كتاب عربي 21

تجدد الحراك في تونس

محمد هنيد
1300x600
1300x600

رغم كل الآلام والمآسي وعشرات الجثامين التي يلفظها البحر يوميا من خيرة شباب تونس ممّن حاولوا النجاة من جحيم الوطن أملا في مستقبل أفضل فإن الشارع صار عاجزا عن تحريك ما به يستطيع تغيير الواقع والخروج من المسار المؤدي إلى الفناء الكبير. لا نقصد بذلك تصاعد الاحتجاجات الشعبية السلمية منها وغير السلمية بل نقصد بذلك قدرة القواعد الشعبية على صياغة حلّ عملي يًنهي حالة الاحتباس التي تعيشها البلاد بعد الجرائم التي ارتكبتها النخب التونسية في حق الوطن والثورة والشعب.
 
كثيرة هي القراءات التي تؤثث المشهد وتبحث عن تفسير للكارثة التي حلّت بالوطن والثورة: فكيف لشعب كان ملهما لشعوب العالم أن يستكين ويصمت ويرضى بتغوّل الاستبداد وعودة آلة القمع بأشد مما كانت عليه. 

يرى البعض أنها نهاية حتمية لشعوب لم تعرف ولم تملك من الخبرة ما تستطيع به المحافظة على ثورتها وتحويلها إلى مسار انتقالي ديمقراطي ناجز. صمتت الشعوب حين وجب الصراخ وعادت إلى حضيرة الطاعة راضية بقدَرها بعد أن نجحت أذرع الاستبداد الإعلامية في إقناعها بأن الخبز أهم من الحرية والكرامة وأنّ العرب شعوب لم تخلق لتعيش حرّة وأن الزعيم الخالد هو وحده المخلص والمنجي من كل المصائب. نجح الإعلام العربي في تصوير الثورات لعنة كبرى دمرت الأوطان والبلدان ولم تخلف غير الخراب والدمار والموت بل أقنعت كثرين بأن الإسلام قرين الإرهاب وأن المسلم المتديّن المحافظ خطر على البلاد والعباد.
 
يرى آخرون أنّ الشعوب قاومت بما يكفي فهي التي أطردت الطغاة وأسقطت أنظمة الاستبداد في تونس ومصر وليبيا ولا تزال تقاوم إلى اليوم قدر المستطاع لكنها لم تجد النخب القادرة على تحويل جهود الشعوب وتضحياتها إلى مكاسب حقيقية على الأرض تمنع عودة الاستبداد وسقوط الثورات فريسة الانقلابات. من دمّر الثورات غير النخب المؤدلجة من إسلاميين وقوميين ويساريين وعلمانيين ولبراليين ؟ ألم ينجح هؤلاء جميعهم دون استثناء في تفريق الجموع وتمزيق الشعوب وإحياء النعرات واصطناع الصراعات التي أطاحت بالمنجز الثوري؟ 

 

لم تكن القوى الأوروبية والغربية والروسية والصهيونية وغيرها في حاجة إلى إرسال الجيوش المجشة من أجل هزيمة المشروع التحرري فقد قامت جيوش الداخل ونخب الداخل بالعمل بإتقان كبير وبأقل قدر من الخسائر.

 



في كل الأحوال كان الفشل داخليا بامتياز وهذه هي إحدى أهم خلاصات السنوات العشر الماضية. لم يكن العدوّ الخارجي ليحتاج إلى جهد كبير من أجل منع الانتقال الديمقراطي في بلاد العرب فوكلاؤه في الداخل قاموا بالمهمة أفضل منه سواء عن قصد أو عن غفلة. ولم تكن القوى الأوروبية والغربية والروسية والصهيونية وغيرها في حاجة إلى إرسال الجيوش المجشة من أجل هزيمة المشروع التحرري فقد قامت جيوش الداخل ونخب الداخل بالعمل بإتقان كبير وبأقل قدر من الخسائر.
 
