عقب
مفاجأة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أعلنت حكومة الاحتلال عن أربعة قرارات فورية: إعلان حالة الحرب
للمرة الأولى منذ حرب السادس من تشرين الأول/ أكتوبر عام ١٩٧٣، ودعوة الاحتياط بصورة
واسعة، وإعلان بروتوكول هانيبال الذي يتعلق بالأسرى من الجنود وقت الحرب، والإعلان
عن الأهداف "المعلنة" للحرب على قطاع
غزة؛ والتي تتمثل بالقضاء على حماس،
واستعادة الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة بالقوة العسكرية، وتأمين قطاع غزة بعد الحرب
ضمن ترتيبات تضع حدا لتكرار ما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
لم
تكن القرارات المعلنة التي اتخذتها الحكومة
الإسرائيلية تغطي الصورة الكاملة للنوايا
الحقيقة، وإنما كانت ثمة قرارات مضمرة (غير معلنة) تعكس الأهداف الاستراتيجية للدولة
العميقة التي تنسجم مع قواعد العقيدة السياسية الصهيونية التي تأسس عليها الكيان الإسرائيلي،
وتشكل الخريطة الذهنية للتفكير الاستراتيجي لقادة الاحتلال، وهي بطبيعة الحال خريطة
غير مرتبطة بما حدث صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بل هي خطط مضمرة وبسيناريوهات
معدة مسبقا بالأدراج ضمن الخطط المؤجلة برسم التنفيذ في الوقت الذي تنضج فيه الظروف
الدولية والإقليمية، وتتكفل الظروف والضغوط والعمليات على الأرض بفرضها بقوة الأمر
الواقع دون ضجيج.
تكن القرارات المعلنة التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية تغطي الصورة الكاملة للنوايا الحقيقة، وإنما كانت ثمة قرارات مضمرة (غير معلنة) تعكس الأهداف الاستراتيجية للدولة العميقة التي تنسجم مع قواعد العقيدة السياسية الصهيونية التي تأسس عليها الكيان الإسرائيلي، وتشكل الخريطة الذهنية للتفكير الاستراتيجي لقادة الاحتلال، وهي بطبيعة الحال خريطة غير مرتبطة بما حدث صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
إن
الهدف الاستراتيجي المضمر يتمثل بتحويل الكذبة التاريخية "شعب بلا أرض لأرض بلا
شعب" إلى حقيقية جيوسياسية وجيوثقافية تقوم على تهجير الشعب الفلسطيني بأي وسيلة
ممكنة: الإبادة الجماعية أو الترحيل المنهجي من فلسطين التاريخية. ولم تعد هذه النوايا
حبيسة الوعي الجمعي الإسرائيلي المضمر وحسب، بل باتت تخرج للملأ وتحتل الفضاء في صورة
أفكار ومخططات ومشاريع تطرحها أو تصغط بها حكومات الاحتلال كلما كان الأمر متاحا؛ على
دول عربية وقوى دولية مؤثرة على المنطقة.
ولم
يغب هذا الحلم السياسي عن الحضور على الأجندات الدولية والإقليمية في أي وقت، سواء
عبر الضغط بالقوة الناعمة "التفاهمات الدبلوماسية والاغراءات الاقتصادية"،
أو عبر الضغط بالقوة الخشنة عبر العمليات العسكرية وتنفيذ سياسية الأرض المحروقة وحرب
الإبادة والتطهير العرقي كما حدث في العامين ١٩٤٨ و١٩٦٧ وما بينهما وما بعدهما بصور
مختلفة، وكما يحدث الآن بصورة وحشية ومكثفة في قطاع غزة عن طريق حرب الإبادة الجماعية،
وفي الضفة الغربية عن طريق القضم والخنق وصولا إلى تصفية القضية الفلسطينية برمتها.
ثمة
ما يفضح هذا الهدف الاستراتيجي المضمر بالدلائل والمؤشرات التي باتت أكثر انكشافا ووضوحا
منذ العدوان على قطاع غزة، وذلك عبر: البيانات السياسية الصريحة والمباشرة من قيادات
وشخصيات سياسية وعسكرية وحزبية، وعبر تسريبات صحفية وإعلامية مدركة في إطار لعبة تنسيق
المواقف وتوزيع الأدوار، وعبر المناكفات السياسية والاستقطاب الشعبي بغية السباق بالاستحواذ
على تأييد الجمهور الإسرائيلي، وعبر التفاهمات السياسية الإسرائيلية والضغوط الأمريكية
والغربية على دول الجوار وعلى بعض الدول العربية والإقليمية لتسهيل تمرير المشروع
وتمكينه ضمن رؤية أحادية تقوم على تجاهل الحقوق الوطنية الفلسطينية، والقفز عليها لصالح
ترتيبات إقليمية جديدة في المنطقة.
إن
الهدف الاستراتيجي لتهجير الشعب الفلسطيني يتوخى في التحليل النهائي؛ أولا: احتواء
العوامل والفرص التي يمكن أن تشكل روافع لقيام دولة فلسطينية في المستقبل سواء كانت
عوامل طبيعية كالعامل الديمغرافي، أو كانت عوامل جيوسياسية ذات صلة بالتفاعلات والتغيرات
في البيئة الخارجية، وثانيا: تجريف الأسس التي تقوم عليها قرارات الشرعية الدولية ذات
الصلة بالقضية الفلسطينية، وتفريغها بقوة الأمر الواقع من مضامينها السياسية، وثالثا:
فرض فكرة الدولة اليهودية جيوسياسيا وثقافيا في كل فلسطين التاريخية وعلى المنطقة والعالم؛
بما في ذلك القدس عاصمة موحدة للشعب اليهودي كحقيقة ثابتة وناجزة، ورابعا: تصدير القضية
الفلسطينية كمشكلة إلى خارج حدود الكيان الإسرائيلي بوصفها مشكلة عربية داخلية.
لقد
أظهر العدوان على قطاع غزة بما لا يدع مجالا للشك؛ أولا: أن الاستراتيجية السياسية
المضمرة وأدواتها الوحشية غير المسبوقة هي جزء مركزي من العقيدة السياسية الصهيونية، ومن
الخطط والأدوات والآليات الإسرائيلية المدرجة مسبقا وبرسم التنفيذ، وتعمد وضع الشعب
الفلسطيني المرابط على أرضه بين خياري الإبادة الجماعية أو التهجير القسري، وثانيا:
أن حل الدولتين بات جزءا من الماضي، وأن القرارات الدولية ذات الصلة لا تساوي الحبر
الذي كتبت به، وثالثا: أن من يملك القوة هو من يملك النفوذ والتأثير في المحافل الدولية
وعلى الأرض، وأن القيم الغربية وديباجة ميثاق الأمم المتحدة ليستا أكثر من أكذوبة تاريخية،
ورابعا: أن الكتلتين العربية والإسلامية اللتان تتكونا من (٥٧) دولة ليس لهما محل من
الإعراب في هيكل القوة الدولية، ولا تؤثران بصورة فعلية في أي جملة سياسية ذات معنى،
وهما ليستا أكثر من توابع اختارت موقع المفعول به في التفاعلات الجيوسياسية.
ليس
محض صدفة أن تتخذ حكومة الحرب الإسرائيلية أهدافا عسكرية عالية السقف وذلك لتوفير ذريعة
ووقت كاف لإبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أو تهجيره بصورة قسرية خارج حدود فلسطين
التاريخية، وليس خارج السياق أن تمارس ذات الحكومة بروباغندا إعلامية سوداء تُستخدم
فيها كلمة حماس المصنفة أمريكيا وغربيا منظمة "إرهابية" كناية مضمرة عن الشعب
الفلسطيني في قطاع غزة، لتتماهي فيها الحركة السياسية بالشعب الفلسطيني بوصفهما
وجهين لعملة واحدة، ابتغاء وضعهما في سلة واحدة في سياق التأليب السياسي الدولي، والاستهداف
العسكري الإسرائيلي، وتبرير حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسياسة الأرض المحروقة،
وهو الأمر الذي أرخى الحبل الإسرائيلي على غاربه، وجعل المستويات السياسية والأمنية
والعسكرية، والجماعات الدينية والأحزاب السياسية والقوى الشعبوية، والمواقع الإعلامية
والمنابر الصحفية الموجهة والمعبأة مسبقا، أن تتجاوز الحدود بانتهاك الخطوط الحمراء
كلها، وطلب إبادة الشعب الفلسطيني بقنبلة نووية، ومنع دخول الإمدادات الاغاثية والطبية،
وتدمير البنية الاقتصادية والمعيشية والصحية.. إلخ.
الغرب الاستعماري قد أدرك بعمق طريقة تفكير الشعب العربي وسلوكه وردود فعله، وبضمنه الشعب الفلسطيني، وبناء على هذا الإدراك العميق اختار سيناريو إدارة مصالحه في المنطقة عبر وكلاء محليين أبرم معهم صفقة تاريخية تم بموجبها مبادلة الزعامة المحلية مقابل المصالح الاستراتيجية، والتماهي مع إرادة القوى الاستعمارية باستبعاد وعزل الشعوب عن مكانتها الطبيعية في هيكل السلطة، وفي مؤسسات صنع القرار وتقرير المصير
وعلى
الرغم من خطورة الوضع، فإن المواقف السياسية الرسمية الفلسطينية والعربية والإقليمية
والدولية تجاه هذه الاستراتيجية المضمرة والخطرة لم ترقَ إلى مستوى التهديد الاستراتيجي
الذي يعتدي على حياة الشعب الفلسطيني وانسانيته ووجوده وحقوقه وحاضره ومستقبله، وينتهك
قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، والمعاهدات الدولية والاتفاقيات الخاصة
بحقوق الإنسان بصفة عامة، وحقوقه وقت الحرب بصورة خاصة، ويضع المنطقة برمتها أمام معضلات
أمنية خطيرة تهدد أمنه واستقراره، وتفضي إلى تفشي الفوضى والتطرف والكراهية والعنف
والاستنزاف والانسداد بالأفق السياسي، وإلى ترك المنطقة في حالة من التوتر والتصعيد
وانعدام الأمل واليقين، والتأثير على مكانتها وقدراتها وتنميتها ورفاهيتها وأولوياتها،
وفرص استعادة موقعها في خريطة التفاعلات الجيوسياسية، وفي هيكل القوة الدولية والإقليمية.
إن
الشعب الفلسطيني بعد تجربة حرب النكبة الأولى، وما واكبها وما بعدها، ما عاد يقبل الرضوخ
لأي قرار يستنسخ التجربة البائسة، ولن يستسلم لإرادة القوى التي تقرر ذلك، أو تتواطأ
على ذلك، ولا التي تتخاذل عن منع ذلك، ولا التي تتاجر بنكبة أخرى وتتخذها بضاعة، ولا
الذين شروا دم الفلسطيني بثمن بخس لمصالح يصيبونها، أو مراكز يتبوأونها.
ربما
نستطيع أن نستنج بصورة واضحة لا لبس فيها أن الغرب الاستعماري قد أدرك بعمق طريقة تفكير
الشعب العربي وسلوكه وردود فعله، وبضمنه الشعب الفلسطيني، وبناء على هذا الإدراك العميق
اختار سيناريو إدارة مصالحه في المنطقة عبر وكلاء محليين أبرم معهم صفقة تاريخية تم
بموجبها مبادلة الزعامة المحلية مقابل المصالح الاستراتيجية، والتماهي مع إرادة القوى
الاستعمارية باستبعاد وعزل
الشعوب عن مكانتها الطبيعية في هيكل السلطة، وفي مؤسسات
صنع القرار وتقرير المصير، وأفسحت هذه القوى للوكلاء المحليين مجال التعامل مع المخاطر
نيابة عنها، مع العمل على تحسين صورة الغرب الاستعماري، والدفاع عن مصالحه في المنطقة،
الأمر الذي جعل القوى الغربية تجني عوائد تلك المصالح دون أن تدفع ثمنا كانت مضطرة
لدفعه إبان حقبة الاستعمار التقليدي المباشر.
