تاريخيا، عرفت
تونس منذ الاستقلال منظومات حاكمة كان للشريك الاجتماعي فيها دور سلطوي مهم. وهو واقع تكرّس بعد الثورة، رغم أن المركزية النقابية -على خلاف النقابات الجهوية أو القطاعية- كانت حليفا لنظام المخلوع حتى يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011. فقد حاولت القيادة النقابية إنقاذ النظام -وهي جزء منه- بالدعوة إلى إضرابات جهوية بدل الدعوة إلى إضراب عام، رغم العدد المهول للقتلى والموقوفين، ورغم الممارسات القمعية للنظام في العديد من مناطق الجمهورية.
وليس يعنينا في هذا المقال أن نستعرض تاريخ العلاقة بين المركزية النقابية وأنظمة الحكم المتعاقبة قبل الثورة، بل إن ما يعنينا أساسا هو فهم الدور السياسي لاتحاد الشغل بعد الثورة، وخاصة دوره في التمهيد لـ"حالة الاستثناء" قبل الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي، ودوره في شرعنتها ومدها بأسباب البقاء والاستمرار، ودوره المتوقع في تحديد مآلاتها خلال الفترة القادمة.
منذ تأسيس ما يُسمّى بـ"الدولة الوطنية" أو "الدولة- الأمة"، لم ينكر
اتحاد الشغل –وهو أهم "الشركاء الاجتماعيين"- دوره السياسي. فقد استوجب دوره النقابي أن يدخل في علاقات متشعبة مع السلطة السياسية، وهي علاقات تميزت في أغلب مراحلها بالشراكة والتوافق، ولكنها تميزت في بعض الفترات بالتوتر والتصادم كما حصل سنة 1978. وفي عهد المخلوع، لم تكن المركزية النقابية مجرد شريك اجتماعي، بل كانت أيضا شريكا في شرعنة النظام و"رفع التحديات"، وجزءا من المشهد الديمقراطي الصوري "المناشد" للرئيس والمدافع عن خياراته اللا وطنية وعن الخرافات المؤسسة للنمط المجتمعي التونسي.
لم تكن المركزية النقابية مجرد شريك اجتماعي، بل كانت أيضا شريكا في شرعنة النظام و"رفع التحديات"، وجزءا من المشهد الديمقراطي الصوري "المناشد" للرئيس والمدافع عن خياراته اللا وطنية وعن الخرافات المؤسسة للنمط المجتمعي التونسي
فلم يكن المخلوع يحكم البلاد بالقوة الصلبة أو بآلة القمع الجسدي فقط (المؤسسة الأمنية)، بل كان يحكمها أيضا بآلتي القمع الأيديولوجي وهما الحزب الحاكم والنقابات. وقد لا نحتاج هنا إلى التذكير بعدد القيادات النقابية في "مجلس المستشارين"، أو التذكير بدور "الشعب المهنية" في خدمة نظام المخلوع وتجفيف منابع المعارضة، بل في مصادرة حرية التعبير الرافضة لسياسات الدولة ومشروع "الإصلاح الهيكلي"، وغيره من الممارسات المافيوزية للرئيس وعائلته وأصهاره والمتنفذين في نظامه.
بعد الثورة وحلّ الحزب الحاكم زمن المخلوع، عرفت المنظومة الحاكمة مرحلة اختلال مؤقت يهدد مصالحها وينذر بفقدان هيمنتها المادية والرمزية. ولكن المركزية النقابية استطاعت أن تملأ الفراغ الذي تركه حل "التجمع الدستوري الديمقراطي"، وتقدمت إلى واجهة المشهد السياسي باعتبارها "خيمة" القوى الديمقراطية وقاطرتها لمواجهة التهديدات التي يُمثلها انفتاح الفضاء العمومي على الإسلاميين، سواء أكانوا من الرافضين للعمل السياسي القانوني أو حتى للديمقراطية ذاتها (مثل السلفية الوهّابية بمختلف تياراتها العلمية والجهادية)، أم كانوا من الذين ارتضوا شروط اللعبة الديمقراطية وما تعنيه من الانتقال من وعي البديل إلى وعي الشريك (مثل حركة
النهضة).
ويكفي هنا أن نُذكر بدور "الشريك الاجتماعي" في إعادة هندسة المشهد السياسي، من خلال دعمه الصريح والفعال لمكونات "العائلة الديمقراطية" التي تشمل ورثة المنظومة القديمة وحلفاءهم في اليسار الثقافي وبعض التشكيلات القومية وغيرها، وكذلك من خلال دوره المعلوم في إسقاط أول تجربة للشراكة في الحكم بين الإسلاميين والعلمانية (تجربة الترويكا)، وتمهيده -عبر ما سُمّي بـ"الحوار الوطني"- لعودة المنظومة القديمة إلى الحكم بعد انتخابات 2014.
رغم إصرارها على التملص من مسؤوليتها الجزئية عما يُسميه بـ"العشرية السوداء"، ورغم نجاحها -إلى حد هذه اللحظة- في الخروج من دائرة المساءلة والمحاسبة بمختلف مستوياتها السياسية والأخلاقية والقانونية، فإن أي مراقب موضوعي للمشهد التونسي لا يستطيع مجاراة المركزية النقابية في هذا الخطاب "المؤمثل" للذات من جهة أولى، والحريص من جهة ثانية على شيطنة طرف سياسي معين -هو حركة النهضة- دون باقي شركائها في منظومة الحكم بعد الثورة.
