ابني الحبيب..
قلبي "بيطبطب" عليك..
عثرت على هذه الكلمات التي
كتبتها منذ سنوات، وهي تعبر عن شخصيتك المسالمة.
لم أكن أدري أني سوف أفترق
عنك في يوم من الأيام، وأخاطبك عن بعد بالكلمات المكتوبة، لكنها إرادة الله، ولا
أملك لك سوى الدعاء إلى الله عز وجل أن يفك أسرك الجائر، وأن يعيدك قريبا بإذنه
سالما، لتسعد قلبي وقلب أمك وقلوب أولادك وزوجتك الوفية، بإذن الله تعالى تكون
معنا في القريب العاجل.
من القلب إليك تحياتي وتحيات
أحبابك الكثيرين الذين يسألون عنك دائما..
كن قويا وصبورا وراضيا حتى
نلتقي بخير قريبا..
ولا تنسى أن تقرا القصيدة
للأستاذ.. الذي أحببته من كلامك عنه في رسائلك..
وفي المقال المقبل نواصل حكايات
السجن..
(أبوك)
هذه رسالة من شاعر وطني شارك
في المقاومة الشعبية في حرب السويس، أرسلها إلى ابنه "جاسر" في سجن طرة،
وكان جاسر منذ اليوم الأول لدخولي العنبر مسؤولا عن تدبير كل شيء في معيشتي. لم
يكن يعرفني من قبل، لكن زميلا من المحامين الشرفاء السجناء، كان معه في عنبر آخر
قبل تفريقهما، ولما علم بقدومي حاول مع إدارة السجن نقلي إلى العنبر المحبوس فيه،
ولما تعثرت محاولته أوصى جاسر بالاهتمام بي، ولم يتأخر جاسر الشهير بلقب
"القبطان".
أما قصيدة والده التي قرأها
لي بعد أن جفت دموعه بعد الزيارة فهذا نصها:
حاشا و كلّا.. كلّا وحاشا
تكون في قلبي ذرة وحاشة
لأي كائن: مسلم.. مسيحي..
يهودي حتى من الفلاشا
لا فرق عندي بين أبيضاني
وحبشي أسود من النجاشا
وإن شوفت بوذي.. ما أقلبش
بوزي
وأقول في بوزه شبهة عفاشة
الكل عندي من نسل آدم
للكل عندي ود وبشاشة
خلقهم المولى، وكافل
لكل واحد رزق وإعاشة
وإن حد جاب لي سيرة السياسة
أقفل وداني وأسوق الطناشة
لا كنت وفدي ولا كنت سعدي
مع احترامي لسعد باشا
ولا يوم سمعت عن عمرو موسى
ولا تابعت توفيق عكاشة
وجاي تقول لي: بتسيء لبلدك!
اسمح لي أقول لك غلطان يا
باشا
بحب بلدي
وحب بلدي
بيجري في الدم والحشاشة
قلبي المسالم ع الحب دايم
والحقد منه متشال بماشة
للسجين في سجنه عيدان، عيد التلاقي في يوم الزيارة كل أسبوعين، وعيد الوصال لحظة النداء على اسمه بعد عودة "النوبتجي" من الإدارة حاملا الرسائل اليومية، وتمضي الأيام في السجين بين الأمل والقلق، وهذه وذاك من فرح وأحزان، أسئلة وإجابات، حكايات وطلبات، شكاوى وأشواق، تحملها الرسائل
انتهت القصيدة التي ذيلها
الأب بتوصية للابن أن يصبر ويتحمل ولا يكرر الانفعالات التي أدت إلى نقله من
العنبر السابق بعد مشاجرة مع سجين آخر:
ابني الغالي ونور عيني..
أعرف أنك عصبي ولا تتحمل
الظلم، لكن عشان خاطري وخاطر أمك وأسرتك اهدأ وتحمل ولا ترد الإساءة بالإساءة حتى
يزيح الله هذه الغمة، وذلك على الله ليس ببعيد. أعرف أنك تتصرف تحت ضغط الإحساس
بالظلم، واسأل الله أن يلطف لنا وبك " إن بعد العسر يسرا..
للسجين في سجنه عيدان، عيد
التلاقي في يوم الزيارة كل أسبوعين، وعيد الوصال لحظة النداء على اسمه بعد عودة
"النوبتجي" من الإدارة حاملا
الرسائل اليومية، وتمضي الأيام في السجين
بين الأمل والقلق، وهذه وذاك من فرح وأحزان، أسئلة وإجابات، حكايات وطلبات، شكاوى
وأشواق، تحملها الرسائل "جواب رايح وجواب جاي".
