كل يوم بعدما يهبط المساء،
يتم إغلاق الأبواب الحديدية على مجمع العنابر، وينسحب الحراس إلى غرف المبيت
ومواقع الخدمة الليلية الخارجية، ولا يحدث أي ظهور للحراس أو فتح للأبواب، إلا في
حالات الطوارئ التي يتم إعلانها بصيحات استغاثة عالية والطرق على الأبواب بشدة،
وعادة تكون لمرض مفاجئ أو مصيبة أصابت أحد السجناء، أو مشاجرة عنيفة لم يستطع
"نبطشي العنبر" حلها.
وفيما عدا ذلك تبدأ حياة
الليل في العنابر بعد الانتهاء من صلاة العشاء الجماعية، ويحلو السمر في جماعات
متفرقة تتنوع أساليبها، إلا إذا كانت هناك حفلات عامة متفق عليها، أحيانا ندوات
دينية أو سياسية، أو اجتماعات لتنظيم المعيشة وتقديم طلبات للإدارة، أو أعياد
ميلاد، أو سهرات فرفشة لاستجلاب البهجة، تتضمن رقصا وغناء جماعيا وإلقاء نكت
وأشعار وكل شيء يصلح لكسر الملل وطرد الكآبة ودعم النفوس المتوجعة، وكثيرا ما تتسع
السهرات العامة لتشمل النزلاء في عدة عنابر متقاربة تتبارز في الخطابة وأشعار
العنبرة وتبادل التهاني والتعليقات والأدعية: باركوا لفلان اللي مروّح.. باركوا
لفلان اللي عيد ميلاده النهارده.. واللي ابنه نجح.. ادعوا لفلان المريض.. وهكذا.
وفي هذه المقال أحكي عن أول
ليلة أشهد فيها سمر
السجون في الليل:
عدت من نيابة أمن الدولة
غاضبا ومنهكا بعد احتجاجات ونقاشات عنيفة، دخلت إلى العنبر في ساعة متأخرة من
الليل (11 مساء تقريبا)، استقبلني الزملاء الساهرون بحفاوة وسؤال عن الأخبار ورغبة
صادقة في الاطمئنان، وأعدوا لي طعام العشاء في جو يغلب عليه الهدوء، وفجأة دوّى
صوت عال بين العنابر:
تبدأ حياة الليل في العنابر بعد الانتهاء من صلاة العشاء الجماعية، ويحلو السمر في جماعات متفرقة تتنوع أساليبها، إلا إذا كانت هناك حفلات عامة متفق عليها، أحيانا ندوات دينية أو سياسية، أو اجتماعات لتنظيم المعيشة وتقديم طلبات للإدارة، أو أعياد ميلاد، أو سهرات فرفشة لاستجلاب البهجة، تتضمن رقصا وغناء جماعيا وإلقاء نكت وأشعار وكل شيء يصلح لكسر الملل وطرد الكآبة ودعم النفوس المتوجعة، وكثيرا ما تتسع السهرات العامة لتشمل النزلاء في عدة عنابر متقاربة
شخشخ جبالك يا طرة..
سألت متعجبا: إيه ده؟
قال عادل: شرابية هيبدأ
السهرة.
ثم نادى عادل (الشرطي السابق)
على نبطشي العنبر وسأله باستغراب: هو حد جالو إفراج النهاردة في أي عنبر؟
قال النبطشي وهو يغالب النوم
في سريره: لأ.. مفيش مراسلات في الإدارة عن أي إفراج.
عاد الصوت العالي يكرر نفس
العبارة الغريبة:
"شخشخ جبالك يا طرة..
شخشخ جبالك يا طرة..
وابن المَرَة
اللي يجيب ورا"
يضحك عادل ويقول لشاب نحيف في
نهاية العشرينات من عمره: رد عليه يا زاكروتا.. بيلاغيك..
ينزل زاكروتا مدمن المخدرات
من سريره العلوي ويقف وراء الباب ويمد وجهه في "النضارة"، ويصيح بصوت
رفيع مصطنع:
يا راااب فووووك الدييقا (يا
رب فك الضيقة).
وتتداخل أصوات السجناء من
عنابر أخرى في صيحات قصيرة مكثفة:
موت بقى ابن الوسخة.. متتأخرش
علينا يا رب (يقصد الدعاء بموت الحاكم الظالم)
ما تعيطش يا عبد.. ربنا مش
على كيف حد (دعوة للصبر والتحمل، لمن يكثروا من الشكوى والبكاء على المظلومية)
ما تقولش الدنيا تلاهي.. انا
هقلبها ملاهي (يقصد بكلمة تلاهي.. الغم واللهو الخفي والظاهر)
باحوا ع اللي راحو (عتاب غامض
لمن يخوض في السيرة خارج السجن أو داخله أو يرشد المباحث عن زميله)
متقولش أنا أنا.. الرك ع
الجدعنه
ما تبص لغيرك.. مصيرك من
ضميرك
الغريب.. إن الغريب أحن من
القريب
يا حاكم السجن يا قابض على
اقفالو/ ليه حبست الجدع وبهدلتلو حالو؟
وتتواصل التعليقات التي تتحول
بعد ذلك إلى شعار أو "سلوجان" يشتهر به سجين معين ويكرره بين الحين
والآخر من "نضارة الزنزانة" التي تستخدم في أدوار كثيرة من بينها:
"الإذاعة الشعبية للسجن".
