كشفت خطة الإنقاذ المالي من أطراف دولية متعددة لمصر، والتي ظهرت بشكل مفاجئ وفي اللحظات الأخيرة من السقوط في هوة شبح الإفلاس، بقيادة دول ومؤسسات مالية دولية، عن عمق الأزمة
الاقتصادية في البلاد وتدهور أوضاع
المصريين إلى أدنى نقطة يمكن تحملها.
ومنذ بدء ما يسمى ببرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري مع صندوق النقد الدولي عام 2016 وخفض الجنيه 50 بالمئة فقد أدى ذلك إلى نتائج اقتصادية وخيمة تسببت في موجة جديدة بعد 6 سنوات من أزمة مالية طاحنة تسببت في فجوة زمنية وسعرية في الأسعار في أقل من عام.
إزاء حديث الحكومة المصرية عن خططها للإصلاح المالي والنقدي من أجل تحسين بعض المؤشرات الاقتصادية، أعرب خبراء اقتصاد ومحللون ماليون لـ"عربي21" عن إحباطهم من تجاهل الإصلاح الاقتصادي الحقيقي الذي ينعكس على حياة المواطنين بزيادة الداخل وزيادة قدرته الشرائية.
اظهار أخبار متعلقة
وكانت مصر على شفا أزمة مالية كبرى قبل أن تنقذها حزمة مساعدات وقروض ووعود استثمارية بنحو 60 مليار دولار، استحوذت
الإمارات على أكثر من نصفها باستثمار 35 مليار دولار في قطاع العقارات بتطوير مدينة رأس الحكمة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وكذلك قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار بدلا من 3 مليارات دولار، ووعد من الاتحاد الأوروبي بتقديم قروض ومساعدات قدرها 8.1 مليار دولار، إضافة إلى تمويلات من البنك الدولي بأكثر من 6 مليارات دولار.
إصلاحات مالية ومعاناة اقتصادية
ومنذ رضوخ القاهرة لشروط صندوق النقد الدولي قبل 8 سنوات وعلى رأسها رفع الفائدة وخفض قيمة الجنيه واصلت الحكومة المصرية تقديم المزيد من التنازلات وخفضت قيمة العملة المحلية مجددا 150% وهبط الجنيه من مستوى 7 جنيهات إلى حوالي 48 جنيها، وزادت الفائدة إلى 28% وأصبحت معاناة المصريين الاقتصادية أكبر وأشد وأعمق وغير مسبوقة.
تجاوزت حكومة عبد الفتاح
السيسي كل الخطوط الحمر وذهبت إلى أبعد نقطة لم تجرؤ عليها الحكومات السابقة، مثل تحرير سعر الصرف وخفض الدعم وتحويل الدعم العيني إلى نقدي وإنهاء دعم الكهرباء والمياه ورفع أسعار جميع الخدمات ورسومها إلى أرقام فلكية ورفع أسعار الطاقة 600% منذ عام 2014 بدعوى تحقيق إصلاحات مالية وخفض عجز الموازنة ولكنه يزيد بدلا من أن ينخفض.
وكان الحد الأدنى لأجور موظفي الدولة يبلغ 1200 جنيه عام 2013 أو ما يعادل 170 دولارا شهريا بسعر صرف العملة وقتها أما الآن فقد تضاعف 5 مرات إلى 6000 جنيه لكنه يعادل 128 دولارا، أي أقل 30% عما كان عليه قبل نحو 11 عاما رغم زيادة الأسعار أكثر من 500%.
ويعتمد غالبية السكان البالغ عددهم نحو 106 ملايين على نظام دعم سلعي يغطي قليلا من السلع الأساسية، وآخر للخبز، ويتجاوز عدد الفقراء رسميا الـ30 مليون شخص ولكن نسبة الفقر بحسب مؤسسات دولية أكبر من ذلك بكثير وتقترب من 60% لأنها لا تشمل تداعيات جائحة كورونا والأزمة الروسية الأوكرانية وخفض العملة المحلية 4 مرات.
وظل
التضخم طوال نحو سنتين عند أعلى مستويات مرتفعة، وصفها رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، خلال لقاء مع التجار لحثهم على خفض الأسعار، بأنها غير مسبوقة في تاريخ البلاد بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية وباقي السلع، وانتقد ارتفاع الأسعار إلى ما أسماه "الأرقام الفلكية".
لا إصلاح ماليا بدون إصلاح اقتصادي
في تقديره يرى الخبير الاقتصادي اليساري، هاني الحسيني، أن "الحكومة المصرية غامرت بالدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي منذ عام 2016، ولا يمكن الاعتماد على الإصلاح المالي والسياسات النقدية دون الإصلاح الاقتصادي؛ لأن القاعدة الأساسية للموارد وتدفق الأموال الحقيقي وتحسين الأجور والدخل هو الإنتاج وزيادة الصادرات، هذا هو الاقتصاد الحقيقي من زراعة صناعة وتجارة خارجية وتكنولوجيا وغيره والخدمات ذات العائد والجدوى مثل السياحة".
