هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "الدولة قانون وسياسة"
الكاتب: بليغ نابلي، ترجمة د. محمد عرب صاصيلا
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021
(352 صفحة من القطع الكبير)
انبثقت دولة الحق والقانون في سياق التحولات التاريخية الكبرى التي أصابت المجتمعات الأوروبية، منذ أن بدأ المشروع الثقافي التنويري الغربي الذي له خاصياته المتميزة يشق طريقه لجهة إخراج العقلانية من حدود الغيب والتجريد اللفظي إلى عالم المجهول المادي إلى الطبيعة. وبذلك ولدت الدولة الحديثة بفضل الجهد التاريخي الذي قامت به الذات الأوروبية على ذاتها في مراحل الصراع التوتري الهائل بين العقل المسيحي والعقل العلمي الذي دام ثلاثة قرون، والذي توج بإحداث القطيعة الكبرى ـ وهي قطيعة معرفية وقطيعة ابستمولوجية وسياسية داخل استقلالية العقل نفسه ـ مع التصور الديني للعالم والحياة الذي أصبح معيقاً للحداثة والتقدم وغير محتمل وغير مقبول في معارضة النظام المعرفي الجديد الذي شكلته البرجوازية كطبقة صاعدة في أوروبا.
لاشك أنَّ ميلاد الدولة ـ الأمة، أساسها، وأصلها، ومعناها، تمظهر تاريخياً في ذاته ولذاته حسب تعبير هيغل، حين بدأت العلاقات الراسمالية تظهر تحت شكل الرأسمالية البضاعية، ومع اندلاع الثورة الديمقراطية البرجوازية التي عمت الغرب بدرجات متفاوتة الحدة والقوة منذ القرن التاسع عشر وفي آواخر القرن الثامن عشر، وعلى امتداد القرن التاسع عشر. ولدت أشكالاً متنوعة عبر التاريخ من الدولة ـ الأمة، ففي انكلترا، تشكلت الرأسمالية الصناعية من رحم الرأسمالية التجارية، وحققت البرجوازية "وفاقاً تاريخياً" مع الارستقراطية بتحالفها مع النبلاء. غير أن التوازن النسبي للطبقات المسيطرة في مرحلة عملية التراكم البدائي لرأس المال الانكليزية التي عرفت الكثير من العنف لم يفسح في المجال لانبثاق دولة قوية كما هي الحال في فرنسا، بل عجل بقدوم " دولة معتدلة" حسب تعبير مونتسكيو، كما عملت هذه السلطة السياسية المخفضة على إدارة هذا الوفاق في إطار التناقض بين الديمقراطية الداخلية والاستغلال الامبريالي.
أما في فرنسا، فقد استولت البرجوازية على السلطة بوساطة الثورة العنيفة، وبسطت هيمنتها الطبقية على مجتمع مازال زراعياً وتكمن المفارقة هنا في أن الهيمنة البرجوازية في فرنسا سبقت التوسع الصناعي والرأسمالية الصناعية التي عرفت انطلاقتها الفعلية تحت حكم الامبراطورية الثانية ابتداء من العالم 1850، على نقيض انكلترا.
فرضت الدولة نفسها كشكل للتنظيم السياسي للمجتمعات الحديثة بعد ظهورها في أوروبا الغربية، نهاية عصر الإقطاع (بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر) ويخضع سطح الكرة الأرضية كله ـ تقريباً ـ لسلطة دولة ذات سيادة. يفسر هذا الانتشار وهذه الدينامية حق الشعوب أو الأمم، في المطالبة "بدولة" أو بمثال أعلى دولتي" كما تفسرهما جاذبية الحصول على وضع شخص القانون الدولي، الذي يتمتع به هذا الشكل المؤسساتي للتنظيم السياسي.
لقد شهد القرن العشرون نمواً أسياً في عدد الدول الناشئة عن تشظي امبراطوريات متعددة القوميات (العثمانية، النمساوية ـ المجربة، الخ) إمبراطوريات متعددة القوميات (الاحاد السوفييتي، يوغسلافيا، تشيكوسلوفاكيا، إلخ) ومن خمسين دولة في مطلع القرن العشرين، انتقلا في بداية القرن الحادي والعشرين إلى نحو مئتي دولة، شكلها العام مستنسخ، جوهريا، من أنموذج الدولة ـ الأمة ـ(LEtat, nation! ) الأوروبي ولا يزال الاتجاه إلى النزعة الانفصالية يطفو على السطح، حتى في أوروبا، بحيث لا يكون للمطالب القومية الجديدة من تطلع آخر غير الوصول إلى وضع الدولة.
في هذا الكتاب الجديد الذي يحمل العنوان التالي: "الدولة قانون وسياسة، المكتوب باللغة الفرنسية من قبل المؤلف بليغ نابلي، وترجمه إلى العربية الدكتور محمد عرب صاصيلا، ونشرته الهيئة العامة السورية للكتاب في عام 2021، ويتكون من مقدمة، وأربعة أقسام، تحتوي جميعها على تسعة فصول، يطرح الكاتب السؤال التالي: ما الدولة؟ وهي العبارة المنسوبة إلى لويس الربع عشر: "الدولة أنا".
نموذج الدولة الفرنسية
يهدف هذا الكتاب إلى فهم موضوع الدولة في سماتها الوجودية والثابتة، وفي تحولاتها المعاصرة. فقد درس الكاتب الدولة هنا، جوهريًا، انطلاقًا من حالة فرنسا عبر بنائها النظري، والتاريخي والسياسي والقانوني، وتنظيمها (التوزيع الشاقولي والأفقي للسلطة)، وعملها (عبر غايات مهماتها ووسائلها، ووظائفها)، ونظامها (على الصعيد الدولي).
تتميز الدولة الفرنسية بهويتها الأيديولوجية، بوجه خاص، حيث تسيطر"الثقافة القومية الثابتة"، إضافة للعلاقة الحميمية القائمة بين المجتمع مع دولته. وقد جعل البناء الاجتماعي والتاريخي للدولة في فرنسا منها "مخلصاً دنيوياً" و"سيداً يمسك بيده مفتاح السر الزمني" وبصفتها نوعاً من سلطة الدرجة الأولى والأخيرة، دمغت الدولة بقداسة الأمر الذي يزينها بهالة "إلهية" وقد بني الأنموذج الفرنسي على فكرة سمو الدولة ومركزيتها في النظام الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي والقانوني، في آن معاً وإن كانت مؤسسة كالمدرسة الوطنية للإرادة لا تزال ترمز إلى هذه المركزية، فإن الدولة في فرنسا عرفت تحولات عميقة.
يقول الكاتب بليغ نابلي: "إن الدولة هي أكثر من أي مكان آخر القاعدة التي بنيت عليها الأمة. وخلافاً لما حصل في الولايات المتحدة، وغالبية البلدان الأوروبية، سبقت الدولة في فرنسا، الأمة تاريخياً وولد الشعور القومي من إرادة السلطة السياسية. لقد شيدت الدولة فرنسا من الأعلى: إنها "قمة لا يمكن النزول منها"، وأنموذج لم تدفع فيه، قط، سيرورة التمايز والمأسسة إلى مثل هذا البعد. إنَّ الدولة في ظاهرة التشابك بين الدولة والأمة هي "التجسيد القانوني للأمة"، والرحم الذي تكونت فيه. لقد جعلت السلطة السياسية تقليدياً مركزية في دولة منتجة للمصلحة العامة، ومدافعة عنها، في النظام القانوني والاقتصادي والاجتماعي. وقرنت الدولة في التقاليد الجمهورية الفرنسية، بالاهتمام المزدوج بما هو عالمي وقومي. إنها المؤتمنة على ذاكرة جماعية، والتجسيد للجماعة القومية. وفق هذه القراءة، تعد الأمة كشعور لوحدة المصير، اساساً للدولة التي لا تشكل بالنسبة لها إلا الأداة القانونية للتمثيل والعمل. وتعد الدولة أولاً في الفكر الديغولي عنصراً ميتافيزيقياً ضامناً لخلود الأمة ويحمل دستور الجمهورية الخامسة، أصلاً هذه "النزعة القومية الجمهورية" (ص 12).
البرجوازية الصاعدة تعمل على توطيد هيمنتها، وخدمة أهدافها على أساس أنها قيم حقائق، وتحقيق الوحدة القومية للأمة المتمثلة للسوق الاقتصادية من خلال إلغاء الحواجز الجمركية الداخلية الموروثة من الانقسامات الاقطاعية، وانتزاع السيطرة والسيادة للسلطة السياسية من الرجعية الاقطاعية والمونارشية وإقامة دولتها، التي لن تكون أتوماتيكياً نتاج سيطرتها كطبقة، وإنما عبر الفتوحات التي تقوم بها لفرض هيمنتها.
إذا كانت الدولة، ككلمة ومفهوم، قد ظهرت عام 1696، في الطبعة الأولى من معجم الأكاديمية الفرنسية، الذي يعرف الدولة بأنَها "حكمُ شعبٍ يعيش تحت سيطرة أمير، أو في جمهورية"، فإنها في فرنسا، تعود إلى السلالة الكابيتية، وفرضت تفسها بقوة الأفكار والسلاح. وقد أدَت النزعة الملكية للحكم المطلق دورًا أساسيًا في سيرورة مركزة السلطة وبناء الأمة. ولم تكفَّ فرادة مفهوم الدولة عن التثبت والتضخم في عهود الثورة والإمبراطورية والجمهورية.
وإذا كان الفيلسوف الفرنسي توكوفيل قد أشار بحقٍّ، إلى استمرارية المركزية الإدارية بين ملكية النظام القديم والقرن التاسع عشر، فإنَّ الثورة الفرنسية سرَّعت العقلنة والتراتبية الإدارية، في الوقت الذي أدخلت فيه الدَمَقْرَطَةُ السياسية. فقد انتصبت الدولة الجمهورية الموحَّدة والممركزة بواسطة القانون والإدارة (والقضاء الحامي لها: مجلس الدولة) والمدرسة العلمانية (المؤسسة التي تمثل قَدَرُهاَ في تكوين ضمير مدني و أخلاقي).
الثورة الفرنسية ومفهوم الدولة ـ الأمة
إن ما يتم التعبير عنه بدولة الحق والقانون، هو نشوء الدولة الحديثة في سياق التجربة الغربية، بدءاً من القرون الكلاسيكية التي أفرزت أشكالاً متعددة من الدولة القائمة على نظرية القانون الطبيعي، مروراً بالتحولات التي عرفتها المجتمعات الغربية منذ بداية الثورة الإنجليزية وحتى قيام الثورة الفرنسية، والتغيرات التي أدخلتها هذه الأخيرة على صعيد تجسيد القطيعة مع الأشكال السياسية للدولة الاستبدادية التي شهدت نشأة الرأسمالية الميركنتيلية والتي عبرت عن إحدى المراحل الانتقالية من الاقطاعية إلى الرأسمالية، وإرساء الدولة القومية ـ الأمة التي تعتمد على فكرة سلطة القانون المطلقة، وبناء سياسي وقانوني يتجسد في مؤسسات مدنية تعتمد العمل الايديولوجي وأخرى عسكرية وأمنية تعتمد العنف المشروع داخل حدود جغرافية معترف بها داخلياً وخارجياً. هذا الجمع بين "البناء المدني السياسي والظاهرة القانونية وبين العنف المشروع داخل حدود معينة، هو أساس مفهوم الدولة ـ الأمة (L´ETAT - nation)".
ولعل مفهوم الدولة ـ الأمة ـ يضيء بكامل دلالته عندما يقترن بمأثور الثورات البرجوازية في الغرب، وبخاصة منها الفرنسية التي كنست من أمامها المرجعية الإلهية حين قطعت رأس الملك بتهمة الخيانة العظمى للأمة، وحررت بشكل عنيف هذه الأمة من العلاقات العائلية والدينية والشخصية الملكية، وفصلت المجرد عن المباشر، ووضعت مشروعية جديدة أدت إلى قيام الدولة القومية، المقترنة بذلك المأثور الآخر الفرنسي هذه المرة، الذي عرف بشرعة حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789، والذي أضحى علامة ايديولوجية فارقة للدولة الليبرالية والديمقراطية التمثيلية، حين أكدت بشدة بأن "أي مجتمع (...) لا يحدد فيه فصل السلطات لا يملك دستوراً (البند 16) حيث أن الدولة الليبرالية مبنية على هذه القاعدة.
وبذلك أصبح الدستور يمثل القانون الأسمى في تنظيم المجتمع محدداً بذلك أسس الدولة القومية الحديثة وحدودها. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر أصبحت المطالبة بتشكيل دستور في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية عملاً سياسياً من الأعمال الأكثر رمزية وثباتاً التي قادتها البرجوازية المتحدثة باسم الأمة، وابتداء من تلك الفترة أصبح وجود الدستور المكتوب في الظواهر العادية وتحول من ضرورة إلى عادة وليس فقط في أوروبا فحسب بل في كل من أمريكا والعالم الثالث أيضاً.
لقد تحقق قدوم عصر الدولة عبر سيرورة طويلة ومتقطعة وقد أحدثت نهاية الإقطاع في أوروبا الغربية ، ثم توقيع معاهدات وستفاليا عام1648 تحولاً في ميزان القوى مع البابوية والإمبرطورية المقدسة والمقاطعات ذات الجوهر الإقطاعي فجردت بالفعل المؤسسات الكنسية من السلطة الزمنية وأطلقت عملية ذبول الإمبراطوريات وسرعت سيرورة إضفاء طابع مؤسساتي ومركزي وبيروقراطي على السلطة.
إن مفهوم الدولة ـ الأمة يتضمن في سيرورته الطابع الكوني العام الذي يحمله إلى العالم، لأن ظهوره ترافق مع ظهور الرأسمالية الناشئة، وانتشار علاقات الإنتاج الجديدة الخاضعة للرأسمال. فالبرجوازية الصاعدة تعمل على توطيد هيمنتها، وخدمة أهدافها على أساس أنها قيم حقائق، وتحقيق الوحدة القومية للأمة المتمثلة للسوق الاقتصادية من خلال إلغاء الحواجز الجمركية الداخلية الموروثة من الانقسامات الاقطاعية، وانتزاع السيطرة والسيادة للسلطة السياسية من الرجعية الاقطاعية والمونارشية وإقامة دولتها، التي لن تكون أتوماتيكياً نتاج سيطرتها كطبقة، وإنما عبر الفتوحات التي تقوم بها لفرض هيمنتها والمرتبطة بخوض الصراعات السياسية المستمرة من أجل السلطة، الأمر الذي أظهرته بأكثر ما يكفي تاريخ الثورات، وبالأخص منها تاريخ الثورة الفرنسية الكبرى.
يقول الكاتب بليغ نابلي:"وحتى إن كان تحديد تاريخ قدوم الدولة قد تميز بإضفاء طابع احتكاري ومركزي على السلطة وبانبثاق بيروقراطية مزودة بوسائل قمعية ، فإن هذا التحديد يبقى صعباً إلى حد ما. وقد حدث هذا القدوم في مرحلة مفصلية تمثلت في الخروج من الإقطاعية في أوروبا ( او الانتقال من الحكم الفردي الإقطاعي إلى الحكم الفردي الملكي أو الدولة الملكية) وهي مرحلة وسمت بحركة ثلاثية اخترقت النظم الملكية الأوروبية (بدرجات مختلفة وبأشكال متمايزة) وتجلت في: تركيز السلطة في يدي الملك عن طريق آليات مركزة للسلطة وللثقافة القومية وتوحيد لهما إضفاء طابع زمني على السلطة (تحرر السلطة الملكية من سلطة الكنيسة) والشيء العام (الذي يندرج مفهومه خارج إطار الدين) وإضفاء طابع مجرد على السلطة (الفصل بين شخصية الملك الخاصة وشخصيته العامة، وإضفاء صفة المؤسسة على من يتولى السلطة) وتوطيد مركز سياسي (Elias,1975,poirat,2003) يقوم قدوم الدولة – الأمة الحديثة (في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا) تاريخياً على التطابق بين قانون وإقليم وسكان (Rosanvallon,2001) وتندرج هذه السيرورة التاريخية السياسية في حركة تحولات اجتماعية دعت الدولة إلى تأمين وظيفة تماسك تمددت هي نفسها بالعلاقة المنسوجة بين الدولة والأمة.
وأصبح بناء الدولة أيضاً مشروعاً توحيدياً فعلاو على الصلة بين بناء الدولة والبناء الوطني (Linz,1997) انطوى تشكل الدولة في أوروبا على قيام المركز السياسي بالتوفيق بين النماذج المختلفة للحدود: الإلزامية، القانونية الإدارية، الاقتصادية والثقافية (Bartolini,2005) وفي هذا يستحق تحليل فيبر لتشكل الدولة أن يستكمل(ص 48).
لقد تحقق قدوم عصر الدولة عبر سيرورة طويلة ومتقطعة وقد أحدثت نهاية الإقطاع في أوروبا الغربية، ثم توقيع معاهدات وستفاليا عام1648 تحولاً في ميزان القوى مع البابوية والإمبرطورية المقدسة والمقاطعات ذات الجوهر الإقطاعي فجردت بالفعل المؤسسات الكنسية من السلطة الزمنية وأطلقت عملية ذبول الإمبراطوريات وسرعت سيرورة إضفاء طابع مؤسساتي ومركزي وبيروقراطي على السلطة. كما سمحت هذه السيرورة بإرساء سلطة سيطرة مؤسسة على القانون وبتجاوز أشكال السلطة "التقليدية" و"الكاريزمية" التي كانت شرعيتها تصدر منذ عهد قريب عن أساس ذي جوهر طبيعي أو إلهي. ويعد هذا الشكل من السيطرة الشرعية العقلية صفة للدولة الحديثة التي تحقق ماكس فيبر من هويتها. وإذا كان علم اجتماع فيبر الخاص بالدولة قد قام على ظاهرتي السيطرة والسلطة فإن هذه السلطة ينبغي أن تمددها أهمية تنظيم الإكراه وتمويله في تشكل الدولة الأوروبية.