منذ السابع عشر من أيلول 2024 بدأ
الاحتلال
سلسة من العمليات التي تقصد ضرب منظومة القيادة لدى
حزب الله، وإلى إلحاق هزيمة
نفسية بكوادره وجمهوره وبالمقاومة في غزة وبالشعب الفلسطيني عموماً؛ بدأت
بالعملية الإجرامية لتفجير البيجرات وتلتها عملية تفجير اللاسلكي ثم عملية اغتيال
قادة فرقة الرضوان وأخيراً عملية اغتيال أمينه العام السيد حسن نصر الله يوم
الجمعة 27-9 ليبدأ الصهاينة بعدها مباشرة بالحديث عن اجتياحٍ بري، وبأنهم يريدون
إلغاء اتفاق ترسيم الحدود البرية مع
لبنان، وإعادة رسم الشرق الأوسط، في عملية
تضخيم نفسي تحاول تصوير هذه الضربات وكأنها انتصار مطلق.
ترافقت مع هذه الضربات الموجعة مساحتان
للجدل تفرضان التوقف عنهما: الأولى هو الجدل حول طبيعة حزب الله كحركة
مقاومة بناء على تجربته في
مواجهة المحتل الصهيوني، أو كعدو داخلي بناء على
تجربة تدخله في مواجهة الثورة السورية التي تطورت إلى حرب إقليمية ثم دولية على
الأراضي السورية، والثانية هي حالة من الانهيار وتسلل شعور الهزيمة وانعدام الأفق،
بما تحملان من تناقض تام بينهما، ما بين النظر إلى حزب الله كعدو داخلي ثم التأثر
بدعاية العدو الصهيوني ضده لدفعنا إلى مساحة الهزيمة الإدراكية، وحال أمتنا اليوم
يحمل الكثير من مثل هذه المتناقضات، وأمام هذين النقاشين لا بد من وقفات ثلاث:
الوقفة الأولى ـ في نشأة حزب الله:
تأسس حزب الله عام 1982 كحركة مـقاومة
لبنانية شيعية بعد أن فرض الاحتلال الصهيوني والميزان الدولي خروج قوات منظمة
التحرير من لبنان، وبدء انتقال ثقل قيادة المـ.ـقـ.ـاومة إلى القوى اللبنانية
الوطنية والإسلامية، وواجه محاولة حسمٍ صهيونية وغربية بسلسلة عمليات محكمة وحاسمة
ضد مقر قوات الاحتلال في صور بعمليتين في 11 ـ 1982 ثم في 11 ـ 1983 وأدت في
المرتين لتسوية مقر قيادة الاحتلال الصهيوني بالأرض واعترف الاحتلال بمقتل 103 من
جنوده في العمليتين مجتمعتين، وتلا ذلك تفجير مقر القوات الأمريكية والفرنسية التي
جاءت إلى لبنان لتضمن تغيير وجهة لبنان وهويته للتحالف مع الصهاينة، والذي أدى إلى
قتل 241 عسكرياً أمريكياً و58 عسكرياً فرنسياً وأعلنت المسؤولية تحت اسم "الجهاد
الإسلامي" في ذلك الوقت، إذ لم يكن حزب الله قد أفصح عن حضوره التنظيمي
علناً، وتلت ذلك محاولات منع عودة المـقـاومة الفلسطينية إلى مخيمات لبنان وحرب
المخيمات التي شنها النظام السوري بالتعاون مع حركة أمل لفرض هذا المنع، فكان هذا
محل اختلاف بين قيادة حزب الله وكوادره وبين حركة أمل "أفواج المقاومة
اللبنانية"، وأدت في النهاية إلى حرب الإخوة بين الطرفين 1988 ـ 1990 والتي
كانت فيها أمل مدعومة من النظام السوري، وهي المرحلة التي حسمت فيها قيادة حزب
الله علاقتها مع إيران وتحالفها العضوي معها باعتبارها تمثل الولي الفقيه في
لبنان، وهي مرحلة تعرض فيها كوادر الحزب للملاحقة والسجن من النظام السوري ذاته
الذي يتحالف معه اليوم.
تأسس حزب الله بشكله الحالي على ثلاث مقدمات: الأولى هي مـقاومة الاحتلال، والثانية هي التمايز السياسي بشق خطه الخاص برفض حصار المخيمات وحرب الإخوة وصولاً للتحالف العضوي مع إيران، وقد بُني كل ذلك على أرضية من الصحوة الإسلامية التي أسس لها عدد من المراجع في أوساط شيعة لبنان.
