أفكَار

نقاط الاتفاق والاختلاف حول القومية العربية ووحدة الأمة المحمدية (2من2)

جمال الدين الأفغاني: اعتناق الإسلام واكتساب لسان القرآن عاملان أساسيان لقيام الأمم وبقائها
جمال الدين الأفغاني: اعتناق الإسلام واكتساب لسان القرآن عاملان أساسيان لقيام الأمم وبقائها
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية.. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئ على هامش هذا السجال..

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي، على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها..

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين المكونات العائلات الفكرية العربية وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها..

والبداية اليوم بتأطير عام لهذا الملف يكتبه خصيصا لـ "عربي21"، الباحث والكاتب الجزائري الدكتور أحمد بن نعمان عن مفهوم العروبة أو القومية العربية..


مغالطة العرق العربي النقي

كيف يمكن لدعاة العرق العربي النقي الواحد في المغرب أو المشرق من الذين انطلت عليهم المغالطة (الاستحمارية) الغبية.. أن يثبتوا ذلك النقاء العرقي حتى في الجزيرة العربية، فضلا عن مصر أو لبنان أو السودان أو بلاد المغرب عموما بعد مسلمي الأندلس المهجرين إليها والمنصهرين فيها بالملايين؟

وكأنني بأحد يناقش أصحاب هذا الاتجاه قائلا: إذا جاريناكم في القول بأن المجتمع العربي ذو أصل عرقي واحد يرجع إلى الجزيرة العربية.. فمن يثبت لنا، علميا ومنطقيا، أن سكان الجزيرة العربية أنفسهم عرب قحطانيون (أي غير مستعربين) ونحن نعلم علم اليقين أن أقواما مختلفي الأجناس والألوان جاؤوا إلى الجزيرة العربية قبل الفتح الإسلامي، وبعده بصفة خاصة، واستقروا بين السكان الأصليين مثل ابراهيم الخليل وابنه إسماعيل الكلداني (العراقي) من الاب والمصري من الأم القبطية هاجر!؟ وأصبحوا كلهم بعد جيل أو جيلين فقط عربا مستعربين عدنانيين مثل سكان فرنسا الحاليين من كل أقطار المعمورة  بمن فيهم أبناء جلدتنا (العرب والبربر) المسلمين المندمجين في ثقافة الأمة الفرنسية اندماجا كليا ومنهم الزعماء والوزراء  والسفراء؟

ولهذا السبب الخاص بالانتماء والاكتساب اللساني بالاستعراب العدناني قال الرسول (ص) (لا ترفعوني فوق عدنان!!!) وعدنان هذا  هو أحد أسلافه قبل الجد الأكبر إسماعيل عليه السلام!؟

كيف يمكن لدعاة العرق العربي النقي الواحد في المغرب أو المشرق من الذين انطلت عليهم المغالطة (الاستحمارية) الغبية.. أن يثبتوا ذلك النقاء العرقي حتى في الجزيرة العربية، فضلا عن مصر أو لبنان أو السودان أو بلاد المغرب عموما بعد مسلمي الأندلس المهجرين إليها والمنصهرين فيها بالملايين؟
وهكذا أصبح الوافدون الجدد السابقون واللاحقون لا يختلفون في أي شيء عن العرب الأصليين المقيمين قبل ذلك في الجزيرة منذ آلاف السنين وأصبح منهم بعد ذلك المؤمنون والكفار والمهاجرون والأنصار والمجاهدون الأخيار الفاتحون لمعظم الأمصار حاملين لواء الإسلام ولسان القرآن إلى كل البلدان مستبدلينه بلسان الإسبان والرومان وصلبانهم لعدة قرون قبل الخيانات المتلاحقة لملوك الطوائف مثلما نعيشه اليوم بالذات في هذا الزمان؟ 

وكان الأحرى بهؤلاء العرب أنفسهم أن يعتقدوا أسوة برسول الإسلام (ص) بأن الجميع عباد لرب واحد ومعتنقون لدين واحد، وأبناء لأب من تراب واحد، ومتحدثون بلسان واحد كما قال وأن العربية (أي العروبة بمصطلح القوميين العرب اليوم) ليست بأحدكم من أب أو أم وإنما هي باللسان فمن تحدث العربية (كلسان قومي له) فهو عربي"، (حديث رواه ابن عساكر.)

