كتب

رحلة إيثيريا إلى فلسطين.. قصة التأسيس للحج المسيحي في كتاب

تكشف الكتابة الغنية لإغريا [إيثيريا]عن بعد مهم، ومركزي، في جوهر الحج المسيحي، الذي ازداد قوة، في السنوات التي تلت زيارتها.
تكشف الكتابة الغنية لإغريا [إيثيريا]عن بعد مهم، ومركزي، في جوهر الحج المسيحي، الذي ازداد قوة، في السنوات التي تلت زيارتها.
كان أهم ما تمخضت عنه رحلة القديسة هيلانة إلى فلسطين، أنها وضعت، "أُسس الحج المسيحي إلى الأماكن المقدسة، واعُتبرت، هي ذاتها، أول حاجة مسيحية، وليسير على نهجها القديس جيروم، وشعب الكنيسة المسيحية كله، من بعد". ومن بين من جاؤوا على هدي هيلانة إلى الشرق، إيثيريا (إغريا(Egria)، إيغيريا)، وهي إحدى المسيحيات القادمات، من غرب أوروبا، للقيام برحلة حج إلى فلسطين، غير أن أهمية تلك الرحلة لا تقف عند زيارتها للأماكن المقدسة، في فلسطين، فحسب، بل لأنها مكثت ما قرب من ثلاث سنوات في الشرق، زارت خلالها، الأماكن الدينية، في مصر، وبلاد الشام، وبلاد الرافدين، أيضًا؛ وبهذا تعطينا رحلتها صورة تاريخية مهمة باكرة، عن البقاع الدينية في الشرق، في القرن الرابع الميلادي، وصورة ، أيضًا، عن الاحتفالات، والأعياد الدينية النصرانية، في تلك الفترة؛ ولعل هذا ما جعل رحلتها تحتل أهمية بالغة بين المؤرخين، لاسيما، وأنها دُوّنت باللاتينية، لغة الغرب الأوروبي، آنذاك، وليس باليونانية لغة الشرق المسيحي، ما جعل لها رواجًا، وسمعة ذائعة، بين الأوساط الدينية الأوروبية، لاسيما، الكاثوليكية.

من هي إيثيريا (إغريا (Egria)، إيغيريا)؟

لا توجد إشارة صريحة إلى شخصية إيثيريا، باستثناء أنها جاءت من أوروبا الغربية إلى فلسطين، في  رحلة حج، في القرن الرابع الميلادي، وبهذا فتحت الباب لاجتهادات العلماء، فمنهم من قال إنها سيلايا الأكويتنية (Silva of Aquitania)، أخت روفينوس (Rufinus)، وزير الإمبراطور ثيودوسيوس (Theodosius)؛ أو إنها ناسكة عذراء، أشار إليها فاليريوس (Valirus)، في خطابه إلى الرهبان، في فيرزو (Vierzo)؛ وربما كانت إيثيريا رئيسة لأحد الأديرة الغربية، زارت الشرق، في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس.

نتعرف عليها من رسالة فاليريوس، الراهب الغالي (GALICIEN) من القرن السابع، بعث بها إلى إخوانه رهبان بييرزو، ممتدحًا راهبة عذراء فاضلة قامت بزيارات حج الى ديار الشرق، اسمها ايجريا (EGERIA).

لا توجد إشارة صريحة إلى شخصية إيثيريا، باستثناء أنها جاءت من أوروبا الغربية إلى فلسطين، في رحلة حج، في القرن الرابع الميلادي،
تعكس اللغة التي استخدمتها إيثيريا، في تسجيل وقائع رحلتها إلى الشرق، بأنها كانت على قدر من التعليم؛ كما أنها كانت على دراية جيدة بالعهدين، القديم والجديد؛ وأنها كانت على دراية ـ لا يمكننا تحديد قدرها ـ باللغة اليونانية، وهو ما تعكسه بعض المصطلحات اليونانية، الواردة بين ثنايا وصف رحلتها، ويعكس نص رحلتها أنها كانت قوية الملاحظة، وعلى إدراك كبير بما تراه، وتسمعه، أينما ذهبت، وهذا يجعل سردها للأحداث مثير، دائمًا، برغم غموض بعض العبارات الواردة في نص رحلتها. حتى أن بيزلي قال عنها "لو أن كل ما وصلنا من الأخبار كتبه أشخاص على شاكلتها، وكانت لهم ثقافة علمية، وخبرة عالمية، لكانت معرفتنا عن الشرق أقرب إلى الصواب مما هي الآن".