ولكن
الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي، سواء أدركا تلك الحقيقة أو لم يدركاها،
فإن سلوكهما المبني على الغطرسة وفائض القوة يفضي إلى كارثة لا قبل لهما بها بسبب تجاهل
تلك الحقيقة.
إن
الشعب الفلسطيني لن يقبل أن يتحول إلى لاجئ مرة أخرى، وإن الشعب العربي لن يقبل تكرار
النكبة، وإن الطريق إلى منع تكرار التجربة سيكون عسيرا ومكلفا إذا لم يتدارك الحكماء
ذلك؛ فالقانون الطبيعي للأشياء يقرر أن الضغط يولد الانفجار، وهي نتيجة لا أحد عاقلا
ينتظرها، ولا أحد مخلصا يرجوها، لأن ما بعد مخطط تهويد فلسطين التاريخية هو تهويد ما
يتجاوز حدودها في سياق شعار إسرائيل التاريخي: "أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى
النيل"، وإذا لم يتحقق ذلك بفائض القوة العسكرية فإنه قد يتحقق بفائض القوة الناعمة
لرسم صورة شرق أوسط جديد تختفي فيه هوية المنطقة التاريخية والثقافية، لصالح هوية جيوسياسية
وجيوثقافية مضادة.
من الأهمية بمكان في سبيل إعادة التموضع في هيكل القوة الدولية أن تحول الكتلة العربية مفهوم "الشعب" كنظير للدولة الوطنية إلى مفهوم "الأمة" كنظير للدولة الجمعية، في أي صورة واقعية وعملية تتوافق عليها تلك الكتلة. ولعل عجز العالم، بما فيه الكتلتان العربية والإسلامية، عن الانتصار للمذابح التي تنفذ بصورة منهجية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وعن إصدار قرار دولي من مجلس الأمن لوقف العدوان الإسرائيلي لأسباب إنسانية لهو دليل على هشاشة النظام الدولي وانحيازه
إن
مركز الثقل الاستراتيجي الذي يجعل من الكتلة العربية شيئا ذا قيمة في العالم يتمثل
في إعادة بناء الذات الجمعية بصورة منهجية وواقعية وذكية، والاستثمار بمصادر القوة
الكامنة، واستعادة مكانتها وموقعها ودورها وحدود تأثيرها، وقطع الطريق على أية محاولات
دولية وإقليمية لإعادة هيكلة المنطقة، ورسم خرائطها الجيوسياسية وفق مصالح تلك القوى
وترتيباتها، وعدم تكرار ما حدث قبل أكثر من مائة عام (١٩١٦) عندما عُزلت المنطقة عن
تقرير مكانتها وهويتها ومسارها ومصيرها.
وقد
يكون من الأهمية بمكان في سبيل إعادة التموضع في هيكل القوة الدولية أن تحول الكتلة
العربية مفهوم "الشعب" كنظير للدولة الوطنية إلى مفهوم "الأمة"
كنظير للدولة الجمعية، في أي صورة واقعية وعملية تتوافق عليها تلك الكتلة. ولعل عجز
العالم، بما فيه الكتلتان العربية والإسلامية، عن الانتصار للمذابح التي تنفذ بصورة
منهجية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وعن إصدار قرار دولي من مجلس الأمن لوقف العدوان
الإسرائيلي لأسباب إنسانية لهو دليل على هشاشة
النظام الدولي وانحيازه، واحتكار قوة
أو مجموعة قوى للقرار الدولي، وهو بلا شك نظام أممي يعاني من خلل بنيوي وأخلاقي جسيمين،
ولا يمكن أن يوثق به أو أن يستمر على هذا النحو.
وفي
سياق تركيز القوة العربية، ثمة حاجة استراتيجية لردم الفجوة بين النظام السياسي العربي
وشعوبه بصورة دستورية ومؤسسية بنّاءة ومنتجة تستثمر بمحصلة القوى الناجمة عن تجميع
القوى المشتتة؛ في اتجاه يلبي مصالح الدول والمنطقة والشعوب معا، ولإنهاء حالة الانسداد
والاستعصاء والاستنزاف التي تسود العلاقة بينهما.