يعلو صوت أحدهم معلنا
الانتهاء من الهتافات القصيرة: أحلى مسا عليك يا شرابية.. قول واحنا السامعين.
فيسيطر شرابية على السهرة
بقصيدة طويلة شاملة متنوعة الأغراض تسمى "العنبرة"، حرصت في اليوم
التالي على استنساخها وتتبع إبداعات السجون، واستلفتني أن "العنبرة" هي
الفن الوحيد في العالم الذي يتم إبداعه وإلقائه داخل السجون بواسطة سجين، حيث إن
أي كتابة خارجية عن السجون لا ينطبق عليها تعريف ولا شروط العنبرة.
وهذا نص "عنبرة
شرابية" كما تلاه شفويا السجين الجنائي محمد عبد المنعم فهمي، وتم تدوينه
بالإملاء لأنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة:
عنبر كله يسمع/ حتى الحديد
يسمع/ حتى البلاط يسمع/ حتى الجنين في بطن أمه راح يسمع:
موسى نبي.. عيسى نبي.. محمد
نبي، وكل من له نبي يصلي عليه
أنا بقول:
بعد إذن الإدارة..
بعد إذن الإدارة الجبارة هقول
كلمتين
بعد ‘ذن البلوكامين هقول
كلمتين لإخواتي المروحين
أنا بقول:
دي دنيا خاينة يا صاحبي، لا
تآمنها لو زهزهت في يوم.. العاقل يخاف منها
والليل كما الغول كل الناس
تخاف منه.. إلا محمد الصعيدي الليل يخاف منه.
أنا عحبي على تلاتة:
الأول خايف
والتاني تايه
والتالت محتار
الأول خايف من ربه، مع إن رب
العباد ستار
والتاني تايه في دنيا الكيف، والكيف
غدّار
والتالت مرمي ورا القضبان،
محتار
بيعاتب دنيا قاسية ما بترحمش،
وناس جاحدة ما بتفهمش
يا ربي بناجيك وعشمي فيك
متغرب يقول مين أنا؟
أنا إنسان
جيت الدنيا دي بإذن م الرحمن
وأنت يا صاحبي يا بلدياتي
أنا هحكي لك قصة حياتي
أنا عاشرت البشر، وقلت ان
العشرة خلاص هتدوم
طِلْعِتْ لعبة قمار، واللي
بيفلس يقوم
أنا بقول عجبي وعجبي وعجبي،
والعجب ممدود..
على ناس قلوبهم سود
فيران وعاملين أسود
بياكلو في طبق واحد، ويقطّعوا
الواحد
وما يراعوش ربنا في بعض، يوم
واحد
وعجبي كمان على وردة، كانت
طارحة جوة بستان
كانت بتتعايق بجمالها يا اخويا،
وكانت توحد الرحمن
شافها بلبل من العلالي وقال لها
أنا عطشان
وأما رَوَتُهْ من حنانها قام
قطفها وطار..
ما يعرفش إن طبع الدنيا كما
تدين تدان
أنا لا قطفت وردة ولا دست على
بستان
أنا اتكويت بنار..
والنار صعبة علي المؤمن،
وأصعب على الكفار..
أصعب علي الطفل اللي في اللفة
وهو لسه صغار
وأصعب علي الوحش اللي ساكن
الجبل والغار
يا دنيا الشوم على المظلوم..
بتَمَلّي
فيكي فعل بطّال مع الأبطال..
بتَمَلّي
يا حسرتي في الطبق.. يا مرارة
الكاس
الأم ليه تتشتم؟ والأب ليه
ينداس؟
/ابن الحرام بره/ وابنك مقفول
عليه ترباس
أمايا.. يا أمايا
يا أحن عليا من فرشتي وغطايا
بوستين يا اما.. بوستين ع
الخد
والله يا اما ما زيك حد
لما جيت اشوفك يا اما وأسلم
عليكي يا غالية
منعني شباك حديد، وباب مقفول
كما السد
ولما السجان منعني
عملت صباعي قلم
لكن الحبر ودعني..
