمر على انسحاب جزئي مع إبقاء قوات صغيرة في مناطق النفط، مع تقديم الدعم الإضافي لقسد في شمال شرق سوريا. في ولايته الجديدة، سيواجه ترامب تحديًا معقدًا في التوفيق بين الضغوط الداخلية لإنهاء التواجد العسكري الأمريكي في سوريا، وضرورة احتواء النفوذ الإيراني والروسي هناك. كما قد يواجه ضغوطًا من حلفائه الإقليميين في تركيا الذين يرون في "قسد" تهديدًا لأمنهم القومي. ومن المحتمل سيوافق ترامب على قيام تركيا بعمليات عسكرية جديدة في شمال سوريا، مثل عملية "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام" سابقًا، لتأمين كامل الحدود السورية-التركية والسيطرة على منطقة "روجافا"، وهو الاسم الذي أطلقته "قسد"، ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا.

التحديات التي ستواجه ترامب في علاقته مع إيران معقدة ومتشابكة وتبدأ بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران الذي قرره في ولايته الأولى، وكيفية التعامل مع طموحات إيران النووية دون التورط في حرب مباشرة. إذ أن العقوبات وحدها لم تثنِ إيران عن مواصلة تطوير برنامجها النووي، وحتى العمليات العسكرية التي قامت بها إسرائيل قبل أيام قليلة لن تنهي البرنامج النووي الإيراني بشكل كامل. من الأرجح أن يواصل ترامب اتباع موقف صارم تجاه إيران، وهو ما يتماشى مع أهداف بنيامين نتنياهو الذي يسعى إلى إضعاف إيران ووكلائها في المنطقة. ومن المرجح أن يمنح ترامب نتنياهو حرية التصرف في مواجهة إيران والقيام بعملية عسكرية أكبر لتدمير البنية التحتية للبرنامج النووي الإيراني، هذا إن لم يستغل نتنياهو المرحلة الانتقالية للقيام بهكذا عملية عسكرية ما بين يوم إعلان نتائج الانتخابات ويوم تسليم الرئاسة للرئيس المنتخب الجديد في 20 كانون الثاني / يناير 2025.

التحديات مع روسيا والحرب على أوكرانيا هي إحدى العقبات الكبيرة في المرحلة الرئاسية الثانية لترامب؛ فالعلاقات الأمريكية-الروسية دائمًا ما تكون محورية في السياسة الخارجية الأمريكية، وملف أوكرانيا سيبقى على رأس هذه التحديات. منذ بداية الحرب الروسية-الأوكرانية في 2022، تعهدت الولايات المتحدة بدعم كييف، وأصبحت المسألة قضية أمن قومي لأوروبا والغرب بأسره. إذا حاول ترامب تخفيف الدعم لأوكرانيا أو تقليص العقوبات على روسيا، فقد يواجه معارضة شديدة من الكونغرس والحلفاء الأوروبيين الذين يرون في هذا الدعم ضرورةً لاحتواء التوسع الروسي. كما أنَّ تخفيف الضغط على روسيا قد يعرّض الرئيس لانتقادات شديدة داخليًا.

من المرجح أن يسعى ترامب لإجبار أوكرانيا وروسيا على وقفٍ لإطلاق النار على طول الخطوط الأمامية الحالية. وقد تتضمن هذه التسوية اعترافًا بالمكاسب الإقليمية الروسية منذ عام 2014، بما في ذلك ضم شبه جزيرة القرم والمناطق التي تحتلها روسيا منذ عام 2022. بالإضافة إلى ذلك، قد يدعم ترامب مطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستبعاد انضمام أوكرانيا إلى الناتو، ولكن هكذا اتفاقيات سترفضها القيادة الأوكرانية بشكل قاطع. وقد تؤدي شكوكه تجاه الناتو إلى ممارسة ضغط على الحلفاء الأوروبيين للقبول باتفاق مع بوتين، وقد يهدد ترامب بالانسحاب من التحالف. أضرار الغزو الروسي على أوكرانيا أصبحت تقاس بالترليونات إلى جانب الآلاف من الضحايا والدمار والتهجير.

وحتى ألمانيا تعاني بشكل كبير من تبعات هذه الحرب، ومن إحدى الأضرار غير المباشرة لهذه الحرب هو سقوط حكومة المستشار الألماني أولاف شولتس، حيث ستذهب ألمانيا إلى انتخابات مبكرة في مطلع العام القادم والسبب في ذلك هو العبء المالي الكبير على الاقتصاد الألماني وعدم اتفاق أعضاء الائتلاف الحاكم، أو ما يسمى ب"ائتلاف إشارة المرور"، على طريقة تمويل ميزانية العام القادم 2025، لأن الحزب الليبرالي يرفض أخذ القروض الإضافية من البنوك لتمويل ميزانية العام القادم.

التحديات مع أوروبا والناتو تتضح من خلال المواقف التي أبداها قادة الاتحاد الأوروبي إزاء إعادة انتخاب ترامب، حيث إن أغلب قادة الاتحاد ليسوا سعداء بعودته إلى الرئاسة، باستثناء رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، وقادة الأحزاب اليمينية المتطرفة. وما رشح من كواليس قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة في بودابست، بأن أغلب القادة الأوروبيين، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي, إيمانويل ماكرون، وكذلك رئيسة المفوضية الأوروبية, أورسولا فون دير لاين، حثوا على الإسراع في الوصول إلى استقلالية السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي والابتعاد عن العباءة الأمريكية.

