لا يوحي المشهد السياسي والاجتماعي في
تونس
بإقبال البلاد يوم 6 أكتوبر 2024 على
انتخابات رئاسية رغم انتهاء الحملة
الانتخابية. ضمن مسار شابته ولا تزال عدة شوائب تكاد تفرغه من محتواه كعملية
انتخابية حسب ما هو متعارف عليه في التجارب الديمقراطية العريقة ووفق المعايير
الدولية .
فمن تأخر دعوة الناخبين إلى آخر لحظة وما سبقها
من شك حول إجراء الانتخابات من عدمه إلى انطلاق المسار بنشر الرزنامة وإعلان هيئة الانتخابات إجراءات شروط
الترشح تحت عنوان ملاءمة القانون
الانتخابي لسنة 2014 مع القوانين الأعلى منه رغم أن ذلك من صلاحيات الهيئات
التشريعية وقد جعلت تلك الإجراءات عملية الترشح أكثر تعقيدا وأخرجتها عن مقصد
المشرع من اعتمادها مثل التزكية التي وردت بخلفية التاكد من وجود حد أدنى من
المصداقية الشعبية للمترشح رغم تعارضها في الجوهر مع مبدأ حق الترشح كحق أساسي من
حقوق المواطنة فتحولت إلى سيف مسلط على رقاب المترشحين.
وبعد كل ما حصل من لغط وجدل حول الإجراءات تم
فتح باب الترشح والانطلاق في إعداد الملفات التي هيمنت عليها إشكالية الحصول على
بطاقة السوابق العدلية المعروفة بالبطاقة عدد 3 والتي يتم الحصول عليها في الأصل بإجراءات
إدارية بسيطة حضوريا أو عن بعد إلا أن ذلك لم يحصل وحصلت تعطيلات غير معقولة وغير
مبررة لكل المترشحين الذين واجهوا أيضا إشكالية التزكيات التي لم يكن متاحا لهم
منها سوى الشعبية وما صاحبها من تعقيد متعلق بتغير الوحدة الجغرافية للدائرة من
الولاية إلى المعتمدية والإبقاء على العدد الأدنى المعتمد في الولاية 500 تزكية
دون ملاءمته مع الوحدة الجديدة التي حصرتها الهيئة في المعتمدية، هذا إلى جانب ما تعلق
بتوزيع التزكيات على الدوائر ثم ما صاحب تقديم مطالب الترشح من تشدد من الهيئة في
علاقة خاصة بالتزكيات تحت عنوان التثبت والتدقيق الذي أسقط نصف ملفات المترشحين
تقريبا الذين عجزوا عن جمع التزكيات أما من تمكن من ذلك فقد وجد صعوبات عند
التدقيق أدى بملفه إلى الرفض.. ولم تعلن الهيئة سوى عن ثلاثة مطالب مقبولة قبولا
أوليا أيدته المحكمة الادارية في الأحكام الابتدائية لدوائرها ثم حصلت المفاجأة في
الطور الاستئنافي للنزاع الانتخابي بين الهيئة والمترشحين المرفوضة مطالبهم
ابتدائيا بإصدار الجلسة العامة للمحكمة الإدارية التي تضم 27 قاضيا حكمها البات
والنهائي بإبطال قرارات هيئة الانتخابات والأحكام الابتدئية لدوائرها وتمكين ثلاثة مترشحين من حقهم في الترشح ودعوة
الهيئة لإدراجهم في القائمة الرسمة النهائية إلا أن الهيئة رفضت ذلك بمبررات غير
مقنعة مثل وصول مضمون الحكم متأخرا وغيرها وأصرت على ذلك ورغم تأكيد المحكمة لأحكامها
بقرارت توضيحية اعتبرت أن عدم إدراج أسماء المترشحين وفق قرارها من شأنه أن يؤدي إلى
بطلان كامل المسار.
فإن هيئة الانتخابات قد أصرت على موقفها
بقبول ثلاثة مطالب فقط أحدهم العياشي زمال
ورغم إعلانه مرشحا نهائيا فقد أصبح محل تتبع في عشرات القضايا بلغ عددها 35 قضية
حسب محاميه عبد الستار المسعودي بتهم تزوير التزكيات حيث صدرت إلى الآن في شأنه
عدة أحكام ابتدائية بلغت أكثر من 12 سنة سجنا ومنع من التصويت.
إرادة التغيير هي الأخرى أمام خيارات انتخابية صعبة ناتجة بالأساس عن حالة التشرذم والتشتت التي انتهى إليها المنتظم السياسي بكل مكوناته من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني عجزت على أن تلتقي فيما بينها على برنامج حد أدنى ديمقراطي بل إن أغلبها لا يزال في غيه الاستئصالي الإقصائي يعمه ولم يستوعب الدرس بعد.