أنا يا أمي كنت زارع عود
لبلاب، وسايبه قصاد الباب
أمانة عليكي يا غالية تسقيه
من مية الأحباب
عشان لما يطول يضلل على
اخواتي وأهلي والأصحاب
قوليلي يا اما..
البنت اللي قلبي اختارها
قوليلي إيه أخبارها؟
لو حد جالها مكاني
بلغيها كلمة "مبروك"
على لساني
ملحق.. واللي ملحقش يلحق
أنا زعلان من ناس كانوا غلابة
مشيوا ورا الدنيا الكدابة
فاكرينها يا ناس هتدوم
يا با على دا زمان..
الأخ فيه صبح في أخوه طمعان
قالوا زمان إن الصبر حلو
وجميل
وأنا قلت طيب
كان ذنبي إيه؟.. ليه تجرحوني
وأنا طيب؟
اسمع يا اللي انت مغرور بمالك:
ليه نسيت أصلك؟..
الدنيا ضحكت في وشك نستك أصلك
بتبص للناس، ومن فعلك ظهر
أصلك
اسمع كلامي دا بكرة راح يضيع
مالك
وتشتكي حالك
وساعتها هيكون السبب أصلك
بقول:
يا اللي انت قاضي وعدلك بالأحكام
ماضي..
رضيت بحكمك، زي ما رضيت بحكم الزمان..
الشكوى لله، والغلابة لازم
يرضوا بالأحكام
أنا اللي طيش الشباب خد عقلي وغواني
خالفت شورة الكبير ساعة ما
نهاني
وطاوعت مشي الشيطان لحد ما أذاني
أنا بعت اللي ما يتباعوش وما يتعوضوش
تاني
واللي اشتريتهم بعمري باعوني
مجاني
ملحق.. واللي ما لحقش يلحق
الرزق يحب الخفية
والبت تحب الملاغية
أنا حريف في لعب الطُرَة والتنطيط
لو عاوزين تعرفو أنا مين
أنا محمد شرابية
اللي بيحب خرابها زي عمارها..
اللي يحب الدم ينزل من الوشوش
اللي يحب الروس تطير فاشوش
بدر البدور، والله قبضت اللي
في الصدور
هل عرفتوني؟
هل ناديتوني؟
هل جيتوا على نفسكو وبارزتوني؟
ما حصلش
ولا هيحصل
عشان أنا شرابية
عرفتوا أنا مين يا بتوع
المخدرات يا معفنين
يا حرامية يا حنيين
يا بتوع جرايم النفس يا متخطرين
يا بتوع السياسة يا فهمانين
ملحق.. واللي ما لحقش يلحق
أنا بقول:
واحد:
يردد السجناء من وراء الأبواب
في كل العنابر بصوت عال: واحد.. ويستمر ترديد السجناء للأرقام ويعلق عليها منشد
العنبرة:
واحد: يا موحد الواحد
اتنين: سيدنا الحسن وسيدنا
الحسين
تلاتة: تلاتة بالله العظيم
الطيبين رابحين
أربعة: أربع حيطان وباب حديد
بعدوني عنك يا ست الحبايب
خمسة: خمسة في عين الحسود
والعايب
ستة: ست الحسن والجمال، اللي
صانت الشرف والعفة وأنا غايب
سبعة: سبع الرجال اللي بعد
العز والغندرة نايم على الأرض كما الزكايب
تمانية: تمنوا الخير للصحايب
تسعة: تسعى في خير تبقى تمام
عشرة: العشرة ما تهونش إلا على
ابن الحرام
١١: يا عمود الاستئناف يا موزع
على السجون العمومية
12: يا بوابة السجن الأمامية
١٣: يا بوابة خلفية
١٤: يا سجن النفس يا مخالف
الشريعة الإسلامية
١٥: يا نُص الشهر
16: يا شدتي
١٧: يا غربتي
١٨: يا كربتي
١٩: ما حدش جالي في أزمتي
20: ".. أم" المرشدين
٣٠: يا آخر الشهر.. يا قبض
الموظفين.. يا رزق النشالين
٤٠: أربعين مسا على إخواتي
المروحين
٥٠: خمسينة تكفي صحبة الحلوين
٦٠: يا ضحكة شاب اتفاجئ بسن
المعاش
٧٠: كل راجل يلاقي في أصحابه
سبع جدعان.. أنا لقيت سبعين
٨٠: يا كده (يقصد الموت)
٩٠: يا كده.. يا إما كده
١٠٠: ١٠٠ مسا على الجدعان
انتهت عنبرة السجين، ولم ينته
السجن ولا السجان، لهذا نواصل في المقال المقبل الكتابة عن إبداعات السجون..
[email protected]
"لا شيء يثبت أني أحبك غير الكتابة".. يوميات معتقل (11)
العنبرة في شاوشانك.. يوميات معتقل (13)