تقارير

كيف أثرت الحداثة على أنساق التدين في العالم الإسلامي؟

العولمة تُؤثر على الأديان بفعل ما تخلّفه من أثر على تقلص الانغلاق الإيماني وانعزاله في حيز جغرافي (الأناضول)
العولمة تُؤثر على الأديان بفعل ما تخلّفه من أثر على تقلص الانغلاق الإيماني وانعزاله في حيز جغرافي (الأناضول)
الحداثة حالة عالمية تجاوزت الحدود الجغرافية، واقتحمت أسوار الخصوصيات الثقافية، وامتد تأثيرها إلى عوالم التدين المختلفة، إذ لم يعد التدين بمختلف أشكاله وصوره بمنأى عن تأثيرات الحداثة وتداعياتها، وهو ما انعكس على بعض أنساق التدين في العالم الإسلامي، التي يُدرجها معارضوها تحت عنوان "العلمنة من الداخل".

في كتابه الصادر حديثا "المسيحية والإسلام في ظل العولمة"، يرصد الأكاديمي التونسي، المتخصص في دراسة الأديان، والمدرس في جامعة روما بإيطاليا، الدكتور عز الدين عناية مظاهر تأثير الحداثة على طبيعة التدين في المسيحية والإسلام، "فالعولمة تُؤثر على الأديان بفعل ما تخلّفه من أثر على تقلص الانغلاق الإيماني وانعزاله في حيز جغرافي، بما جعل بعض الأديان بمنزلة الهويات المميزة لجماعات عرقية وإثنية".



وهي تؤثر كذلك على المؤمنين بتلك الأديان، بما تخلفه من تغير في شكل الاعتقاد، من حيث البسط والقبض، والشدة والليونة، وكذلك في معاني الاعتقاد، من حيث الانحصار والاستيعاب، والضيق والاتساع، وربما إلى حد مضامين الاعتقاد المستجدة، جرّاء الاحتكاك بتجارب روحية ومعيشية أخرى، ما عادت نائية في ظل حركة التواصل المتسارعة، حسب ما جاء في عرض الكتاب ومراجعته.

ووفقا للكتاب فـ"المسلمون من جانبهم لم يبقوا نشازا في ما يجري من تحول ديني في العالم، وما عاد بوسعهم أن يظلوا بمنأى عن تأثيرات تعولم العالم، الدافع باتجاه التكتل والقبول بالانتظام وفق قواعد جامعة، الأمر الذي انعكست آثاره على الرؤية الإسلامية لذاتها وللآخر".

في مواجهة تأثيرات الحداثة على أنساق التدين في العالم الإسلامي، تُثار أسئلة كثيرة، من أبرزها: مدى تأثير الحداثة على أنساق التدين الإسلامي، وكذلك التساؤل عن كيفية مواجهة علماء الدين ودعاته للتحديات الفكرية والسلوكية التي فرضتها ثقافة العولمة، "بعد أن صار الوافد حاضرا بالداخل، فعلا وقولا وقيما، يسائل عيش الذات ورؤيتها، ويشاركها واقعها ومصيرها، إذ ساهمت العولمة في زعزعة الحدود الجغرافية والمادية". 

في مناقشته للأسئلة المثارة، نبّه الأكاديمي والباحث المغربي، المتخصص في الإسلاميات والتصوف، الدكتور محمد التهامي الحراق إلى ضرورة "التمييز بين الحداثة المادية بمظاهرها الصناعية والتقنية والعمرانية والاستهلاكية، وبين الحداثة الفكرية بتحولاتها العلمية والفلسفية والروحانية والقيمية".


                                                التهامي الحراق.. باحث مغربي

وأضاف لـ"عربي21": "فإذا كانت الأولى قد أبهرت المسلمين منذ تعرضهم لما يسمى بصدمة الحداثة، إثر حملة نابليون على مصر أساسا عام 1798م، وبداية سلسلة الرحلات التعرفية على التحولات النهضوية الكبرى التي حصلت في أوروبا، فإن الوجه الفكري للحداثة ظل عسير الهضم في الثقافية العربية الإسلامية، لكون العقل العربي الإسلامي كان قد توقف عن الإبداع والإنتاج والتجدد والإسهام في قيادة الحضارة الإنسانية منذ القرن الثالث عشر للميلاد، ودخل في تردٍ اجتراري، وتكلس اجتهادي، وانشطارات قاسية على نفسه.".