كانت رسالة الأب لابنه السجين
نموذجا للجواب الجاي، أما نموذج الجواب الرايح فهو قصيدة أخرى بالعامية كتبها
السجين الشاب أحمد المنزلاوي لحبيبته التي تمنع قوانين السجن زياتها له، لعدم وجود
صلة قرابة تسمح بالزيارة، والجواب القصيدة بعنوان "عصفور بدور":
"صباح الورد يا عمري /
على لون خدك المورود
صباح العهد يا عمري / على
القلب اللي كله وعود
هحكيلك على حلمي / اللي خلّى
القلب بيرفرف ونفسه يعود
حلم بلون عينيكي البُنّي..
بيحضني
وياخدني لبحر الحب جوه النني..
بشوق وحنين
على شط عيونك اللولي حكايات
مرسومة بالنرجس
ورموشك محاوطاهم كما البساتين
وبر عينيكي كان حاجب
عليه قارب
مفروش عيدان ياسمين
واقف عليه عصفور
عصفور جميل.. لكن حزين
يا حبيبتي
قلبي فايض بالأنين
بس صابر
ع الليالي لسه صابر.. ع
السنين
عصفور بدور.. عمال يدور
حوالين عينيكي
حاير وداير
قاطع مَسَاير
نفسه يطّمِن عليكي
وفوق كفوفك.. ينقش حروفك
وبريش جناحه يكتب قصيدة
باسمه وسعيدة
لأنك برغم البعد والمسافات
بس مش شايفك بعيدة
* * *
السجن يعلّم الرومانسية ويفتح أبواب القلوب المغلقة، ويحرك المشاعر الراكدة تحت ركام الحياة اليومية المكررة
السجن يعلّم الرومانسية ويفتح
أبواب القلوب المغلقة، ويحرك المشاعر الراكدة تحت ركام الحياة اليومية المكررة،
وكانت متعة السجناء بعد ثقتهم بي أن يعرضوا عليّ ما يختارون من رسائلهم المرسلة
والواردة، ليشعروا بفخر أنهم محبوبون ويحبون، معظمهم تعلم رسم القلوب الحمراء
وميمز الابتسام في الرسائل المكتوبة، وكلهم كانوا يستعدون للزيارة بالاستحمام
والتمشيط وارتداء الملابس النظيفة كأنهم ذاهبون إلى موعد غرامي. وفي نهاية العنبر
تخصص الشيخ سمير في تصميم أوراق الجوابات الملونة ورسم الورود والعصافير عليها،
ويتزاحم عليها عدد من السجناء يملون عليه أسماء الزوجات والأولاد دون خجل ليدونها
بخط جميل في الرسائل.
وقد احتفظت بنماذج من هذه
الرسائل لأنه من الصعب وصفها بالكلمات، فهي نوع من التعبير بالفن التشكيلي، الذي
يمكن تسميته بفن
السجون، حيث تخصص عدد من السجناء في صناعة البهجة بالفن.. فوانيس
رمضان من الكرتون، وباقات ورود مصنوعة من المناديل الورقية، ولوحات تشكيلية بأحجام
مختلفة وتصميمات مدهشة من مخلفات الأشياء المسموح بدخولها إلى السجن. وهذا النوع
من التعبير يحتاج لمقالة مصورة لكي تتضح قيمته التعبيرية والجمالية، وحتى يتيسر
ذلك سنعود إلى التعبير بالكتابة، ونتناول في المقال المقبل إبداعا عريقا من
أدب
السجون، وهو قصائد "العنبرة"، الموروث منها والمبتكر، وكله يسمع.. حتى
الحديد يسمع.
وفي المقال المقبل نواصل
يوميات الاعتقال..
* * *
* العنوان مقتطف من مراسلات
محمود درويش وسميح القاسم، وكنا نطلق عليها في شبابنا "مراسلات شطري
البرتقالة" حينما كما نتابعها في مجلة عربية تصدر في فرنسا، وقد كثف درويش
روح المراسلات في قصيدة بعنوان "أسميك نرجسة حول قلبي" خاطب فيها القاسم
قائلا:
سنكتبُ، لا شيء يثبت أني
أُحبك غير الكتابة
أُعانق فيك الذين أحبوا ولم
يفصحوا بعد عن حُبِّهم
أُعانق فيك تفاصيل عمر
توقَّفَ في لحظةٍ لا تشيخ.
وللعنوان ودرويش وسجننا قصة
أطول سأحكيها لاحقا في مقال آخر..
[email protected]
قلم السجين.. يوميات معتقل (10)
شخشخ جبالك يا طُرَة.. يوميات معتقل (12)