ومحتوى هذا الحديث (ممن لا ينطق عن الهوى)  هو ما تعتمده كل النظريات الانثروبولوجية اليوم بعد 14 قرنا بالنسبة لنظرية الهوية  القومية!؟ كما رأينا بأن الأمم هويات والهويات ثقافات والثقافات كلها مكتسبة 100% إراديا وليس عرقيا كما أثبتنا في مقالنا السابق  منذ اسبوعين هنا!؟

والأمثلة عندنا بالمئات من أمريكا وبريطانيا والبرازيل والبرتغال وفرنسا وشمال إفريقيا وتركيا وإيران والعراق والسودان وإسبانيا والأرجنتين وروسيا وأكرانيا وقبرص واليونان والهند وباكستان..

جمال الدين الأفغاني.. أحد كبار علماء الأمة المحمدية وثوارها المصلحين

وذلك ما ذهب إليه قبل قرنين أحد كبار علماء الأمة المحمدية وثوارها المصلحين الذين دفعوا حياتهم فداء لوحدتها التي عرفنا ارهاصاتها (الجنينية ) وما نزال نجهل منعرجات مسالكها (كأمة واحدة) بنص الآية التي يصلي بها كل المسلمين بالملايين في مشارق الأرض ومغاربها!؟!؟

وهذا الشهيد هو الذي نادى  بتجسيد الآية المذكورة الواضحة التي لا تقبل التأويل "وأن هذه امتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون"..  فكان الفضل لهذا العالم الرباني جمال الدين الأفغاني الذي أدرك ضرورة تأصيل الإسلام في العرب، ونشر العربية في المسلمين، إدراكا منه بأن بقاء الأمم القوية في التاريخ، يتطلب بالضرورة عاملين اثنين يعلوان فوق كل الاعتبارات والعوامل المكتسبة الأخرى  مثل اعتناق الإسلام وإكتساب لسان القران، وهما عاملان أساسيان لقيام الأمم وبقائها ويتمثلان في قوة الإيمان الدافع، ووحدة اللسان الجامع.

فلا وجود للمسلمين بدون قوة الإيمان ووحدة الأوطان، ولا حضارة لهم بدون وحدة اللسان المعرب عن ما في الفكر والوجدان، والمزيل للحواجز المصطنعة بين الشعوب في البلدان كما نرى الآن في كارثة الزلزال بين الإخوة المؤمنين في تركيا وبلاد الشام..

فعن هذا القانون الحضاري يقيم جمال الدين البرهان فيقول: "إن الأمم المحكومة إذا يسر لها المحافظة على جامعاتها من دين ولسان وتاريخ ولم تستحل وتنحل في غير ها، فهي أقرب الناس للفرص، وأعلق الخلق بإعادة مجدها وتجديد إعادة سيرتها الاولى".

لا وجود للمسلمين بدون قوة الإيمان ووحدة الأوطان، ولا حضارة لهم بدون وحدة اللسان المعرب عن ما في الفكر والوجدان، والمزيل للحواجز المصطنعة بين الشعوب في البلدان كما نرى الآن في كارثة الزلزال بين الإخوة المؤمنين في تركيا وبلاد الشام..
وبعد أن وضع هذا القانون العام الذي لا بد منه لقيام الحضارات وبقائها والمتمثل في وحدة المعتقد ووحدة اللسان، المعبر عنهما في النص بالجامعات المتكاملة والمتفاعلة في التاريخ، وبالتاريخ كعنصر ثالث يرمز ويحافظ على صيرورة بقاء الأمة في بوتقتها الثقافية الصاهرة يستنطق التاريخ ويستشهد بوقائعه الحية على صحة هذا القانون فيقول: "هذه شبه جزيرة البلقان التي افتتحها العثمانيون وبقيت في حوزتهم وتحت سلطانهم لعدة أجيال فماذا أحدثت في تلك الممالك من آثار العمران؟؟...

وإذا كان الجواب "لا شيء" حينئذ يضطرنا الإنصاف إلى أن نقول: إن الدولة العثمانية في فتوحاتها، وما شاهدناه من تفريطها لم تكن لتحسن الاستعمار.