وتابع: "ثم إن ثمة عاملا آخر عسَّر هضم الحداثة الأوروبية الفكرية، هو أن المسلمين تعرفوا على الحداثة من باب الاستعمار، فكان رفضهم لفكرها، في وجه منه، علامة على رفض استغلالهم واستتباعهم ونهب ثرواتهم والهيمنة على أراضيهم باسم الحداثة والتحديث، ويمكن أن نضيف عاملا آخر لهذا الرفض، هو كون التجربة الحداثية الأوروبية انبنت في مرحلتها الأنوارية، أساسا، على مراجعة موقع الدين في السياسة والمجتمع.. مما جعل التحرر في هذه الحداثة مقرونا بالتحرر من الدين والهيمنة الكنسية، على اختلاف في حدة هذا التحرر ودرجته في أوروبا".

وعن دور العلماء والمفكرين في مواجهة تأثيرات الحداثة وتداعياتها، لفت الأكاديمي المغربي الحراق إلى أن "العولمة مرحلة جديدة في مسار تطور الحداثة، بحيث صرنا إلى عالم مفتوح اقتصاديا وثقافيا وتواصليا، وحيث خلقت الثورة التكنولوجية الرقمية فضاء عالميا جديدا، صار فيه كل جزء من العالم عنصرا مؤثرا فيه ومتأثرا به.. وهذه التحولات طرحت أسئلة جديدة على الإنسان في علاقته بنفسه وبالمطلق وبالإنسان وبالمجتمع وبالبيئة".

وواصل: "لذا وجب على العلماء استيعاب هذه التحولات، والنظر إلى الإنسان اليوم واحتياجاته ضمن هذا الأفق الكوني، مثلما وجب عليهم إعادة تبليغ الدين وطرح حقائقه وفق الأبستمية الكونية الحديثة، مع إعمال النقد العقلاني والروحاني لتاريخ التدين، وتاريخ الحداثة قصد بلورة أفق متجدد لحضور الدين في السياق الحديث، حيث أزمة المعنى، وخطر العدمية، وتفاقم الفراغ الروحي، وتهديدات الذهاب بأفق المعنى الإنساني نحو المجهول".

من جهته، رأى الكاتب والباحث السوري أحمد الرمح، أن "التيارات الإسلامية التقليدية ترفض الحداثة لأنها ما زالت تساكن التاريخ، وتساكن الماضي؛ لأنها تعتقد أن الماضي هو خير القرون في كل شيء، ذلك المفهوم الملتبس الذي لم يحرر كما يجب، فهل تحديد خير القرون راجع لرسالة الإسلام، أم إنه خير القرون حتى في العادات والتقاليد"؟


                                           أحمد الرمح.. كاتب وباحث سوري

وأردف: "كذلك لما بدأ طرح الحداثة، ظهر تيار وسطي في الإسلام، يدعو إلى التوفيق بين الأصالة والحداثة، والحقيقة أن هذا الموقف بالرغم من طهارته، إلا أنه يساكن التاريخ معرفيا، ومن ثم فموقفه أعرج بالنسبة للمعاصرة، والحداثة في الفكر الإسلامي قديمة وليست جديدة، فقد سبق أن دعا إليها مبكرا رفاعة الطهطاوي، والأفغاني ومحمد عبده"، متسائلا: "لماذا كل هذا الخوف منها على الهوية الإسلامية"؟

وواصل الرمح حديثه لـ"عربي21" بالقول: "كذلك فإننا حينما نتحدث عن الحداثة، فهناك مصطلحات ثقافية معرفية يجب التعامل معها بإيجابية، كالعلمانية والليبرالية، فهما من أهم أسس الحداثة، لكنها ما تزال حتى يومنا هذا مرفوضة لدى التيارين الإسلاميين العريضين، التقليدي والسلفي".

وتابع: "وهناك من يرى أن الانخراط في الحداثة يعني ضرورة التخلي عن الأصالة، وهذا غير صحيح، إذ يمكن التوافق بين المفاهيم الإسلامية مع الحداثة، إذ لا توجد في ظل الحداثة خصوصية حداثية، وإنما توجد هوية ثقافية متصالحة مع العصر، وأنا أعتقد أن هناك عدم فهم للحداثة عند تيارات (الإسلامويين)، وتوجد خصومة شديدة معها، لا سيما عند التيار السلفي".

