تقارير

تراث ابن تيمية.. جدل لا ينتهي آخره إطلاقاته للتواتر بكثرة

باحثون وعلماء يناقشون إرث ابن تيمية الفقهي- (عربي21)
باحثون وعلماء يناقشون إرث ابن تيمية الفقهي- (عربي21)
ترك العالم الفقيه الأصولي، المتبحر في سائر علوم المنقول والمعقول، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تراثا علميا ضخما وكبيرا، اشتمل على كتابات وبحوث في العقائد والفلسفة وعلم الكلام، والفقه والأصول، والسنة والبدعة، والتاريخ وما وقع بين الصحابة من فتن وخلافات وقتال، ومناقشات ومجادلات لكثير من الفرق والطوائف الإسلامية.

ومن المعروف عنه في بحوثه وكتاباته سعيه الحثيث لإضفاء على ما يقرره ويخلص إليه موافقته التامة لما كان عليه السلف، وأهل الحديث، بما يعني أنه في كل تقريراته وخلاصاته يمثل السلف الصالح، ويصدر عن ذلك، وأن كل ما يخالف تلك التقريرات التي سطرها في كتبه يبتعد عن مقولات السلف وما كانوا عليه، لا سيما في العقائد.

ثمة ردود ومناقشات كثيرة، قديما وحديثا لما كتبه وقرره ابن تيمية، وجرت محاكمات ومداولات في تحديد الموقف من أفكاره وأطروحاته، ومدى تأثيره على أفكار وتوجهات أتباعه ومريديه، منها ما كان موضوعيا في بحثه ومناقشاته، ومنها ما كان متحاملا عليه، لا سيما ما كان منها من خصومه المذهبيين في العقائد ومخالفيه في اختياراته الفقهية والمنهجية.

من آخر القضايا والمسائل المثيرة للانتباه في ذلك الجدل، ما ذكره مؤخرا الأكاديمي والباحث والمؤلف السوري، المتخصص في النقد الحديثي، الدكتور عداب الحمش في انتقاده الشديد لإطلاقات ابن تيمية كلمة التواتر في كتاباته ومناقشاته، فقد بلغت (1368) مرة باشتقاقاتها المختلفة (متواتر، تواتر، حد التواتر)، وقد تتبعه في بعضها نافيا عنها أن تكون من المتواتر، واصفا إياها بـ"دعاوى التواتر الباطلة"، ما يعني تهويل ابن تيمية ومبالغاته في إطلاقاته تلك، وهو ما يُلبس الأمور على قارئيه ومتابعيه.


                                             عداب الحمش.. كاتب وباحث سوري

من الأمثلة التي ساقها الحمش في منشوره على الفيسبوك قوله "قال في الرد على الإخنائي (ص:275): "وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول لا يُشْرع الوصول إلى قبره، لا للدعاء له، ولا لدعائه، ولا لغير ذلك"، ليتساءل الحمش بعدها "أين الأحاديث المتواترة في ذلك، وأين الإجماع"؟.

ومثال آخر مما أورده في انتقاده لإطلاقات ابن تيمية للتواتر في كتبه ما نقله من كتاب الاستقامة لابن تيمية (2:185): "تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ما يصيب المسلم من أذى شوكة فما فوقها، إلا حطّ الله بها خطاياه، كما تحطّ الشجرة اليابسة ورقها" لافتا إلى أنه "ليس في هذا الباب حديث متواتر، ولا حديث مشهور، إنما لدينا حديثان غريبان، أحدهما عن عائشة، والآخر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري مقرونين.

وكان المثال الثالث حول ما قاله ابن تيمية في كتابه (الجواب الصحيح 1/414): "انشقاق القمر، قد عاينوه وشاهدوه، وتواترت به الأخبار" ليعلق الحمش بقوله "وليس في انشقاق القمر حديث متواتر، إنما هو حديث عبد الله بن مسعود، وعنه أخذه ابن عباس وأنس، فيما يترجح لديّ، لأنّ الذين يصححون حديث انشقاق القمر: يقولون إنما كان ذلك في مكة قبل الهجرة، ولم يكن ابن عباس وأنس مخلوقين بعد".