ولم يقع الاكتفاء بعرقلة المترشحين بل تم
التوجه لتغيير القانون الانتخابي أثناء المرحلة الأخيرة من الحملة الانتخاية
بتقديم مشروع تعديل للقانون الانتخابي يتم بموجبه سحب صلاحية النظر في النزاعات
الانتخابية من المحكمة الإدارية وإحالتها للقضاء العدلي خوفا من إصدارها لحكم بإبطال
المسار الانتخابي.
ورغم الاعتراضات
والنداءات والمطالبات من الشخصيات السياسية والقانونية ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب
والمنظمات بالتراجع فقد تمت المصادقة على التعديل وإمضائه وإصداره بالرائد الرسمي
فور التصويت عليه.
واضح أن المسار الانتخابي الحالي تتجاذبه إرادتان
الأولى مع استمرارية سلطة 25 تموز / يوليو ومنظومته وتستعمل كل الوسائل من أجل ذلك،
والثانية مع إحداث تغيير سياسي بالصندوق يتجاوز 25 تموز / يوليو ولكن دون العودة إلى
ما قبله خاصة في ظل ما آلت إليه الأوضاع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفي ظل غياب
الرؤية.
إلا أن إرادة التغيير هي الأخرى أمام خيارات
انتخابية صعبة ناتجة بالأساس عن حالة التشرذم والتشتت التي انتهى إليها المنتظم
السياسي بكل مكوناته من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني عجزت على أن تلتقي فيما بينها
على برنامج حد أدنى ديمقراطي بل إن أغلبها لا يزال في غيه الاستئصالي الإقصائي
يعمه ولم يستوعب الدرس بعد.
وهي ناتجة أيضا عما حصل في المسار من
تجاوزات وإخلالات جعلت مصداقية العملية الانتخابية ونتائجها في الميزان الأمر الذي
سيزيد أزمة البلاد تفاقما وتعقيدا بدل أن يكون فرصة لتجاوزها.
لقد أصبح المشهد المعارض اليوم منقسما بين
خياري المشاركة أو المقاطعة أو البين بين أي حالة اللاموقف .
وكل له حججه واعتباراته حيث يرى دعاة
المشاركة بالتصويت بكثافة رغم ما على المسار من تحفظات وذلك لأحد خياري التغيير وبالأساس للمرشح رقم واحد
العياشي زمال الذي قدم رؤية مستقبلية لتونس لاقت ترحيبا من الجميع، وذلك لأن
المشاركة في رأيهم هي الأصل وهي ممارسة
نضالية إن لم تحقق التغيير بالصندوق فإنها تمهد له بالضغط والإحراج وإقامة الحجة
ودليل وجاهة ذلك بالنسبة لهم ما حصل في كل
مراحل المسار الانتخابي، فمن غير المناسب التخلي عنه في ختامه.. وهو سلوك اعتمدته
كثير من المعارضات في مثل هذه الحالات في بلدان أخرى وأثبت نجاعته. والقول بأن
المشاركة ستعطي شرعية للعملية لا معنى له لأن الشرعية تحصل بقبول المتنافسين
بالنتائج واعتراف المنتظم السياسي الوطني والمجتمع الدولي بنزاهتها.
أما دعاة المقاطعة فإنهم يرون أن شروط نزاهة
العملية الانتخابية غير متوفرة والمشاركة فيها تعتبر نوعا من التبييض لها والإقرار
بنتائجها وشرعنة ما ستفضي إليه.
أما موقف المراوحة بينهما الذي يكتفي بنقد
المسار الانتخابي وما حصل فيه من تجاوزات وإخلالات وينبه لمخاطر الاستمرار فيه
بنفس السلوك فهو في الحقيقة اللاموقف وربما يتحسب أصحابه إلى ما بعد الانتخابات
وهو نوع من العجز والهروب من المسؤولية السياسية.
لذلك فإن الترجيح بين هذه الخيارت يجب أن
يضع في اعتباره أولوية المصلحة الوطنية وأن يستند إلى المعايير التالية :
1 ـ قدرة الخيار على تحقيق هدف التغيير أو
في الحد الأدني الاقتراب منه .
2 ـ قدرة الخيار على فتح آفاق سياسية
وميدانية لما بعد الانتخابات .
3 ـ قدرة الخيار على تحقيق نسبة معقولة من
تعبئة
الرأي العام وتحفيزه و امكانية بناء أرضية نضالية مشتركة مستقبلا .
من هذا المنطلق فإن خيار المشاركة على علاته
هو الأرجح والأقرب للنجاعة والفاعية في المرحلة القادمة.
* كاتب وناشط سياسي تونسي