من المعروف أن ترامب يشكك في التحالفات التقليدية للولايات المتحدة، وينتقد الناتو بشدة، معتبرًا أن حلفاء الولايات المتحدة يجب أن يتحملوا تكلفة أكبر للدفاع عن أنفسهم. سيواجه ترامب تحدي الحفاظ على وحدة الناتو وسط مخاوف حلفائه في أوروبا من أن موقفه قد يشجع روسيا على زيادة طموحاتها الإقليمية. وقد يسعى الحلفاء الأوروبيون للضغط على ترامب لضمان استمرار الالتزام الأمريكي بالدفاع الجماعي. بالمقابل، قد يحاول ترامب إعادة صياغة العلاقة مع أوروبا وفق شروط جديدة، مما قد يؤدي إلى توتر بين الطرفين. إضافة إلى ذلك، يخشى الحلفاء الأوروبيون من أن يعقد ترامب اتفاقيات مع روسيا فوق رؤوس دول الناتو والاتحاد الأوروبي، مما سيضعف قدراتهم الدفاعية ويقلل من فعالية الردع ضد روسيا.

هنالك تحديات إضافية متعلقة بالتغير المناخي؛ فترامب لا يُعتبر من المتحمسين لقضايا المناخ، إلا أن الضغوط الدولية والمحلية للحد من التغير المناخي تزداد باستمرار، خاصة مع الأحداث المناخية الحادة والمتزايدة حول العالم، مثل الفيضانات والحرائق والأعاصير التي يعزوها كثير من العلماء إلى ظاهرة الاحتباس الحراري. وبما أنَّ المجتمع الدولي يولي هذه القضايا اهتمامًا كبيرًا، فقد يواجه ترامب ضغوطًا للاستجابة للمطالب البيئية، حتى لو كان موقفه الشخصي أو السياسي لا يميل لهذا الاتجاه. وسيتعين على ترامب في هذه الحالة التعامل مع ضغوط منظمات البيئة الدولية والمحلية، بالإضافة إلى مواجهة المعارضة الداخلية من الولايات التي تعتمد سياسات بيئية صارمة.

ستظل التحديات الداخلية في الولايات المتحدة، لا سيما الانقسامات السياسية والتوترات الاجتماعية، من أبرز القضايا التي سيتعين على ترامب مواجهتها بفعالية. فالاستقطاب السياسي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، مما يجعل مسألة توحيد البلاد تحديًا معقدًا، خاصة في قضايا العدالة الاجتماعية، وحقوق الأقليات، وإصلاح النظام القضائي ونظام الشرطة.
إلى جانب ما سبق، ستظل التحديات الداخلية في الولايات المتحدة، لا سيما الانقسامات السياسية والتوترات الاجتماعية، من أبرز القضايا التي سيتعين على ترامب مواجهتها بفعالية. فالاستقطاب السياسي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، مما يجعل مسألة توحيد البلاد تحديًا معقدًا، خاصة في قضايا العدالة الاجتماعية، وحقوق الأقليات، وإصلاح النظام القضائي ونظام الشرطة.

أما ملف الهجرة، الذي كان أحد الملفات الساخنة خلال فترة ترامب السابقة، فإنه سيبقى موضع جدل كبير؛ حيث اتخذ ترامب مواقف صارمة حيال الهجرة غير الشرعية واللاجئين، مما أثار انتقادات واسعة من منظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي. وإذا سعى ترامب في ولايته الثانية لمواصلة هذه السياسات، فقد يواجه تحديات قانونية وضغوطًا من الكونغرس والمحاكم، فضلًا عن حكومات الولايات التي قد تتخذ مواقف معارضة لتوجهاته. كما أن ملف معاملة اللاجئين والأطفال وأسرهم سيكون ملفًا حساسًا يتطلب تعاملًا إنسانيًا متوازنًا.

في الختام، فإن نجاح ترامب أو فشله في مواجهة هذه التحديات الكبيرة والمعقدة يعتمد على مدى قدرته على تحقيق توازن بين طموحاته الشخصية والمتطلبات التي تفرضها مؤسسات الدولة الأمريكية والتحديات الدولية. فمهمة الرئاسة الأمريكية ليست فقط إصدار الأوامر، بل هي عملية مستمرة من التفاوض والتعاون مع شبكة واسعة من المصالح الداخلية والخارجية المتشابكة. لذلك، ستحتاج إدارة ترامب إلى التكيف مع معطيات الواقع الجديد، والعمل بحنكة للتغلب على القيود التي تفرضها "الدولة العميقة" والضغوط الداخلية والخارجية.

ومهما كانت تطلعات ترامب وأهدافه، يبقى أنه لا يمتلك "عصا سحرية" تضمن له تحقيق كل ما يريد، وستكون فترة رئاسته الثانية اختبارًا حقيقيًا لقدراته على العمل ضمن منظومة سياسية واقتصادية معقدة ومتشابكة، حيث تتداخل المصالح بشكل كبير. وكما يقول المثل الألماني: "كلهم يطبخون بالماء"، فإن ترامب، مهما بلغ من الطموح، لن يختلف كثيرًا عن رؤساء أمريكا الآخرين من حيث تعرضه للنجاح أو الفشل، وهو ما ستكشف عنه الأيام القادمة.

*نائب ألماني سابق
التعليقات (0)