وعن محاولات مواجهة التحديات المعرفية والسلوكية التي فرضتها العولمة، التي هي جزء من مشروع الحداثة، بأنساقها المعرفية والسلوكية المختلفة، فحسب الرمح، "لم يستطع علماء الدين، حتى الآن مواجهتها، إذ ما يزال عندهم عقدة أسلمة الأشياء المعاصرة، مع أنه توجد في الشريعة منطقة فراغ، وهي دائرة العفو والمسكوت عنه، والمتروكة للاجتهاد" منتقدا "سلوك العلماء في توجههم لأسلمة الأشياء المعاصرة، مع أن ذلك ليس مطلوبا في القرآن الكريم" على حد قوله.

وبدوره، قال الأكاديمي والتربوي الأردني، الدكتور عوني القضاة: "تجلت مظاهر تأثير الحداثة في أنساق التدين الإسلامي، في عدة وجوه، أولها: ألزمتنا بردة الفعل، بحيث صار واجبا على المؤسسات الدينية على وجه الخصوص، والاتجاهات والفرق باختلاف تفرعاتها على وجه العموم، الذود عن حياض الإسلام، وكل حسب رؤيته وتوجهاته ودراساته".


                                             عوني القضاة، أكاديمي وتربوي أردني

وتابع: "فمثلا، ظهور ظاهرة الإلحاد أوائل القرن العشرين، وتربعه على عرش (العلمانية) باسم العلم وتفوقه، والحداثة هنا نتيجة؛ جاءت ردود الفعل من دراسات وأفعال وبرامج تركز على الظاهرة في ذلك الوقت، وكان لا بد من ذلك، ومع بزوغ القرن (21) انتقل العالم إلى ثورة عالم ميكانيكا الكم، وهو أشبه بعلم الغيب مقارنة بعلم الفيزياء الكلاسيكية، فأسكت هذا العلم المادية، وأرضخ العلم لقبول نتائج غير مادية".

وأردف القضاة في حواره مع "عربي21": "كقبول نتيجة أن الفوتونات والإلكترونات قد تكون مرة جسيما ومرة موجا، وبدأنا نرى علماء الأديان عامة يستخدمون النصوص الدينية والنصوص العلمية معا لإثبات التوافق بينهما"، مضيفا: "فالحداثة كلها غير مسلم بها في العالم الإسلامي؛ مما يعني أن المدارس الإسلامية السلفية رفضت الفكرة وتصدت لها، واعتبرتها فكرا غربيا يريد تغيير منابع الدين".

ولفت إلى أنه "نتيجة للذود عن الدين وعقائده وشرائعه ورفع الحرج عنها، ظهرت أقلام وأعلام، خرجت من عباءة الأيديولوجية متسلحة بالقرآن والسنة وعلوم العصر، وهي ردة فعل مناسبة للأجيال الجديدة، كظاهرة د. عدنان إبراهيم من السنة، والشيخ كمال الحيدري من الشيعة، وآخرين أمثالهم، أثروا في الأجيال الجديدة، بمحاولتهم التوسط والموائمة بين الأصالة والحداثة".

وأنهى كلامه بالإشارة إلى "السلبية الكبرى في هذا الموضوع المتمثلة باستغلال الدين وتطويعه باسم الحداثة من قبل الساسة، والأنظمة السياسية في مختلف مناطق العالم، مما يؤثر على مكانة الدين وشرفه، وهذا المنحى سائد وموجود، وهو سلبي وخطير".

يُشار في هذا السياق، إلى أن ثمة شخصيات علمية متخصصة في العلوم الشرعية، وتيارات دينية إسلامية محافظة، تتوجس خيفة من تأثيرات الحداثة في بنية بعض الاتجاهات والتيارات الإسلامية، وحذرت من تسلل المفاهيم والقيم والأنساق المعرفية والسلوكية الحداثية إلى العقلية الموجهة في أوساط تلك الاتجاهات، وثمة كتابات شائعة تناولت ذلك بالبيان والمناقشة ككتاب (العلمنة من الداخل.. رصد تسرب التأصيلات العلمانية إلى فكر التيارات الإسلامية المعاصرة) للباحث والداعية السلفي المغربي، الدكتور البشير عصام المراكشي.
التعليقات (0)