وأعرب عن اعتقاده في حديثه لـ"عربي21" أن "تحسين الوضع الاقتصادي للمواطنين كان يجب أن يكون على رأس أولويات الحكومة لا الحديث عن تخفيف المعاناة عن المواطنين طوال الوقت، نحن بحاجة إلى رؤية شاملة للإصلاح الاقتصادي تتجاوز مفهومها الضيق لدى الحكومة المتمثل في توفير الأموال لتدبير الأمور اليومية ولكنها تسوء يوما تلو الآخر والناس أصبحت غير قادرة على تحمل إجراءات دون نتائج إيجابية ملموسة على أرض الواقع".
اظهار أخبار متعلقة
وأوضح الخبير الاقتصادي أن "أي نجاح اقتصادي يشعر به في المقام الأول المواطن وليس بيانات حكومية، وطالبنا مرارا بتوحيد الموازنة العامة وأن تكون شاملة لزيادة الموارد وضم الصناديق الخاصة وأموال الهيئات وغيرها وعدم استقطاعها لصالح صناديق أخرى".
وطالب الحسيني "بضرورة استعادة القطاع الخاص دوره في النمو الاقتصادي، وتراجع دور الدولة والكيانات الموالية لها؛ لأن هناك كيانات تدير باسم الدولة، وتوفير فرص حقيقية، وترك المفاتيح الاقتصادية في أيدي الشركات ورجال الأعمال والمجتمع المدني".
شكوك حو تغيير المسار القديم
شكك نائب رئيس الوزراء ووزير التعاون الدولي سابقا، زياد بهاء الدين، في حدوث تغيير جذري في سياسات الحكومة الاقتصادية رغم حصولها على واحدة من أكبر حزم الاقتراض التي عرفتها مصر مؤخرا، والتي لم يكن هناك مفر من اللجوء إليها، وإلا كان السقوط في الهاوية أكيدًا.
مضيفا، في مقال له، أنه إذا كنا نجحنا في تجنب كارثة محققة بتدبير التمويل في اللحظة الأخيرة، فإن هذا لا يعنى الخروج من الأزمة، بل إن علينا انتهاز الفرصة واتخاذ الإجراءات وتطبيق السياسات اللازمة لتجنب العودة إلى ذات الوضع مرة أخرى ولبدء الإصلاح الاقتصادي الحقيقي والمستدام.
الحكومة سقطت في الإصلاح المالي والاقتصادي
اشترط خبير أسواق المال والخبير الاقتصادي، الدكتور وائل النحاس، "تحقيق نجاحات اقتصادية تنعكس على المواطنين بضرورة السيطرة على التضخم من خلال السيطرة في الأساس على الاقتراض والعجز الكلي للموازنة العامة، وتخفيض الدين العام، إلى جانب تصفية حساب السحب على المكشوف لدى البنك المركزي الذي يؤثر بالسلب على الأداء المالي، أزمتنا الحقيقية أننا غير قادرين على تحقيق نسب نمو فعلية والسيطرة على التضخم وعمل دخل حقيقي للفرد.. زيادة الأجور لا تعني تحسين الدخل. ما نريده هو زيادة القوة الشرائية للعملة".
مضيفا لـ"عربي21": "الإصلاح المالي الذي تستهدفه الحكومة هو معالجة التشوهات المالية في أرقام الموازنة العامة للدولة وحتى الآن لم نحقق الإصلاح المالي المطلوب وفي كل مرة تعجز الحكومة عن السيطرة عن العجز وحتى بعد توحيد الموازنة وضم جميع الهيئات الاقتصادية والصناديق الخاصة زاد العجز"، مشيرا إلى أن "الإصلاح الاقتصادي يعني إصلاح أحوال المواطنين الاقتصادية من خلال زيادة موارد الدولة ولكن ليس على حساب المواطن عبر فرض الضرائب والرسوم والدمغات وتعظيم الاستثمارات المباشرة وتقليص العجز".
وصف النحاس التدفقات المالية الأخيرة التي حظيت بها مصر بأنها "قبلة الحياة ومجرد وعود من المؤسسات الدولية ولم يتحقق منها شيء غير جزء من أموال صفقة رأس الحكمة، ولم نحصل على دولار واحد حتى الآن. نحن نعيش الآن بقوة دفع الصفقة مع سياسة الترويع التي تمارسها الدولة لتخلي المواطنين على الدولار، ولا يوجد تغيير حقيقي في المسار الاقتصادي، ونسير على نفس المنوال وهو التوسع في الاقتراض وليس في الاستثمار الجاد الذي ينعكس على حياة المواطنين".