كتب

النظرة التقليدية للمسألة الوطنية السورية.. قراءة في كتاب (1/2)

كتاب يعرض لتاريخ الثورات السورية في مواجهة الاستعمار وصولا إلى الاستقلال..
كتاب يعرض لتاريخ الثورات السورية في مواجهة الاستعمار وصولا إلى الاستقلال..

الكتاب: "استقلال سورية بين الكتلة الوطنية والثورات الوطنية 1927- 1946"
الكاتب: د. محمد الحوراني
الناشر: دار بعل للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2022

(443 صفحة من القطع الكبير)

شهدت سوريا منذ بداية عهد الانتداب الفرنسي، عدة ثورات متلاحقة وصولاً إلى ثورة 1925 التي شملت معظم أرجاء البلاد. وكانت الثورات السورية تقوم على أساس متين من الأهداف القومية، وتنزع إلى الاستقلال وترفع شعار الدفاع عن الكرامة الوطنية. لقد ظهرت مطامع فرنسا في المعاهدة المعروفة بمعاهدة (سايكس بيكو)، فقامت بغزو شرق البحر المتوسط، ثم تبعها عهد الانتداب في سوريا، وتقربت من الطوائف المسيحية بهدف استمالتها إلى جانبها، وتأجيج نار الصراع الطائفي، غير أن هذه السياسة وجدت من يقاومها في ميدان النضال الوطني من جانب فئة المسيحيين الوطنيين العرب. 

و"بزع في وادي النصارى من أهالي قضاء تلكاخ وجوه عريقة في عروبتها، نبيلة في مقاصدها، كان لها شرف السبق في ميدان الجهاد الوطني، ومن أبرز تلك الوجوه شأناً في مواقفهم المشرفة إيماناً في قوميتهم العربية، الشاعر العربي المشهور المرحوم عبد الله السليم اليازجي وأبناءه وأبرزهم شأناً  المربي الكبير الأستاذ سليم اليازجي مدير المدارس الثانوية الأهلية بدمشق، وعضو الاتحاد القومي في هذا العهد الميمون الذي اجتمعت الكلمة على منحه الثقة، تقديراً لمقاصده الوطنية النبيلة، ومأثره الحميدة المقرونة بالتضحيات في بناء المجتمع الثقافي، وقد كانت على أوسع نطاق".
 
من هذه التمردات على الاستعمار الفرنسي، التي وجدت منبعها في الثورات المحلية، ثورة صهيون التي قادها المجاهد الكبير المرحوم عمر البيطار، والتي اشترك فيها أيضاً الشيخ عز الدين القسام، الذي كان له نفوذ ديني على المجتمع، فحكم عليه بالإعدام، وثورة العلويين التي قادها الزعيم الشيخ صالح العلي في منطقة الجبل العلوي وساحله، وثورة الشمال التي قادها السيد نجيب عويد، ولعب فيها النادي العربي بحلب، الذي استقبل الملك فيصل عند زيارته لحلب في العام 1919 ـ دوراً ملهماً في إشراك المجاهدين في جبهة الدفاع الوطني، وثورة الفرات والجزيرة التي شهدت تحالف العرب والأكراد على مقاومة الفرنسيين، الذين فرضوا انتدابهم على سوريا فرضاً، ومعركة ميسلون التي انبثقت عنها المقاومة الوطنية والقومية لاحقاً، والتي ستكون ذات أثر في تطور مراحل النضال الوطني في سوريا.

وتعتبر معركة ميسلون التي استشهد فيها القائد الكبير يوسف العظمة في 24 تموز 1920، معركة فاصلة في تاريخ الأمة العربية، إذ أنها حصلت في عهد انتهاء الدولة العربية الفتية بدمشق، التي أسسها القوميون العرب ومفكروهم بزعامة الملك فيصل، والتي دامت سوى خمسة أشهر بدءاً من يوم إعلان استقلالها في 8 آذار (مارس) إلى يوم انقراضها في 24 تموز 1920، ودخول الجيش الفرنسي إلى دمشق، وانهيار العرش الفيصلي، وانتقال الملك فيصل متوجهاً إلى درعا، ثم غادرها نحو حيفا.

بعد بداية الانتداب الفرنسي على سوريا، قام الجنرال الفرنسي "هنري غورو" بإصدار سلسلة مراسيم عرفت بـ "مراسيم التقسيم" (بين آب (أغسطس) 1920 وآذار (مارس) 1921) قضت بتقسيم سوريةا إلى دويلات منفصلة، خاضعة للانتداب الفرنسي ، وكان لواء الإسكندرون إحدى هذه الدويلات، إضافة إلى الدويلات الأخرى:دمشق ، وحلب، وجبل العلويين، وجبل الدروز، ولبنان الكبير.

