كتب كارل فون كلاوزفيتز: إن غاية تجريد
العدو من سلاحه أمر لا نجابهه دائما في الواقع، لذا فلا يجوز اعتبار الإنجاز الكلي
له شرطا للسلام، فقد تم التوصل إلى العديد من معاهدات السلام قبل إمكانية اعتبار
أحد الخصوم قد بات بلا قوة، والسبب أن هدف الحرب قد لا يكون مناسبا في صراع واقعي.
ويستطرد كلاوزفيتز بالقول: إن التباين
المادي، أو تباين القوة العسكرية بين الطرفين المتحاربين، لن يذهب إلى أبعد مما
يمكن أن تعوضه العوامل المعنوية، فليس بوسع العوامل المعنوية أن تفعل الكثير، إلا
أن حروبا كثيرة قامت بين دول متباينة القوة كثيرا، لأن الحرب غالبا ما تبتعد عن
المفهوم الصرف الذي تفترضه النظرية.
لن تقبل إسرائيل بتسويات سياسية كما حدث عام 2006، فهذا زمن ولى، المطلوب اليوم إزالة التهديد العسكري والأمني تماما، وما جرى من سياسة الأرض المحروقة في غزة تجسيدا لهذا الهدف.
يرتبط النصر في إيجاد وتحييد مركز ثقل
الخصم، أي هزيمة الجيش المنافس، لكن تلك الطريقة ليست الأكثر فعالية دوما، حيث إن
العناصر الأخلاقية هي من أكثر العناصر أهمية في الحرب، فهي تُشكل الروح التي تتخلل
الحرب ككل، وتؤمن ارتباطا وثيقا بالإرادة التي تُحرك وتقود كتلة تامة من القوة.
إذا ما طبقنا هذا التحليل على الحرب القائمة
اليوم بين إسرائيل و"حزب الله" وإيران، سنجد أن الاستثناء الذي ألمح
إليه كلاوزفيتز هو ما يحدث اليوم، أي أن "غاية تجريد العدو من سلاحه أمرا لا
نجابه دائما في الواقع" ليست قاعدة ثابتة كما قال هو، بل لها استثناءات، هو
ما نراه اليوم، حيث تقف إسرائيل أمام لحظة استثنائية لأسباب عدة:
ـ حصول إسرائيل على دعم دولي مفتوح منذ
عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر العام الماضي للمضي قدما في
تغيير جذري لمعادلة الصراع القائمة منذ عقود.
ـ تخاذل عربي وصل حد التعاون مع إسرائيل
علنا ومضمرا في القضاء على المقاومة العربية في شقيها
الفلسطيني واللبناني.
ـ غياب عمق استراتيجي لحزب الله كان متوفرا
قبل عام 2011، والمقصود سورية التي كانت تقدم الدعم اللوجستي الهام للحزب في حروب
السابقة مع إسرائيل.
ـ تغير حسابات إيران بعد إعادة الولايات
المتحدة التفاوض معها حول مقاربة استراتيجية شاملة (البرنامج النووي الإيراني،
الصواريخ عابرة القارات، السياسة الإيرانية في المنطقة).
بناء على هذه المتغيرات، لن تفوت إسرائيل
الفرصة لتغيير مقاربة الصراع جذريا، فالمطلوب اليوم القضاء نهائيا على المقاومة
وتحويل الجغرافيا المحيطة بإسرائيل من جغرافيا عسكرية إلى جغرافيا سياسية، مع
الإبقاء على قواعد الاشتباك السابقة قائمة فقط مع إيران بشكل مباشر حتى الآن.
لن تقبل إسرائيل بتسويات سياسية كما حدث عام
2006، فهذا زمن ولى، المطلوب اليوم إزالة التهديد العسكري والأمني تماما، وما جرى
من سياسة الأرض المحروقة في غزة تجسيدا لهذا الهدف.
وليس معلوما ما إذا كانت المقاربة
الاستراتيجية الإسرائيلية تشمل إيران، بتوجيه ضربة عسكرية قاسية لها، ولا نعلم
حقيقة ما إذا كانت إيران قادرة على رد عسكري رادع لإسرائيل.
ثمة أسئلة لا أحد يستطيع الإجابة عليها،
فالمتغيرات سريعة ومستوى اختراق إسرائيل للخطوط الحمر متسارع.
أما البعد الأخلاقي الذي تحدث عنه كلاوزفيتز
"العناصر الأخلاقية هي من أكثر العناصر أهمية في الحرب، فهي تُشكل الروح التي
تتخلل الحرب ككل، وتؤمن ارتباطا وثيقا بالإرادة التي تُحرك وتقود كتلة تامة من
القوة"، فهذا هدف إسرائيلي آخر لم يكن موجودا في حروبها السابقة، سواء في غزة
أو
لبنان، فإلى جانب عملها على تدمير كامل القوة المادية للمقاومة في فلسطين
ولبنان، تعمل إسرائيل على قلب البعد الأخلاقي رأسا على عقب، بمعنى تحويله إلى عبء
على المقاومة وجمهورها الشعبي.
وما تدمير المدن والقرى والمنشآت المدنية
والمنازل المدنية في غزة وجنوبي لبنان، إلا محاولة لدفع جمهور المقاومة لطرح
السؤال الرئيس، ما الجدوى من هذه المقتلة التي نخسر فيها أكثر مما نربح؟
ولم يكن إقدام إسرائيل على اغتيال الأمين
العام لـ "حزب الله" حسن نصر لله إلا لتحقيق هدفين رئيسيين:
الأول، إحداث بلبلة في بنية الحزب، فشخصية
نصر لله لا يمكن لأحد أن يعوضها لا على صعيد هيكلية الحزب، ولا على صعيد الجمهور،
ومن شأن غيابه أن يحدث ضعفا في بنية الحزب.
الثاني، إحداث صدمة نفسية عميقة في جمهور
المقاومة اللبنانية، تدفعه إلى الارتداد للخلف بدلا من الاستمرار في تقديم الدعم
المطلق للحزب وسلوكه.
لن تفوت إسرائيل الفرصة لتغيير مقاربة الصراع جذريا، فالمطلوب اليوم القضاء نهائيا على المقاومة وتحويل الجغرافيا المحيطة بإسرائيل من جغرافيا عسكرية إلى جغرافيا سياسية، مع الإبقاء على قواعد الاشتباك السابقة قائمة فقط مع إيران بشكل مباشر حتى الآن.
إذا، نحن أمام هدفين لإسرائيل: تدمير القوة
المادية بالكامل للمقاومة، وتحييد البعد الأخلاقي الذي كان عاملا مساندا للمقاومة
خلال الحروب السابقة.
وأمام هول الضربات التي تلقاها "حزب
الله"، وجب على إيران إعادة تغيير استراتيجيتها، إما بتصعيد عسكري مرعب، وهذا
ما لا تقدر عليه، أو ترك الساحة اللبنانية وتحويل الحزب إلى قوة سياسية فقط.
لم تدرك إيران أن استراتيجية إسرائيل
العسكرية والأمنية اختلفت تماما بعد عملية "طوفان الأقصى"، وما كان يصلح
في المراحل السابقة لم يعد يصلح الآن، وهذه القراءة القاصرة لإيران كلفت "حزب
الله" الكثير.