الحديث المتواتر يُعرف على أنه "ما رواه جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب أو صدروه منهم اتفاقا من غير قصد، ويستمر ذلك من أوله إلى آخره، ويكون مرجعه إلى الحس من مشاهد أو مسموع أو نحوهما.. ويقسم المتواتر إلى قسمين: لفظي ومعنوي، فاللفظي ما رواه جمع كثير..إلخ واتفقوا على لفظه..، والمعنوي: ما روي من طرق متعددة بألفاظ مختلفة إلا أنها اتفقت في إفادة شيء واحد" حسب ما ذكره الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة في كتابه (الوسيط في علوم ومصطلح الحديث)".

ولأهمية المتواتر وعلو مكانته، وقطعية حجته فإن العلماء قرروا أنه "يفيد العلم اليقيني القطعي، أي العلم الضروري الذي يُضطر الإنسان إليه بحيث لا يمكن دفعه واليقين، هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، وهذا هو المعتمد، وقال بعضهم: لا يفيد العلم إلا نظريا، وهو ما نقشه الحافظ ابن حجر بقوله "وليس بشيء لأن العلم بالمتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر كالعامي..) كما بينه أبو شهبة في كتابه السابق.

من جهته أورد الباحث المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، سعد الشيخ ما ذكره الحافظ ابن حجر في كتابه (نزهة النظر، ص:40) أقسام الخبر باعتبار وصوله إلينا، وقسمه إلى قسمين: متواتر، وآحاد، وذكر شروط تواتر الخبر فقال "فإذا جمع هذه الشروط الأربعة، وهي:

1 ـ عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم أو توافقهم على الكذب.

2  ـ رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء.

3 ـ وكان مستند انتهائهم الحس.

4 ـ وانضاف إلى ذك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه".


                                 سعد الشيخ، باحث متخصص في الحديث النبوي وعلومه

وأضاف: "فهذا هو المتواتر، وما تخلفت إفادة العلم عنه كان مشهورا فقط، فكل متواتر مشهور من غير عكس.. وشيخ الإسلام ابن تيمية نقد هذه الشروط، أو بعضها، وخاصة اشتراط العدد لإفادة الخبر، فقال "لفظ المتواتر يراد به معان؛ إذ المقصود من المتواتر ما يفيد العلم، لكن من الناس من لا يسمي متواترا إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلا بكثرة عددهم فقط، ويقولون: إن كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية، وهذا قول ضعيف".

وتابع: "والصحيح ما عليه الأكثرون أن العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة، وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم، فَرُبَّ رجلين أو ثلاثة يحصل من العلم بخبرهم ما لا يحصل بعشرة وعشرين لا يوثق بدينهم وضبطهم، وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر يحصل العلم بمجموع ذلك، مثل كون كل من المخبرين أخبر بمثل ما أخبر به الآخر، مع العلم بأنهما لم يتواطآ، وأنه يمتنع في العادة الاتفاق في مثل ذلك، مثل من يروي حديثا طويلا فيه فصول، ويرويه آخر لم يلقه".

وعقب الشيخ في حديثه لـ"عربي21" على ذلك بقوله "فهنا ينقد شيخ الإسلام ابن تيمية طرق تحقق التواتر في الخبر عند أهل المصطلح، ويقول: إن حصول التواتر أعم مما ذكروه، وبعد أن قرر ما سبق قال "وإذا عُرف أن العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد؛ عُلم أن من قيَّد العلم بعدد معين وسوّى بين جميع الأخبار في ذلك، فقد غلط غلطا عظيما، ولهذا كان التواتر ينقسم إلى عام وخاص".

وأكمل: "فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السنة ما لم يتواتر عند العامة، كسجود السهو، ووجوب الشفعة، وحمل العاقلة العقل، ورجم الزاني المحصن، وأحاديث الرؤية، وعذاب القبر، والحوض، والشفاعة، وأمثال ذلك، وإذا كان الخبر قد تواتر عند قوم دون قوم، وقد يحصل العلم بصدقه لقوم دون قوم، فمن حصل له العلم به وجب عليه التصديق به والعمل بمقتضاه، كما يجب ذلك في نظائره، ومن لم يحصل له العلم بذلك فعليه أن يسلم ذلك لأهل الإجماع الذين أجمعوا على صحته".