وبعد أن وصف الأستاذ ما كان سببا للزوال والضياع لأمتنا في تلك البقاع، نجده في مكان آخر يحدد لنا ما كان ينبغي أو يجب أن يكون عليه المسلمون، وهو ما يهمنا أن نركّز عليه الحديث في هذا المقام، لكونه متعلقا بما هو حاضر وما هو آت  من أيام أمتنا فيقول في هذا السياق: "لننظر في فتوحات (الدولة العثمانية) للممالك الإسلامية من مصر والشام فحلب فبغداد وتونس، وسائر الممالك العربية، فنراها قد تمكنت من الفتح مع قليل من المقاومة والحروب، وكان لجامعة الدين التأثير العظيم في قبول الحكم العثماني، ولو أن الدولة قبلت من يوم استقلالها، وعملت بالفكرة من عهد السلطان محمد الفاتح أو السلطان سليم بأن يتخذ اللسان العربي، وهو لسان الدين، لسانا رسميًا وتسعى بكل قوتها وجهدها لتعريب الأتراك لكانت في أمنع قوة وآمن حصن من الانتفاض والخروج عن سلطانهم، ولكنها فعلت العكس، إذ فكرت بتتريك العرب، وما أسفهها سياسة وأسقمه من رأي.

لأنّ تدين الأتراك بالدين الإسلامي، على جهل باللسان العربي جعل له في القلوب منزلة، ساقت وتسوق الأمة العربية للعطف عليهم مع سائر المسلمين، فما قولك لو تعربت، وانتفى من بين الأمتين تلك النعرة القومية، وزال داعي النفور والانقسام بين الترك والعرب، وصاروا أمة عربية  بكل ما في اللسان من معنى، وفي الدين الإسلامي من عدل، وفي سيرة أفاضل العرب من أخلاق، وفي مكارمهم من عاداتهم.

لا ريب لو تيسر ذلك لكان إعادة عصر الرشيد للمسلمين ميسورا تحت لواء سلطان عادل همام، مثل محمد الفاتح أو السلطان سليمان، أو السلطان سليم غير عسير.. ولكن عدم قبول فكرة السلطان الفاتح أو السلطان سليم لتعميم اللسان العربي خطأ بين".

ويؤكد هذا الخطأ الاستراتيجي المميت والمقلص لظل آخر دولة للخلافة الإسلامية على يد أحد أبنائها (القوميين العنصريين) كنتيجة حتمية للخطوة الأولى التي خطاها بعض الأسلاف، فيقول ما نصه: "لقد كاشفت السلطان عبد الحميد في أكثر هذه المواضيع في خلوات عديدة، فكان يسمع بكل إصغاء ولكنه في النتيجة كان قليل الاحتفاء بكل ماقلته له، وفهمت من أوضاعه وأسارير وجهه أنه لا يعتقد أن قبول اللسان العربي، وفكرة الفاتح والسلطان سليم، بذلك صوابا".

ثم يورد الحجج الدامغة والناطقة للبرهنة على نفاذ بصيرته وشديد أسفه على ضياع، بل تضييع وحدة الأمة المحمدية في جغرافيتها (وثوابتها الطبيعية) فيقول: "فلو أنصف الأتراك أنفسهم وأخذوا بالحزم واستعربوا وترأسوا ذلك الملك، وعدلوا في أهله، وجروا على سنن الرشيد والمأمون على الأقل ولا نقول، على سنن وسيرة الخلفاء الراشدين، فمن كان من دول الأرض أغلى منه مملكة؟ أو أعز جانبا؟!!

ولكن مع الأسف، أن إخواننا الأتراك لم يحسنوا من أعمال الدنيا غير (الحرب)، وهم فيما عدا ذلك وفي ما يختص بشؤون العمران، أقل روية وعملا من سواهم !!؟! يسوؤني وأنا ممن يحبهم، وأتأثر كلما تذكرت ما ارتكبوه من الخطأ في عدم قبولهم اللسان العربي، لسان الدين الطاهر، والأدب الباهر، وديوان الفضائل والمفاخر !!