خلال تلك الفترة، قامت فرنسا بتسليم مناطق سوريا الشمالية ـ في اتفاقية لوزان عام 1923 ـ إلى تركيا، والتي شملت مدناً سورية عديدة كـ: الرُها، وعين تاب، وماردين، بينما بقي لواء الإسكندرون -وأهم مدنه: أنطاكيا، والإسكندرون، والريحانية، وأرسوز ـ ضمن المناطق السورية.

لقد عمت الثورات المحلية، وتعددت المعارك بين الثوار الوطنيين والقوات الفرنسية المستعمرة، وكانت تعبر عن أشكال المقاومة الوطنية والقومية العنيفة الرافضة للانتداب الفرنسي، والتي تتمحور حول شعارين رئيسيين: الاستقلال الوطني والوحدة، باعتبارهما شعارين يعبران عن جوهر النضال السياسي الوطني والقومي السوري في تلك المرحلة. وقد شكلت المدن السورية الرئيسة دمشق وحلب مركز استقطاب للنضال السياسي الوطني والقومي في سوريا ضد الاحتلال الفرنسي. ومسـألة طبيعية أن تكون هذه المدن مراكز أساسية للنضال الوطني والقومي، الذي لعبت فيه النخب الاجتماعية والسياسية المتعلمة والتجارية دوراً رئيساً، بحكم تخلف الريف السوري، وانعدام وجود رقعه ثقافية فيه، "لكن تطوراً مهماً شهده المد الوطني ذو الأفق القومي العربي في سوريا عام 1925م وكان يتطور ببطء في الأعوام القليلة السابقة، أدى إلى انتقال مؤقت لمركز الثقل النضالي من المدينة إلى الريف.
 
فقد انفجرت الثورة السورية الكبرى في شهر تموز العام 1925 بقيادة سلطان باشا الأطراش، ولم يتمكن الفرنسيون من أخماد هذه الثورة إلا في العام 1927. ثم إن اشتراك الريف السوري في الثورة، شكل أساساً قوياً للوحدة الوطنية السورية، التي تعتبر العامل الرئيس لاندلاع الثورة، والتي قطعت الطريق على المستعمر الفرنسي مسألة استغلال، العلاقات العشائرية، والعائلية، والقبلية، والطائفية، السائدة، وتوظيفها في إنتاج سياسة الإيقاع، والتفرقة، والصراع، بين العناصر والطوائف، واضرام نار الفتنة فيما بينها، بغية حرفها عن ميدان النضال الوطني، والاجهاز على الحركة الوطنية لاحقاً.
 
لقد سعى الباحث الدكتور محمد الحوراني، رئيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا، في هذا الكتاب، الذي يحمل العنوان التالي: "استقلال سورية بين الكتلة الوطنية والثورات الوطنية 1927 ـ 1946"، ويتكون من مقدمة، وستة فصول، وأربعة جداول، وست وثائق تاريخية مهمة، وهو كان في الأساس رسالة دكتوراه في التاريخ الحديث من الجامعة اللبنانية عام 2019، إلى كشف الحقيقة والوقوف عليها لمرحلة مهمة من تاريخ سوريا الحديث، عبر دراسة أهم كتلة سياسية لعبت دورًا محوريًا في الصراع السياسي الوطني بمفهومه التقليدي، خلال مرحلة الانتداب الفرنسي وصولا إلى استقلال سوريا في عام 1946.

على الرغم من الإشكالات والأسئلة التي ما زالت تغصُّ بها كتب الراغبين بكشف شيء من الحقيقة التاريخيّة، رغبة مِنَ السوريّين عموماً والباحثين خصوصاً في الإفادة من تلك التجربة فيما تواجهه سوريّا اليوم، فمن يقرأ التاريخ جيّداً يمكنه تجاوز الكثير من الأخطاء والثغرات في حاضره ومستقبله.

الكتلة الوطنية في سوريا طبيعتها ومصالحها الطبقية 

تعتبر الكتلة الوطنية من أقدم الأحزاب السياسية التقليدية والمحافظة، وأكثرها تأثيراً من الناحية السياسية، إذْ إِنَّ تشكلها يعود إلى دمج الجمعيات السرية التي تكونت في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، أي فترة النضال القومي العربي من أجل الانسلاخ عن السلطنة العثمانية ، في حزب الشعب بزعامة الدكتور / عبد الرحمن الشهبندر، الذي جمع أيضاً معظم الزعماء  السياسيين السوريين المعتدلين، حيث أن أهدافه كانت تتمثل في " سيادة سوريا ووحدتها والحرية الشخصية التامة والإصلاح القضائي، وقد تطور الحزب إلى معارض عنيف لحكومة رئيس المجلس الاتحاد السوري السيد صبحي بركات".
 
لكن خلال فترة الانتداب الفرنسي، انضمت عدة تكتلات سياسية متكونة من المثقفين والسياسيين المستقلين إلى حزب الشعب، الذي تحول بدوره إلى مجموعة سياسية رئيسية منظمة عرفت باسم " الكتلة الوطنية"، التي تألفت من الوطنيين الذين كانوا ينتمون إلى العائلات الاقطاعية الكبيرة، " وأكثرها أهمية مثل جميل مردم وهاشم الاتاسي وسعد عبد الله الجابري. واختير الاتاسي رئيساً للكتلة ثم انتخب رئيساً للجمعية التأسيسية في عام 1928.

وهكذا أصبحت الكتلة الوطنية من حيث هويتها السياسية حركة سياسية ذات طموح وطني معين، تعبر عن حاجة ومصالح الطبقة البرجوازية التجارية وحتى الاقطاع، إلى انتهاج سياسية التضامن الوطني مع الشعب، على أرضية الانخراط في نهج الاصلاحات العُلْوِيَة ضد الاحتلال الفرنسي، معطية الأولوية للنضال السياسي، بعد انكسار الثورة السورية الكبرى. 

ومن الواضح أن الكتلة الوطنية بما هي تمثل مصالح قوى اجتماعية برجوازية معينة ظلت تاريخياً على الصعيد الفكري والاجتماعي ذيلية للسيطرة الايديولوجية للاقطاع والرجعية المحلية، وكذلك أيضاً على الصعيد السياسي، إذ أن برنامجها قد نكل عن انجاز الثورة الوطنية الديمقراطية، على الرغم أن سوريا قد أصبحت مقسمة إلى عدة دويلات في ظل فترة الانتداب الفرنسي، حيث أضر هذا التقسيم بمصالح البرجوازية التجارية والصناعية التي كانت متمركزة تاريخياً في دمشق وحلب، ولم يفتح ملف الصراع الاجتماعي في بنية المجتمع التقليدية ضد استمرار العلاقات الاقطاعية المتجمدة، التي تطبع بمنظورها الأيديولوجي والاجتماعي طابع المجتمع، وتشكل في الوقت عينه انسداداً زمنياً في خط التطور والتقدم لانجاز الثورة الديمقراطية البرجوازية..

 

لم تكن الحياة النيابية في سوريا بنظر مؤيدي الديمقراطية الليبرالية، والدستورية، والتعددية الحزبية، سوى أداة ديمقراطية شكلية، تستخدمها الأحزاب التقليدية المتنافسة بهدف الاستيلاء على السلطة، وتحقيق مصالح قياداتها الطبقية والعائلية،

 


ولما كانت الكتلة الوطنية تجمعاً سياسياً فضفاضاً، وليس حزباً ايديولوجياً عقائدياً، فإنها قد صرفت النظر عن خوض المعركة الايديولوجية الرئيسية، والسياسية الفعلية، لفتح امكانية الخيار المجتمعي والايديولوجي الآخر ـ المتناقض بالضرورة مع الأيديولوجية الاقطاعية التقليدية السائدة التي تعمل على فرض عن طريق القسر والاكراه منظورها الشمولي المسبق على جميع أفراد المجتمع ـ يقيناً بأن الشعب، والفكر الحديث، والأيديولوجية الحديثة، والمجتمع المدني هي المقولات التي تسهم في بلورة وصنع المشروع الوطني الديمقراطي لمجابهة سلطات الاحتلال وإزالتها، وفق خط استراتيجي يستند إلى وعي صحيح مقارب لخط سير الواقع إلى المستقبل، أي إلى وعي المسار التاريخي ككل، الذي يقود الماضي، انطلاقاً من الحاضر إلى المستقبل، في سبيل تحقيق هذا المشروع التاريخي الاستراتيجي المشترك لجميع فئات الشعب وطبقاته، الذي يكون حاملاً لفلسفة جديدة لها قيمة تحريرية لجماهير الشعب من أثار التسلط الفكري والأيديولوجي العقائدي التقليدي السائد، وترتكز إلى قضية حرية الفكر والمعتقد، وحرية تنوع الحياة الاجتماعية، والممارسة الايديولوجية. 

وهي فلسفة بناء المجتمع المدني الحديث، باعتباها أيضاً ميدان الصراع الاستراتيجي الراهن في الحقل الفكري، والايديولوجي، والسياسي، بين القوى التاريخية الصانعة للمستقبل والصاعدة إليه، والمؤمنة حقاً بالحرية، والتعددية، وبين قوى التقليد التي تجسد عملاً سياسياً جوهره إصلاحي وقائم على تصور شمولي وهمي يخدم مصالح طبقية خصوصية، ويحافظ على المسار الاجتماعي القديم..

والحال هذه، فقد تحولت الكتلة الوطنية باعتبارها معارضة سياسية هيمنت على قيادة النضال الوطني في سوريا إلى فئة حاكمة ذات مصلحة راسخة في المحافظة على البنية الاجتماعية القائمة، واستئثارها بالسلطة، وإن كانت محوراً مركزياً في الصراع السياسي الديمقراطي لإرساء بعض أسس المجتمع المدني، كمطالبتها مثلاً في مؤتمرها الذي عقد في بيروت في 19 / تشرين الأول بالدعوة إلى تشكيل "جمعية تأسيسية واستبدال الانتداب بالمعاهدة لتحقيق الوحدة السورية، وتوحيد النظام القضائي، واحترام السيادة القومية، والاشتراك في عصبة الأمم، والتمثل الخارجي، وإعلان العفو والتعويض عن المنكوبين".
 
أما على صعيد علاقة الكتلة الوطنية بالشعب، فقد كانت موسمية ومرتبطة بالدرجة الرئيسية في فترة الانتخابات النيابية لخدمة مصالح كبار الملاكين الاقطاعيين وكبار التجار، الذين يبحثون عن مناصب، وزيادة مكاسبهم المادية، و"تلميع" وجاهتهم العائلية والطبقية في البرلمان. فالمجالس النيابية في سوريا التي كان يسيطر عليها هذا التحالف الطبقي، والتي تمارس السلطة باسم الشعب، كانت تمثل أقلية من أفراد الشعب. 

ثم إن العمليات الانتخابية لم تكن مستندة إلى تنظيم متكامل لآلة انتخابية، وذلك قبل انتخابات بفترة طويلة، حيث تتصارع الأحزاب على برامج سياسية محددة، ويشارك الشعب بصورة مباشرة في هذه الانتخابات  لانتخاب أعضاء البرلمان، بل إن آليتها كانت تتم وفق التقاليد العثمانية، حيث أن أعضاء البرلمان عادة ما يكونون مرشحين من قبل الحكومة، الخاضعة بدورها لقيادة حزب الكتلة الوطنية، التي تسعى إلى تحقيق مصالح القوى المستفيدة من النظام القائم (كبار التجار وكبار الملاك الاقطاعيين) عبر إيصال مرشحيها إلى المجلس النيابي، والاستئثار بالسلطة السياسية. 

هكذا، لم تكن الحياة النيابية في سوريا بنظر مؤيدي الديمقراطية الليبرالية، والدستورية، والتعددية الحزبية، سوى أداة ديمقراطية شكلية، تستخدمها الأحزاب التقليدية المتنافسة بهدف الاستيلاء على السلطة، وتحقيق مصالح قياداتها الطبقية والعائلية، حيث يكون الشعب سلعة في سوق السياسية العُلْوِيةِ بيد النواب والسياسيين المحترفين المنتفعين، وكما يقول الدكتور خلدون النقيب أن هيمنة تحالف كبار ملاك الأراضي وكبار التجار على البرلمان، قدأجهض المحتوى الديمقراطي للانتخابات في وقت مبكر، ومع أن برلمانات سورية - بسبب ظروف الانتداب الفرنسي المباشر - لم تكن إلا مجالس استشارية، فإنها تعطينا صورة جيدة عن تبلور القوى الاجتماعية وهيمنة كبار ملاك الأراضي والتجار على الحياة السياسية في البلاد .

ففي برلمان 1928، كان عدد النواب الممثلين لكبار التجار وكبار الملاكين، وأعيان - شيوخ القبائل 22 نائباً ومن أصل 72، أي ما يقارب 32 بالمئة، وفي برلمان العام 1932، بلغ عدد النواب هذا التحالف 33 نائباً من أصل 70، أي مايعادل 47 بالمئة، وفي برلمان العام 1936، 54 نائباً من أصل 106، أي ما يقارب 50 بالمئة.
 
البرلمانات في سوريا، كان أعضاؤه ينتقون ممثلين للمناطق، والطوائف، والعشائر، وكان ذلك مجالاً للتنافس والتحاسد. وكان تعبيراً سياسياً عن تقسيم سوريا سياسياً، الذي تحول إلى تقسيم واقعي عارضه الشعب السوري بوجه عام. ولم يلق تأييداً إلا من قبل المتعاونين مع الاستعمار الفرنسي، والمنتفعين من سياسته، فتشكلت دولة العلويين، ودولة جبل الدوز، ودولة حلب، ولعب المثقفون دوراً بارزاً في مقاومة المشروع الفرنسي لتقسيم سوريا.


التعليقات (0)