ووفقا للباحث الشيخ فإن "ابن تيمية بهذا التقرير النفيس يذهب إلى أن التواتر أمر نسبي، قد يتحقق في خبر دون خبر، ولطائفة دون طائفة، وبما سبق من نقده لمفهوم التواتر عند الأصوليين وأهل المصطلح نخلص إلى تحرير مفهوم "التواتر" عنده، وهو "ما أفاد العلم، مع لحاظ النسبية في الإفادة.. ومن تطبيقات المتواتر عنده بهذا المفهوم: ما تلقته الأمة بالقبول فهو في معنى المتواتر، ولو كان في أصله خبر آحاد، ومثاله عنده حديث النية المشهور (إنما الأعمال بالنيات) فهو مما تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، وليس في أصله متواترا، بل هو من غرائب الصحيح، لكن لما تلقوه بالقبول والتصديق صار مقطوعا بصحته..".

وخلص إلى القول: "فإن من يتتبع تلك المسائل التي أطلق شيخ الإسلام عليها كلمة "التواتر" فسيجد أن اكثر ما يستعملها في أحكامه النقدية على التواتر العملي المستخرج من النصوص بطريق النظر والاستنباط، لا التواتر النصي اللفظي.. فتبين أن الذين ينكرون عليه توسعه في إطلاق التواتر على بعض الأخبار؛ أنهم ضيّقوا مفهوم التواتر، وقصروه على التواتر اللفظي الذي استبعد وجوده مثل الحافظ ابن الصلاح على سعة اطلاعه".

وفي السياق ذاته قال الباحث المتخصص في العلوم الشرعية، سمير مراد: "مسألة التواتر تناولها العلماء بطريقين اثنين، الأول والذي عليه عامة السلف هو الطريق الذي مشى عليه ابن تيمية وغيره من قبله ومن بعده، بالنظر إلى التواتر بمعناه الدلالي، وهو ما دل على القطع بطريق ما، وهذا يشمل طرقا متعددة: مثل أن يكون حديث وافقه إجماع، أو حديث عمل به الأئمة والفقهاء، أو حديث رواه الشيخان أو أحدهما وتلقته الأمة بالقبول، أو حديث استفاض وجرى عليه عمل العامة والخاصة.. والطريق الثاني بمعناه الصناعي الاصطلاحي عند المحدثين".


                          سمير مراد، باحث أردني متخصص في العلوم الشرعية

وأردف: "وهذا الذي جرى عليه السلف، وتبعهم في ذلك ابن حزم من قبل ابن تيمية رحمة الله عليهما، يوسع دائرة معنى التواتر من المعنى الصناعي الاصطلاحي للتواتر، إلى معنى الفقهاء الذي هو أوسع بابا وأسد رأيا وخطابا، لأي الجري على صناعة واصطلاح المحدثين، يضيق الأمر في مسألة هي بحد ذاتها حادثة أصالة، لم يعرفها السلف الصالح، وهي أن المتواتر إنما هو التواتر الصناعي الاصطلاحي، وهذا تضييق لواسع".

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "مع أننا لو فتشنا لوجدنا كل متواتر آحادا في الأصل، لم يظهر تواتره إلا بعد تدوين وجمع النصوص النبوية، وقول ابن تيمية أحيانا: الأثار؛ هذا من الاحتياط في الدين، فهو لا يقول: الحديث أو الأحاديث، لأنه يريد بذلك الحديث وغيره مما ورد عن السلف في مسألة ما، فكيف يعاب عليه ما لم يدركه هؤلاء وغاب عنهم أنه عمل السلف، لأنه كما قلت: صناعة المتواتر واصطلاحه حادث، فيعتبر الأصل: وهو ما بينت آنفا المراد منه".