ذلك اللسان الذي لو تجرد من الكلمات العربية والفارسية لكان أفقر الألسنة على وجه الأرض.. فكيف يعقل تتريك العرب وقد تبارت الأعاجم في الاستعراب وتسابقت، وكان اللسان العربي لغير المسلمين، ولم يزل، من أعز الجامعات وأكبر المفاخر.. (ولعله يقصد هنا ماقام به المسيحيون العرب من خدمة جليلة للغة العربية وخاصة في لبنان وحتى الآن!؟).

وهذا الأمر من الوضوح والظهور للعيان  بما لا يحتاج معه إلى دليل أو برهان، ويؤكد هذا المعنى في مكان آخر بقوله: "لا جامعة لقوم لا لسان لهم ، ولا لسان لقوم لا آداب لهم، ولا عز لقوم لا تاريخ لهم، ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار رجال تاريخها".

ويتخذ الأستاذ أمثلة حية عن عدم نجاح أي استعمار لأية ديار في العالم إذا لم يتمكن من صهر المستعمرين عقيدة ولسانا،!؟ فيقول: "هذا بعض ما لآداب اللسان من التأثير المادي، أما التأثير المعنوي فيكفي أنه من أكبر الجوامع التي تجمع الشتات وتنزل من الأمة منزلة أكبر المفاخر. فكم رأينا من دول اغتصب ملكها الغير فحافظت على لسانها محكومة وترقبت الفرص ونهضت بعد دهر فردّت ملكها، وجمعت من ينطق بلسانها إليها، والعامل في ذلك إنما هو اللسان قبل كل ما سواه، ولو فقدوا لسانهم لفقدوا تاريخهم ونسوا مجدهم، وظلوا في الاستعباد ما شاء الله".

وكم يصدق هذا القانون (الرباني) عندما نطبقه على واقع بلاد المسلمين، فنجد مثلا أن بلاد الموحدين، في مغرب شمس الله (أقصد بلاد المغرب الإسلامي الناطق بالعربية)  كادت  تصبح أندلسا ثانية على يد الغاصب  الصليبي (الإسباني والفرنسي) بعد ذلك وحتى الآن تقريبا!؟!؟

 لولا استماتة أهل تلك الديار في المحافظة والدفاع عن اللسان المرتبط بالآذان! وأثبتت ذلك التمسك بالجهاد ضد محاولة استبدال محتوى القلوب والعقول بعد الاستحواذ على أخصب الحقول!!  إدراكا منها أنه إذا أمكن أن يوجد في الدنيا (مسلم فرنسي) أو (عربي مسيحي) فإن منطق المنطق لا يقبل وجود (عربي فرنسي) أو (مسلم مسيحي) في تلك الديار المسلمة الناطقة باللسان العربي، فهنا تكمن القضية (محور الصراع الحضاري والهوياتي على ساحة الأمة المحمدية مشرقا ومغربا!؟)

وللحديث بقية عما يجري وراء الستار من دسائس الاستعمار الذي خرج بالحديد والنار، وفي نفسه شيء كثير من الحقد على الثوار والاحرار من أهل تلك  الديار!

فهذا ما يجعل قانون جمال الدين الأفغاني (وليس اليمني القحطاني) في قومية الأمة المحمدية المتكاملة العناصر (بين وحدة الوجدان ووحدة اللسان ) صالحا لحاضر ومستقبل الأخلاف كما كان صالحا لسائر الأسلاف وسيظل كذلك إلى يوم الدين أن شاء الله رب العالمين.

ذلك هو مفهوم العروبة في اعتقادنا، ولا يسعنا في الختام إلا أن نذكر بعض دعاة القومية العربية من الذين يندفعون إلى تبني فكرة وحدة العنصر في بناء القومية، وكذلك دعاة إسقاط الإسلام من حسابهم في المشرق وفي المغرب العربي. وتحدرهم من شرك منصوب بذكاء من الأعداء يجعلهم كلاعب الكرة الذي يقذفها بعد جهد في مرمى فريقه من حيث كان ينوي رميها في مرمى الفريق المنافس فيسجل الهدف على نفسه بحمقه لحساب خصمه..

إقرأ أيضا: نقاط الاتفاق والاختلاف حول القومية العربية ووحدة الأمة المحمدية (1 من 2)
التعليقات (0)