مسار الرحلة

معلوماتنا شحيحة جدا بشأن انطلاقها من موطنها (غاليسيا، أو جنوب الغال) إلى القدس فلعلها ركبت البحر حتى القسطنطينية، لأن الراهب فاليريوس يذكر البحار وامواجها الهائجة، أو لعلها سلكت طريق دوميسيا الملوكي. لكنها على الأكثر سلكت طريق البر من القسطنطينية إلى القدس، والطريق السالك هذا معروف، يمر من خلقيدونية عبر بيتينا وغلاطية وقبادوقية، ليقطع جبال طوروس، وينحدر نحو طرسوس، وصولاً إلى انطاكية. ومن جملة ما قامت به، زيارتها لضريح أوفيميا ثم خلقيدونية. ثم سلكت طريق الساحل، مرورا بسيكامينا (حيفا). ومن المحتمل جدا انها زارت جبل الكرمل.

أما بعد حيفا، فثمه أكثر من احتمال في أي طريق سلكته، فهل أكملت طريق الساحل عبر لدّة، كما هو الأرجح، أم سارت باتجاه عماوس، أم أنها اتجهت من قيصرية إلى القدس عبر السامرة؟ وصلت إيجريا القدس أيام عيد الفصح وعيد القيامة من العام 381، ولم تبارحها بشكل نهائي إلا بعد أعياد القيامة سنة 384، لكنها قامت خلال هذه المدة بعدة أسفار إلى أماكن عديدة، واستغرقت بعض أسفارها هذه أشهرا بطولها.

الكتاب المقدس مرشد!

نرى في كتابات إغريا (Egria) [إيثيريا]، أن "الكتاب المقدس" معها، كأنه دليل إرشاد سياحي، فكانت كلما تعرَّفت هي ورفقاؤها، على موقع مقدس، قامت بقراءة الفقرة الخاصة به في "الكتاب المقدس" "في البقعة نفسها" ـ وهي العبارة التي يتكرر ورودها، فيما ترويه عن رحلتها.

وبحسب شلومو ساند، يؤكد كتاب إغريا (Egria) [إيثيريا]، الخطوط العريضة للجيو ـ لاهوتية الجديدة. فقد وصفت فيه جميع المواقع المقدسة في الشرق الأوسط، بدءًا من الطرق، التي سار فيها بنو إسرائيل القدامى، وحتى المسيرة الأخيرة ليسوع في القدس. ولم تكتفِ بـ"بلسطينا، هي أرض الميعاد"، بل سعت للتعرُّف على حران، التي تقع في بلاد ما بين النهريْن، التي وُلد فيها إبراهيم، وبالطبع، أيضًا، صحراء سيناء الساحرة، التي قاد فيها النبي موسى أسباط إسرائيل. أما الأرض المقدسة، فإنها تصفها، بالتفصيل، وبشكل خاص، مدينة القدس، الأغلى من كل شيء.

يؤكد كتاب إغريا (Egria) [إيثيريا]، الخطوط العريضة للجيو ـ لاهوتية الجديدة. فقد وصفت فيه جميع المواقع المقدسة في الشرق الأوسط، بدءًا من الطرق، التي سار فيها بنو إسرائيل القدامى، وحتى المسيرة الأخيرة ليسوع في القدس.
وتحاول إغريا ألا يفوتها أي موقع مذكور في التناخ المقدس خاصتها. ووفق شهادتها (إغريا تكتب بضمير المتكلم)، فإنها "فضولية جدًا"، ولم تكفّْ عن ملاءمة معطياتها الجغرافية للنصوص، وتحاول، بتحمس شديد، أن تستكمل معلومات غير مفصَّلة، بشكل كاف، في المصدر المكتوب، وذلك بواسطة طرح أسئلة على سكان المكان. لكنها لا تهتم بأي شكل من الأشكال بالحاضر، ومثل الرحالة من بوردو، فإن (السكان) المحليين لا يجذبون اهتمامها، بشكل خاص، وذلك، بالطبع، باستثناء قيامهم بطقوس دينية، تثير مشاعرها، وتملأ قلبها حبورًا.