ونبّه مراد إلى أن "المتواتر صناعة واصطلاحا، هو مصطلح خاص بالمحدثين لا غير، وهم الذين اشترطوا عددا معينا في كل طبقة من طبقات السند، وقد اختلفوا فيه ما بين مكثر ومقل، أعني العدد، ومن جرى على هذا الشرط أو هذا الاصطلاح، تبين له أن الأحاديث المتواترة، والقضايا القطعية المتواترة أيضا، من حيث الدليل لا من حيث الدلالة، هي عدد قليل جدا، وهذا الذي جرى عليه ابن حجر رحمه الله وغيره ممن سبقه ولحقه، إنما هو أحد أفراد المتواتر الذي عرفه السلف وجروا عليه قولا وعملا".

وعليه، تابع مراد: "فإن هذا الاصطلاح يضيق ما توسع، ولا نراه صوابا، بل الصواب مع ابن تيمية، وهو دقيق بل خبير في العلم بكل أبوابه الشرعية بل والصناعية وغيرها معها، ومن عاب عليه ذلك فقد أخطأ أو جهل، ثم من قال إن ابن تيمية معصوم حتى لا يخطىء ليس خطأ أو عشرة، بل ألف خطأ، لكن ذلك كله لا يعطينا الحق بنسخ علمه، وازدرائه وتسميته مثقفا، أو الانتقاص منه".

وأكدّ في ختام حديثه أننا "بدراسة كتب ابن تيمية، والاطلاع على منهجه السلفي أصولا وفروعا، يدرك الواحد تمام الإدراك أنه ليس مهولا ولا متهورا، ولا اعتباطيا في طرحه ذلك، والشواهد المبثوثة في كتبه ومؤلفاته تؤيد قوله وتضعف قول من بعده، خصوصا مع صحة التقعيد، وحسن الاستدلال عليه، فما ذكره مدعم بالأدلية السلفية الأُثرية، بما لا مزيد عليه".
التعليقات (4)
عبد الله محمد عكور
الخميس، 09-03-2023 09:22 م
يبدو أن الأستاذ مراد سلفي المشرب، ومن حقه أن يدافع عن شيخه ابن تيمة، ولكن ليس بالتعصب، بل يكون الدفاع موضوعياً، لا يتقص من قيمة من ردَّ على ابن تيمية، ولا شك عندي وعند من قرأ سيرة ابن تيمية أنه كان من علماء السلاطين، وأن خالف الإجماع في عشرات المسائل في الفقه، والعقيدة، بل له (97) من السقطات في حق سادات أهل البيت، وفي مقدمتهم سيدنا علي، والسيدة الزهراء، جمعها بعضهم في مؤلف مستقل. وما كتبه الدكتور عداب الحمش، هو من الحقيقة بمكان، وليس بوسع واحد رد كلامه، إلا إذا كان متعصبا لابن تيمية بالباطل...
كريم وجدة المغرب
الإثنين، 27-02-2023 07:20 م
اخطر ما قال الباحث الاردني : أننا لو فتشنا لوجدنا كل متواتر آحادا في الأصل وان دائرة معنى التواتر جرى توسيعه من المعنى الصناعي الاصطلاحي للتواتر، إلى معنى الفقهاء ويقول ان المتواتر الاصطلاحي تضييق لواسع. يعني اننا منذ ولدنا ونحن نسمع احاديث احاد يدعون انها متواترة وان حياتنا مؤطرة باخبار لا تصح بحال نسبتها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسلم
الإثنين، 27-02-2023 04:19 م
الى المدعو محمد : الناصبي هو من جعل علي رضي الله عنه بعوضه ، الناصبي هو من اتخذ غليا الها من دون الله..حولتم مدنكم الزباله الى اماكن مقدسه وهي لا تسوى فلس واحد
محمد
الإثنين، 27-02-2023 02:01 م
الى متى ستدافعون عن هذا الناصبي وتعلقون كل فشلكم في اتباع الدين على شماعة ابن تيمية؟ حتى التواتر غيرتوه ليوافق كلام ابن تيمية وكانه نبي منزل