بنى حزب الله وجوده على حركة صحوة دينية
واسعة في أوساط اللبنانيين الشيعة، قادها عدد من المراجع من بينهم الإمام موسى
الصدر مؤسس حركة أمل، والإمام محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله،
وغيرهم من المراجع الشيعية في لبنان إذ قاد كل منهم حركة دينية إصلاحية دينية
واجتماعية، أسست في المحصلة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1967 ثم حركة
المحرومين التي انبثقت عنها أمل كجناح مسلح تأسس بالتعاون مع حركة فتح، وتيارات
أخرى ومؤسسات سمحت بعمليتي تحول اجتماعيتين:
الأولى نقل الثقل الفكري بين شيعة لبنان من
الحزب الشيوعي واليسار الذي كان أوسع انتشاراً بينهم إلى حالة من التدين والصحوة
الدينية، والثانية تحريك البنية التقليدية للمجتمع الشيعي في جنوب لبنان والمكون
من عائلات إقطاع محدودة تقابلها أغلبية واسعة من الفلاحين الفقراء إلى نخب شبابية
جديدة كان طلاب الحوزات الدينية في القلب منها، وقد تعزز هذان الاتجاهان مع نجاح
الثورة الإسلامية في إيران التي كان لها أثر حاسم على الشيعة في جبل عامل.
في المحصلة، تأسس حزب الله بشكله الحالي على
ثلاث مقدمات: الأولى هي مـقاومة الاحتلال، والثانية هي التمايز السياسي بشق خطه
الخاص برفض حصار المخيمات وحرب الإخوة وصولاً للتحالف العضوي مع إيران، وقد بُني
كل ذلك على أرضية من الصحوة الإسلامية التي أسس لها عدد من المراجع في
أوساط شيعة لبنان.
الوقفة الثانية ـ في التجربة التاريخية لحزب
الله:
من بعد عمليات النشأة الأولى قاد حزب الله
سلسلة من العمليات ضد ميليشيات لحد العميلة التي كانت تسيطر على الشريط الجنوبي
المحتل من لبنان، وتعرض رداً على عملياته إلى عملية عسكرية صهيونية 1993 سميت
"تصفية الحساب" ودامت لسبعة أيام، ثم حرب صهيونية أسميت "عناقيد
الغضب" في 1996 ودامت ستة عشر عاماً وهدفتا إلى استئصاله، لكن عملياته تواصلت
وازدادت حتى اضطر الاحتلال للانسحاب من جنوب لبنان في 25 ـ 5 ـ 2000، إلا أن تطلع
الصهاينة المستمر لاجتثاثه بالتوازي مع عملياته لتحرير الأسرى اللبنانيين أدى
لعملية عسكرية صهيونية ثالثة لاجتثاثه في 2006 والتي تعرف بحرب تموز أو حرب لبنان
الثانية، وشهدت انكساراً برياً تاريخياً للصهاينة رغم تدمير الضاحية الجنوبية
ومختلف البنى التحتية في لبنان، والتي ما زال لبنان يعاني من آثارها حتى اليوم،
وقد شهدت هذه الجبهة بعدها هدوءاً طويلاً كسرته مبادرة الحزب لعملية إسناد المقاومة
في غزة بدءاً من 8 أكتوبر 2023.
مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 أسند حزب
الله المقاومة الفلسطينية بالسلاح والمعرفة والإمكانات المادية وهو ما تشهد عليه
السفينة كارين إيه مع حركة فتح وعمليات إمداد أخرى بالسلاح والإمكانات شهدت عليها
صفوف كاملة من كوادر فتح وحماس والجهاد الإسـلامي، شملت المساعدة في المقذوفات
والأنفاق وتهريب النسخ الأولى من مضادات الدروع الموجهة إلى قطاع غزة.
مع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق
الحريري في 2005 وانسحاب الجيش السوري من لبنان استشعر حزب الله الحاجة لتعويض
خروج القوات السورية بحضور سياسي يحمي سلاحه ويمنع نجاح الغرب في حصاره، فدخل
الانتخابات النيابية بثقل مختلف وبدأ يدخل في الحكومات والوزارات بعد 15 عاماً من
تفاهم سياسي مع حركة أمل بأنه يفوضها في تمثيله سياسياً مقابل حماية سلاحه، وجاءت
محاولة الحكومة اللبنانية بقيادة فؤاد السنيورة لتفكيك شبكة اتصالاته السلكية
لتفرض أزمة داخلية حسمها الحزب بالقوة المسلحة في 7 أيار 2008، وكانت هذه بوادر
توسيع النقاش المجتمعي اللبناني حول هوية الحزب المذهبية في مجتمع محكوم بالمعادلة
الطائفية التي لا يشكل حزب الله فيها استثناء.
مع بدء الثورة السورية بمجموعة من التظاهرات
الشعبية وقمعها الدموي أخذت تتحول نحو الخيار العسكري بشكل متسارع، وهنا اتخذ الحزب
قراراً بالتدخل العسكري في سوريا ضد ثورتها وأهلها المدنيين ما زال مستمراً منذ 12
عاماً، أدى هذا التدخل في محصلته إلى حصار وتهجير بلدات وقرىً بأكملها في حمص
والزبداني على الطرق الواصلة بين سوريا ولبنان، وقد بُرر هذا القرار باعتباره
حرباً استباقية لمنع حصار الحزب لكنها لم تكن ممكنة إلا بتعبئة أفراده تعبئة
مذهبية خالفت النهج التأسيسي للحزب الذي يرفض الانخراط في الصراعات الداخلية
ويركز البوصلة نحو العدو الصهيوني فقط، وقد كان هذا التدخل محل خلاف ونقد في أوساط
نخبة حركتي حـماس والجهاد وما يزال، على أساس وحدة الصف والحفاظ على البوصلة نحو
العدو وعلى أساس ضرورة الحفاظ على التفوق الأخلاقي للمقـاومة بعدم الولوغ في دماء
الأمة، والحفاظ على غطائها السياسي بالإجماع عليها بأن لا تستحدث ثاراتٍ داخلية أو
تكون جزءا من جدران دم داخلية تبنى بين مكونات الأمة، لكن هذا النقد لم يتمكن من
تغيير الخيارات السياسية حينها وقد تجاوزته حركة الجهاد فوراً فيما عادت حركة حماس
للتصالح المتأخر مع النظام السوري على أساس ضرورة تجاوز الصراع الداخلي وضرورة
توحيد السلاح فوق سماء فلسطين ضد الاحتلال الصهيوني.
في المحصلة، نشأ حزب الله نشأ كحركة مقاومة
منذ 1982، عمره اليوم 42 عاماً كان طرفاً في صراع داخلي على مدى 12 عاماً منها في
سوريا، وعلى مدى أقل من ثلاث سنوات في صراع داخلي ضد حركة أمل، وبمواجهة واحدة
حاسمة في لبنان بعد عام 2000 في أحداث أيار 2008.
حزب الله إذن هو هذه المسيرة المركبة بكل ما
فيها ـ وهذا مجرد اختصار لها ـ إلا أن النقاش العام يصر اليوم على اختزالها في وجه
واحد، إما مقاومة ـ وهي طبيعتها الغالبة ـ وإما مواجهة داخلية ـ والتي لها عدة
محطات أطولها في سوريا ـ وكأننا نصر على أن لا ننجح إلا في الاختبارات البسيطة،
ونصر على رفض الحقائق المركبة رغم أنها طبيعة الظواهر الإنسانية التي تختلط بها
المبادئ بالمشاعر بالمصالح لتتشكل محصلة لها جميعاً يتفاوت نجاح أصحابها في تغليب
المبادئ على ما سواها، وهذا ينطبق على كل التجارب التنظيمية وليس على حزب الله وحده.
الوقفة الثالثة ـ عن مقولة "نهاية حزب
الله:
يروج الاحتلال بأن ضرباته المتتالية كانت
"حاسمة"، وأنها تمكنت من "إنهاء الهيكل التنظيمي القيادي" لحزب
الله، وأنها تمكنت من "ضرب معظم مخزونه من الصواريخ الدقيقة وبعيدة
المدى" في مواقع تخزينها ومنصاتها، وبأن قدرات حزب الله البرية قد تراجعت إلى
حد يجعل الاحتلال هو من يلوح بعملية برية، ولا شك أن مثل هذه التصريحات مليئة
بالادعاء المعهود عن نتنياهو كشخص وعن الجيش الصهيوني في هذه الحرب تحديداً، ولا
شك بالمقابل أن الضربات كانت متتالية وموجعة لأية بنية تنظيمية، وأنها تفتح تساؤلات
عن اختراق واسع وعن أخطاء متكررة تسمح للاحتلال بجباية ثمن عجز عن جبايته من حزب
الله طوال 42 عاماً، ولا شك أن قادة الحزب وكوادره هم أكثر المعنيين بالاستجابة
لهذا التحدي الوجودي اليوم، فالاحتلال ليس آتياً هذه المرة لإحراز النقاط بل ليخوض
حرب تصفية يظن أن ضرباته المتتالية مهدت الأرضية لها.
ومع هذا التحدي الوجودي الذي لا يستهان به
لا بد أيضاً من البناء على ما تقدم في إدراك مقومات قوة حزب الله، حتى لا نقع تحت
سطوة الخطاب الدعائي الصهيوني أو خطاب التشفي المدفوع بالثأر:
أولاً ـ حزب الله تنظيم واسع عريض له أذرع
مدنية وسياسية وعسكرية، له مؤسسات تعليمية وشبابية وكشفية وصحية كما أن له جهازاً
سياسياً وقوات عسكرية، وإذا كانت مصادر الاحتلال تقدر قوته العسكرية بنحو ستين
ألفاً فإن الحجم الإجمالي لكادره يفوق ذلك بمراحل وهذا معلوم لكل المطلعين على
الشأن اللبناني، وإمكانية زوال هذه البنية من الوجود بضربات فجائية متعذرة وإن
كانت قابلة للإضعاف.
حزب الله تنظيم واسع عريض له أذرع مدنية وسياسية وعسكرية، له مؤسسات تعليمية وشبابية وكشفية وصحية كما أن له جهازاً سياسياً وقوات عسكرية، وإذا كانت مصادر الاحتلال تقدر قوته العسكرية بنحو ستين ألفاً فإن الحجم الإجمالي لكادره يفوق ذلك بمراحل وهذا معلوم لكل المطلعين على الشأن اللبناني
ثانياً ـ لحزب الله تجربة تاريخية ممتدة
طوال 42، وكما أنه حالة إنسانية قد تسري عليها ظواهر الشيخوخة أو الترهل التي إن
سادت تضعف إمكانية الاستجابة لتحدٍّ وجودي، فإن هذه التجربة من الممكن أيضاً أن
تراكم خبرة وثقة، وهو ما قد يزيد من فرص استجابته للتحدي الوجودي.
ثالثاً ـ يرتكز حزب الله إلى بيئة بشرية
عريضة من جمهوره قوامها مئات الآلاف على الأقل في لبنان، وعمقها الجغرافي يمتد من
الضاحية الجنوبية إلى جنوب لبنان، وعلى امتداد البقاع اللبناني، ولا يقف في هذا
منفرداً بل تؤازره فيه قوى لبنانية وفلسطينية مثل حركة أمل والجماعة الإسلامية وسرايا
القدس وكتائب القسام في لبنان وسائر فصائل المـقـاومة الفلسطينية، وهو ما يزيد من
عمق حاضنته وتكاتفها وإمكاناتها، ولذلك بدأ الاحتلال يوزع صواريخ الاغتيال على تلك
القوى كذلك.
رابعاً ـ يرتكز حزب الله إلى إرث أيديولوجي
عقائدي، قد تختلف معه فيه الأكثرية السنية للأمة إلا أن هذا لا يعني أنه ليس إرثاً
عقائدياً متماسكاً، وهو الإرث الذي قاد كوادره وجمهوره إلى التصالح مع الفقد
والإقبال على الشهادة والصبر في مختلف المحطات والمراحل، وكأي إرث عقائدي فإن ظواهر
تفشي النفعية والاسترزاق تشكل عبئاً عليه إن تفشت؛ لكن لا شك أن الاستمساك به
والعودة إليه كانت كفيلة باستحضار عناصر إرادة ماضية وقوة متنامية على مدى أربعين
عاماً مضت.
خامساً ـ تحالف حزب الله مع إيران حالة
عضوية، تجعل أمينه العام وكيلاً للولي الفقيه الخامنئي في لبنان، وعلى هذا الأساس
تمكن الحزب من توسيع إمكاناته المالية والبشرية والتسليحية، وهي ليست حالة تقاطع
مصالح عابرة، وقد أسست إيران هذا التحالف بعد الحرب العراقية ـ الإيرانية لتضمن أن
الحرب لن تعود إلى إقليمها المباشر، وأن استراتيجيتها الدفاعية تبدأ في مواقع
متقدمة بآلاف الأميال، إضافة إلى اعتبارات مذهبية وأيديولوجية، وهو ما يجعل الحزب
كحركة دون الدولة تتمتع بدعم سياسي من دولتين: دولة حاضنة هي الدولة اللبنانية،
ودولة داعمة هي إيران، وهي ميزة قلما تحظى بها حركة سياسية، رغم أنها معرضة
للتقلبات.
في المحصلة يواجه حزب الله تحدياً وجودياً،
لكنه يمتلك عناصر قوة كبيرة تسمح له باستعادة التماسك والاستجابة لهذا التحدي إذا
ما وجدت الإرادة واستعادة التمسك بالإرث العقائدي الأيديولوجي.