تكشف الكتابة الغنية لإغريا [إيثيريا]عن بعد مهم، ومركزي، في جوهر الحج المسيحي، الذي ازداد قوة، في السنوات التي تلت زيارتها. فقد تحركت في الزمان أكثر من الحيّز. وكانت إغريا بحاجة إلى الماضي البعيد، كي تُقوّي، وتُرسي أسس عقيدتها. وعليه، فإن معرفة المواقع المقدسة، هي جزء من منح قاعدة واقعية، لمشاعر دينية مجردة جدًا. ويمتزج التديُّن الشديد، العاجل، والزاهد، عندها بالتحقيق العلمي، ويبدو أن الجغرافيا بالنسبة لها، تهدف، في المقام الأول، إلى تعزيز الميثوتاريخ. وهي لا تشك، بتاتًا، في معجزات عجائب القصص التناخية المسيحية، لكن الأماكن الملموسة تستخدم كتأكيد مجدّد لحقيقة، ودقة المروي: تمنح الأرض شرعية للحقيقة الألوهية وفيها بطريقة أو أخرى، دليل قاطع على وجودها.

مصادر الرحلة:

اكتشف العلامة غاموريني (G.F. Gamurrini) عام 1884 مخطوطًا (VI,3 ARETINUS)، مكتوباً على الرق مكونا من 34 ورقة في مكتبة اخوة مريم العذراء (Fraternita S. Maria)، في مدينة اريتزو Arezzo)) بايطاليا، ونشر بحثا في الموضوع. مصدر المخطوط جبل كاسينو (Monte Casino)، بحيث كان احد الرهبان البندكتيين قد استنسخه في القرن الحادي عشر، و اودعه مكتبة الدير الشهير.

 وظهر بعد دراسات بأن بطرس شماس الدير، كان قد استخدم نص رحلتنا هذه في كتابه الموسوم "رحلة الى الأراضي المقدسة"، الذي كتبه في النصف الأول من القرن الثاني عشر. وثمة آخرون استخدموا الرحلة في كتاباتهم، كما في مخطو ط محفوظ في مدريد، يرجع إلى القرن التاسع. ويكون بذلك أقدم من الاقتباس المذكور انفاً. واستخدمها كذلك انسيليوبس في كتاب المفردات، وهذا ايضاً من القرن التاسع للميلاد. ولنا رسالة مهمة كتبها فاليريوس دي بيرزو في مدح "الطوباوية" إيجريا تفيدنا كثيراً في التعرف على سائحتنا هذه. ولابد من التنبيه بأن النص الذي كان أمام فاليريوس أكمل من نص الرحلة الناقص الذي بين أيدينا.

يقع في مخطوط الرحلة ضمن مجموع خطي يشتمل على: أسرار هيلاريوس من بواتييه (الأوراق 1ـ13)  نشيدان لهيلاريوس (الورقتان 14 و15)، كتاب الرحلة (الأوراق 16 ـ 37)، ولم يعثر حتى اليوم على مخطوط اخر للرحلة، انما لنا كما ذكرنا ما ينيرنا ويفيدنا في رسالة فاليريوس ورحلة بطرس الشماس بنوع خاص.

وقد اعتمدت الترجمة العربية عن رحلة إيثيريا (إغريا (Egria)، إيغيريا) على هذه المصادر، وقام بتحقيق الرحلة المرحوم الأب د. يوسف حبّي، واعدها ونشرها المطران حبيب هرمز، وقد جاءت الترجمة تحت عنوان: "رحلة ايجيريا إلى فلسطين والشرق (380- 384م)"، إصدار منشورات ابرشية البصرة والجنوب الكلدانية (13)، البصرة، 2020.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم