أفكَار

التعليم في فكر الإصلاحيين العرب.. محمود قابادو نموذجا

كانت بداية انتشار الفكر الإصلاحي مع الشّيخ الزّيتوني محمود قابادو، الذي تتلمذ على يديه أغلب رجال الإصلاح
كانت بداية انتشار الفكر الإصلاحي مع الشّيخ الزّيتوني محمود قابادو، الذي تتلمذ على يديه أغلب رجال الإصلاح

منذ منتصف القرن التّاسع عشر احتل التّعليم في معظم البلاد العربية ومنه تونس موقع الصّدارة ضمن أولويات روّاد الإصلاح، واستمر حضوره كأولوية لدى قادة الحركات الوطنية ودولة الاستقلال في القرن الماضي.. لكن مثله مثل باقي مناحي الشأن العام في بلداننا العربية الطامحة إلى التحرر والانعتاق واجه التعليم تحديات كبيرة، ولم يسلم من مكائد المتربصين بمصير بلداننا من قوى الاستعمار التقليدية، أو من خصوم نهضة العرب والمسلمين من أبناء جلدتهم.

ولعل النموذج التونسي في التعاطي مع التعليم، يشكل المثال الأبرز على خطورة استهداف هذا المرفق الذي يعتبر رافعة أساسية لأي تقدم.. ففي العهد "السّعيد" للرئيس سعيد تشهد تونس اليوم جريمة غير مسبوقة في تاريخها الحديث في حق الطفولة والتّعليم، بتعذر التحاق حوالي 400 ألف تلميذ بمقاعد الدّراسة، وتجاهل حقوق أكثر من 6 آلاف معلّم، تقدّمهم حكومة الرّئيس قربانا على مذبح صندوق النّقد الدّولي.

وأمام هذا الوضع الذي آل إليه حال التّعليم في تونس، نستحضر مكانته في فكر روّاد الإصلاح في القرن التّاسع عشر وفي مقدّمتهم الشّيخ محمود قابادو.
  
الشّيخ محمود قابادو هو أبو الثّناء محمود بن محمد قابادو، (1814- 1871م) أصله من مدينة صفاقس التّونسية، هو مفتي المالكية في عصره، ولع بعلوم البلاغة، ثم تصوّف وأكثر من قراءة كتب التّصوّف. كان غزير العلم بالفقه والأدب، فهو شاعر عصره في تونس، وتوسّعت دائرة معارفه لتشمل الرّياضيات والطّبيعيات وعلم الفلك، تولّى التّدريس في جامع الزّيتونة، والمدرسة الحربية، فكان حلقة الوصل بين طلابهما. كان له فضل السّبق في تأمّل أسباب تقدّم أوروبا وتأخّر العالم الإسلامي، وتوصّل إلى أنّ التّقدّم الأوروبي قائمٌ على دعامة العلوم الحديثة، وتأخّر المسلمين يعود إلى إهمال العناية بها، وبالتّالي فما من سبيل للتّقدّم في نظره، إلاّ بالأخذ بناصية العلوم الحديثة.
 
أولوية التّعليم في فكر الشّيخ قابادو

منذ بدايات التفكير الإصلاحي في تونس في القرن التاسع عشر كان التّعليم في مقدّمة اهتمامات روّاد التّحديث والإصلاح. فأنشأ أحمد باي (1806- 1855م) المدرسة الحربية سنة 1840م لتعليم العلوم الحديثة، وكان للشيخ قابادو دور مهم في هذه المدرسة من جهة تأطير طلابها والقيام على قسم التّرجمة فيها للكتب العلمية. حيث كتب تقديما لكتاب "المختصر في فنّ الحرب" المترجم من الفرنسية، للجنرال وقائد أركان الحرب السّويسري أنطوان هنري جوميني (1779- 1869م). وقف فيه على دور العلوم الحديثة في تطوير الصّناعة الحربية لأوروبا، وبالتّالي تقدّمها وامتلاكها عناصر القوة والهيمنة على العالم، ولذلك حرص الشّيخ قابادو  على حث الطلاّب على دراسة العلوم الحديثة، باعتبارها عماد التّقدّم، والسبيل لامتلاك القوّة، اقتداء بالشّعوب الأوروبية التي تمكنت بالعلم من تعديل ميزان القوة في العالم لصالحها فقال:
 
دَليل اصْطفَاء اللهُ لِلعَبد علمهُ               وتَشْريفُهُ أَن يَكشِفَ الحَقَّ فَهمُهُ
وَليست فُنُون العلمِ الاّ طرائِقَ               يَؤُمُّ بِها كلُّ إمْرئ مَا يَهُمُّهُ
فَمن علِم الأشيَاءَ وَفَّى حُقُوقَهَا            ودَانَ لَهُ فِيمَا يُحَاولُ خَصْمهُ
هُم غَرسُوا دَوحَ التَّمَدُّنِ فَرعُهُ               الرِّياضِي والعِلمُ والطَّبِيعِي جَذْمُهُ
كانَ لَهُم فيِ ظِلِّه مُتَقَّيّلٌ                  مِنَ الصَّول يُحمى بالمكائِد أُطمُهُ

النّهضة عند الشّيخ محمود قابادو تخضع إلى سنن إلهية، فهي متاحة لكلّ من يستوفي شروطها من المسلمين وغيرهم، ويعيب على أهل ديانته الإعراض عن الأخذ بأسبابها، والمتمثلة أساسا في استيعاب العلوم الحديثة، وفي ذلك يقول: "فقل لأقوام عن سنن عوائد الله يعمهون، وفي تيه  اطّراح الأسباب يهيمون: قد برح الخفاء، ولكن لا تفهمون، أم هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟، أولئك قوم أتوا البيوت من أبوابها، وأدمنوا القرع، ولن يجيب سبحانه سائلا بلسان القابلية بمنع، وإنّما الحرمان أن تُتنّكب السُّبل عن ضلّةٍ أو يأس".

 وانطلاقا من هذه الرؤية للنّهضة المشروطة بالعلوم الحديثة، خاصة ما تعلّق منها بالعلوم العسكرية وتطوير الصّناعة الحربية، التي عدّها من الواجب الشّرعي، الوارد به أمر الإعداد في القرآن ضمن دائرة الاستطاعة فقال: "ألم يبلغك في الآيات المتلوّة، قوله عزّ شأنه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ" (الأنفال 60) أو ليست التّعاليم من القوّة المستطاعة، فيتناولها أمر الوجوب، وينظّمها في سلك الطّاعة"، ولدفع المآخذ الشّرعية السّائدة في عصره عن الاقتباس من المخالفين في الدّين، نسب قابادو تلك المآخذ إلى الوهم، فقال: "خُذ ما أصماه الفَهم، ودع ما أنماه الوهم، أما علمت أنّ الحكمة ضالّة المؤمن، ينشدها ولا يبالي أين يجدها".

ولعلّ الشّيخ قابادو انفرد من بين معاصريه بالاعتقاد أنّ أوروبا في عصره ما زالت تجهل الكثير من العلوم الموجودة في التّراث الإسلامي، ويتحسّر على أن ليس في أهل الإسلام من يعمل على بعثها والتّعريف بها، فكم" للعلوم الريّاضية والطّبيعية في الصّحائف الإسلامية من خيرات حسان، لم يطمثها من أفكار الفرنج إنس ولا جانّ، فطالما عرض عليّ من عيون كلامهم ما وصف لي قصور أفهامهم. حتى هممت ولم أفعل، وكدت ولّيتني جبهتهم من الحساب ببراهين وقواعد تأتي على بنيانهم من القواعد. ولكن أين خطّابها حتى يُكشف عنها نقابها؟، وهب أنّ خطّابها كثير، فأين النّاقد البصير؟، وهب أنّ لها عرفة، فأين منها النّصفة؟ بلى إنّ لها سوقًا نافقة في هذه الحضرة الرّائقة، وحسبك جلاء لعدم ارتياضهم بالرّياضة، وانطباعهم بالطّبيعة، أن ليس بين أظهرهم بالمرايا المحرقة خبير، ولا من يعرف منها قبيلا من دبير، بل ربّما عدّها من رانت على قلبه الكثافة من خزعبلات خرافة، مع ما لها من الجدوى والمزيّة، مربيّا على أسلحتهم النّارية". 

وهذه الإشارة من قبل الشّيخ قابادو إلى الكنوز العلميّة المنثورة في التّراث العربي الإسلامي، والتي لم يكتشفها بعد الفكر الأوروبي ـ حسب قوله ـ هي من الدّوافع القوّية التي اعتمدها في استنهاض عزائم طلاّبه، لاقتحام ميدان العلوم، واستعادة الوصل مع أمجاد أمّتهم في ميدان السّبق العلمي.

لقد كان للشّيخ محمود قابادو بحكم وظيفته في تدريس اللّغة العربية في المدرسة الحربية، وتدريس العلوم الشّرعية في جامع الزّيتونة، تأثير كبير على فئتين من الطّلبة، فئة الضبّاط العسكريين، وفئة طلبة الزّيتونة. لقد كان الشّيخ قابادو يوسّع من دائرة معارف ضبّاط المدرسة الحربية، لتشمل البلاغة والأدب، واستكشاف تراث الحضارة الإسلامية، وهو في جامع الزّيتونة يوسّع من دائرة معارف طلبة الزّيتونة لتشمل العلوم الحديثة، خاصة منها الرّياضيّة والطّبيعية، ويخبرهم عن مظاهر التّقدّم الأوروبي التي قرأ عنها، أو سمع بها عن طريق زملائه من الضبّاط الأوروبيين المدرّسين في المدرسة الحربية، أو عن طريق الرّحلات والدّوريات التي كان يطّلع عليها.
 
الاجتهاد في الشّريعة 

وإلى جانب التّشجيع على طلب العلوم الحديثة، وخاصة منها العلوم العسكرية، والاستفادة من الصّناعات الحربية، واعتماد التّنظيمات العسكرية الأوروبية. شجع الشّيخ قابادو على الاجتهاد في الشّريعة، مبيّنًا مشروعية الاختلاف، وكشف شِعرُه عن فهم عميق لحقيقة الشّريعة وصلاحيتها لكلّ زمان ومكان، ودوران الأحكام الشّرعية على حسب المآلات والأحوال، ومشروعية الاختلاف في الاجتهاد، بما أن للمخطئ أجر اجتهاده، على أن يكون الاجتهاد من أهله وفق شروطه فقال:

إنَّ التي جَمَعَت كمالَ مَصَالحَ                الدّارين وَيكَ شَريعَةُ العَدنَاني
مَا شَذَّ عَنها حُكم حَالٍ                     يَعتَري جيلا وَلاَ حينًا منَ الأحيَانِ
إمَّا جَليًّا طِبْق نَازلةٍ                           عرتْ أو بَاطنا لملِمّةٍ لم تَانِ
فَكَأَنَّ كُلَّ شَريعة مِنْ قَبلهَا                 في صلِّها صِنْوٌ منَ الصِّنوانِ
يُشبهنَ حالَ فُروعهَا من بعدُ في            تِبْعٍ لعَاداتٍ وحُكمِ زَمَانِ
فَالنَّسخُ في هَاتيك كالعَمل الذِي            فِيها مَع الحَالات ذُو دَورانِ

وَتَخَالفَ الفُقَهاء في أَنْظارِهم              فَتَفَاوتَت في شدَّةٍ وليَان
وَقَضَت مَذَاهبُهم علَى القَاضي بهَا         أَن يَهتدي لمواجِب الرُّجحَان
وَالكلُّ مجتَهدٌ فَمُخطئُهم                 لَهُ أجرٌ كَما لمصيبهم أَجرَان.


الإصلاح السّياسي

كان للشّيخ محمود قابادو فضل السّبق في تناول مسألة الإصلاح السّياسي وتقييد الحكم المطلق، حتى قال عنه الشّيخ محمد الخضر حسين : "إنّ أوّل شعر ظهر في تونس ... يرمي إلى أغراض سياسيّة عالية، هو شعر الأستاذ محمود قابادو". لقد ركز قابادو في شعره على قيمة العدل والاحتكام للقانون فقال:
 
العَدلُ عَهدُ خلاَفَة الانسَانِ           ومدَادُ ظلِّ الأمنِ والعُمرَانِ
وَالعَدلُ كلُّ العَدل يَقصُرُ دونَه        رَأيُ اللَّبيب وفطنَةُ اليَقظَانِ
والشَّرعُ قَانونٌ مَتينٌ محكَمٌ          مَا فيه للتَّبدِيل مِن امكَانِ
سَجدَت لَهٌ الألبَابُ سَجدَة مُذعنٍ      وتَقَاصَرت عَنهُ يَدُ المِطعَانِ.

ولتعلّق الشّيخ قابادو بقيمة العدل، باعتبارها إحدى مداخل الإصلاح السياسي، استبشر بإصدار الباي محمّد الصّادق لقانون عهد الأمان سنة 1857م، وقال مثمّنا هذه الخطوة في المساواة بين النّاس، والاحتكام إلى القانون:
 
هَذَا وإنَّ الصَّادقيّةَ دَولَةٌ             خُصّت بتَأييدٍ منَ الرَّحمَانِ
لمَّا رَأَت مصبَاح شَرع مُحَمّدٍ         بِتَلاعبِ الأَهواءِ ذَا خَفَقَانِ
جَعَلَت لَه القَانونَ شبهَ زجَاجَةٍ      لتَقيهِ هَبَّ عَواصفِ الطّغيَانِ"2.

استشعر الشيخ قابادو الخطر المحدق بالإيالة التّونسية، والخطر الفرنسي المتربّص بها على حدودها الغربية، بعد احتلال الجزائر سنة 1830م، فاستنهض بشعره روح المقاومة حتى قبل أن يقع ما يخشاه من احتلال، فكان له مرة أخرى فضل السّبق في ذكر الفرنسيين في شعره والاستهانة بقوتهم والتّحريض على مقاومتهم، فقال:

إن الفرنج على تكاثف عدّهم                    كالرّمل إذ لعبت به النّكباءُ
بل كالهباء إذ الرّمال لربّما                       كانت بها في الأعين الأقذاءُ
قل للفرنسيس المجاور أرضنا                    ما قبلكم نطحت أسودا شاءُ
لكنَها أحلام سلم قد مضت                    ستريكم تأويلها الهيجاءُ.

كان الشّيخ محمد الخضر حسين دقيق العبارة عندما أشار إلى السّبق شعرا للشّيخ محمود قابادو في تناول مسألة الإصلاح السّياسي فقال "إنّ أوّل شعر ظهر في تونس... يرمي إلى أغراض سياسيّة عالية، هو شعر الأستاذ محمود قابادو"2. لأن الحقيقة التّاريخية تؤكد أسبقية الشّيخ إبراهيم الرّياحي في الدّعوة إلى الإصلاح السّياسي غير أنّ دعوته كانت شفاهية، ولم يكتب نصوصا تساعد على نشر أفكاره . لقد كان في مقدّمة المبشّرين بالتّنظيمات العثمانية، حتىّ أنّه انفرد من بين علماء تونس بالذّكر في كتاب خير الدّين التّونسي "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، حيث قال عنه بأنّه: "فخر القطر الإفريقي، وفجر الرّشاد الحقيقي، من بلغ صوتُ صيته مسامع سائر النّواحي، الأستاذ العلاّمة سيدي إبراهيم الرّياحي، لو لم ير مساغًا لهذه التّنظيمات ما خطب بها على المنابر، ولا كان على تقريرها أحزم مثابر".

لقد كانت بداية انتشار الفكر الإصلاحي مع الشّيخ الزّيتوني محمود قابادو، الذي تتلمذ على يديه أغلب رجال الإصلاح، من طلاّب المدرسة الحربية وجامع الزّيتونة، وامتد تأثيره حسب البعض إلى خير الدّين التّونسي، خاصّة فيما يتعلّق بالموقف من العلوم الحديثة، واعتبارها الدّعامة الرئيسية للنّهضة، رغم أن خير الدّين باشا لم يتتلمذ على يديه، ولكن التقى به في المدرسة الحربية، حيث كان مشرفًا إداريًّا على المدرسة، ولعلّه استفاد من محاضرات قابادو، التي كان يلقيها في مجالسه.

"كاتب وباحث


التعليقات (0)