تونس التي كانت منارة الثورات تحوّلت اليوم إلى ما يشبه المهزلة الاقليمية بسبب الرداءة والعار الذي وصل إليه أداء النخب هناك وهي التي تقاتلت على قطعة الكعك حتى جاء من كسّر أسنانها وهرب بالطبق وما عليه. لم يكن تعليق دستور الثورة ولا حلّ برلمان الشعب ولا تصفية كل المؤسسات الدستورية ممكنا لو لم يشارك الجميع في الجريمة الكبرى وخاصة النخب التي أثثت المشهد بعد هروب الطاغية. فالنظام الحاكم اليوم ليس سببا في انهيار الأوضاع وتردي القدرة الشرائية واختفاء المواد الأساسية وموت الشباب غرقا في البحر بل هو نتيجة حتمية لما ارتكبه سابقوه من أخطاء كارثية.
 
اليوم تخرج بشكل محتشم تصريحات بعض قياديي الأحزاب خاصة من الإسلاميين والحقوقيين وهم يعترفون في خجل وحياء بأنهم قد ارتكبوا أخطاء كارثية أدت بالوضع إلى ما هو عليه. هي اعترافات متأخرة كثيرا ولا قيمة لها لأنها لا تتضمن ضرورة المحاسبة فالنخب العربية والتونسية لم تبلغ بعد مرحلة فرض المحاسبة كقانون أساسي يضمن منع الإفلات من العقاب. لم يحاسب أحد من جلادي النظام بعد الثورة ولم يحاكم أحد من لصوص المال العام الذين أفرغوا خزائن البلاد ومنعوا كل سبيل إلى النهضة وسدوا كل طريق إلى التخلص من التبعية.

 

إن انحسار الشعارات الأيديولوجية وانقراض الجماعات السياسية من الشارع يمثل تطورا هاما في قدرة شباب تونس على استعادة زمام المعركة ومواجهة الاستبداد عاريا من الأحزمة الهرمة التي تدّعي معارضته.

 



بالأمس القريب خرج زعيم التيار الإسلامي في تونس وقد شارف على التسعين من عمره ليعلن أنه لن يترشح لأي منصب قادم في واحدة من آخر دروس الإسلاميين في التداول على السلطة. أما زعيم الحقوقيين الذي رفض العودة إلى تونس من أجل المشاركة في إعادة القطار إلى مساره الطبيعي بل فضّل تلبية حاجة أمريكية ملحة لفهم شروط الانتقال الديمقراطي في تونس بعد أن كان هو نفسه أحد أهم أسباب تخريب هذا المسار. بين هذا وذاك لا تزال الوجوه السياسية القديمة الكالحة التي اختطفت ثورة الشباب تتقاتل علّها تظفر بجزء من كعكة الجبن في حال سقط هيكل النظام القائم وهي تعيد في حركة دائرية عبثية رقصتها القديمة حين تظاهرت بمحاربة الاستبداد ثم تحوّلت إلى أحد أهم شروط إحيائه.

في هذا السياق ينتصب الوعي الشعبي القاعدي في حالة شلل تام وهو يعي جيدا أن لا فائدة من إسقاط النظام القائم لأن البدائل معلومة ولن تختلف عنه كثيرا في شيء. فلمَ يضحي الناس بأنفسهم من جديد في سبيل نخب تعيسة جائعة بائسة؟ من يجرّب نخبا مجرّبَة؟ إنها نفس الوجوه الكئيبة التي أمضت أكثر من عشر سنوات تتقاتل وتتناحر بعد أن رفض الإسلاميون خاصة والحقوقيون معهم محاسبة من أجرم في حق تونس وشعبها بل تحالفوا معهم ودمروا واحدة من أعظم ثورات العالم. باعت قيادات الإسلاميين تضحيات قواعدها وآثرت مناصب في السلطة علها ترتوي من عطش قديم لكنّ الإناء كان مسموما ولم يسلم أحد من سموم السلطة.

اليوم تقف البلاد على شفى مجاعة حقيقية بعد اختفاء أغلب السلع وانقطاع موادّ أساسية مثل النفط والغاز مما تسبب في اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية التي لا تطالب بإسقاط النظام ولا تحمل أجندات سياسية بل تطلب العدل والكرامة والشغل والحق في الحياة. إن انحسار الشعارات الأيديولوجية وانقراض الجماعات السياسية من الشارع يمثل تطورا هاما في قدرة شباب تونس على استعادة زمام المعركة ومواجهة الاستبداد عاريا من الأحزمة الهرمة التي تدّعي معارضته.


التعليقات (0)