رغم أن "المرشح الرئاسي" قيس سعيد لم يكن هو خيار المركزية النقابية (كان خيارها هو وزير الدفاع الأسبق عبد الكريم الزبيدي، مرشح أحد مراكز القوى في المنظومة القديمة)، فإن موقف تلك المركزية من السيد قيس سعيد تغير جذريا بعد أن أظهر أنه يشاركها -هي وباقي "القوى الديمقراطية"- الموقف ذاته من النهضة
ورغم أن "المرشح الرئاسي"
قيس سعيد لم يكن هو خيار المركزية النقابية (كان خيارها هو وزير الدفاع الأسبق عبد الكريم الزبيدي، مرشح أحد مراكز القوى في المنظومة القديمة)، فإن موقف تلك المركزية من السيد قيس سعيد تغير جذريا بعد أن أظهر أنه يشاركها -هي وباقي "القوى الديمقراطية"- الموقف ذاته من النهضة وائتلاف الكرامة، وكل من رضي بالعمل المشترك معهما بعيدا عن منطق الصراع الهوياتي ومفردات الصراع الوجودي، أي بعيدا عن استراتيجيات الاستئصال الصلب أو الناعم.
بعد أن احتلت حركة النهضة في الانتخابات التشريعية السابقة موقع الحزب الأغلبي -أي الحزب المكلف دستوريا بتشكيل الحكومة- وبعد أن نجح رئيس الحركة الأستاذ راشد الغنوشي في تولي رئاسة البرلمان، كان من الواضح أن المركزية النقابية ستعود إلى دورها السابق باعتبارها قاطرة المعارضة وحليفها الأهم. لقد وجد الاتحاد في الرئيس التونسي حليفا قويا لا يحكمه منطق التوافق الذي ارتضاه المرحوم الباجي قائد السبسي، ولذلك ساندت المركزية النقابية رئيس الجمهورية في حربه على البرلمان وعلى كل خصومه السياسيين، ودعمته في كل القضايا الخلافية المتصلة بتأويل الدستور أو تعديل القانون الانتخابي أو التنازع حول الصلاحيات مع رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان.
ولم يكن للرئيس التونسي أن يفكر في "تصحيح المسار" أو في الانقلاب على صريح الدستور لولا علاقة "التعامد الوظيفي" بينه وبين المركزية النقابية. وحتى لو جارينا الرئيس -من باب الجدل- في أنه المسؤول الأوحد عن إجراءات 25 تموز/ يوليو، فإننا نستبعد أن يكون قد اتخذ قراره دون أن يكون موقنا بموافقة المركزية النقابية عليه، أو على الأقل دون وجود ضمانات بأنها لن تُمثل معارضة جدية له.
لقد جاءت إجراءات 25 تموز/ يوليو لتحقق ما عجزت عنه صناديق الاقتراع، كما جاءت لتؤكد فشل الانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي. ونحن هنا لا نعني بفشل الانتقال الديمقراطي هشاشة المنجز المؤسساتي وقابليته للهدم أو التلاعب السلطوي، كما وقع لأغلب الهيئات التشريعية والقضائية والإعلامية والمدنية منذ "تصحيح المسار"، ولكننا نعني فشل "الآباء المؤسسين" للجمهورية الثانية في بناء حقل سياسي طبيعي يمنع "تغوّل" الاتحاد ويحول دون تحوّله إلى أكبر قوة سياسية في تونس، مع ما يعنيه ذلك من تحكم في هندسة الواقع التونسي بصورة لا تخدم إلا ورثة المنظومة القديمة وحلفاءهم الإقليميين والدوليين.
ورغم بيانات الاتحاد التي حاولت إظهار نوع من المسافة النقدية من الرئيس، ورغم كل المقترحات والخرائط التي دعت إلى تسقيف زمني لحالة الاستثناء وإلى الحوار الوطني، فإن الاتحاد كان وما زال واقعيا أكبر حليف للرئيس. ولم تكن مواقف الاتحاد يوما "طريقا ثالثا" يتمايز عما قبل 25 تموز/ يوليو وما قبله، بل كانت تلك المواقف مجرد طريق ثان في الخيار الانقلابي، أي خيارا يرفض العودة إلى ما قبل الخامس والعشرين من تموز/ يوليو، ولكنه يرفض أيضا أن يُقصى من إدارة حالة الاستثناء وتحديد مخرجاتها.
المستقبل السياسي للرئيس ومشروعه سيكون مشروطا بموقف الاتحاد من إملاءات الجهات المانحة، ولكننا قد لا نبالغ أيضا إذا ما قلنا بأن مستقبل الاتحاد ذاته سيكون مرتبطا بطبيعة علاقته برئيس الجمهورية خلال المرحلة القادمة
إن الخطر الأعظم الذي يواجه المركزية النقابية ليس عودة
الدكتاتورية وحكم الفرد (فقد كانت النقابة تاريخيا "شريكا اجتماعيا" لأنظمة استبدادية تقوم على عبادة الفرد وحكم الحزب الواحد)، وليس الخطر أيضا تحجيم الدور السياسي للاتحاد (فقد رضيت المركزية النقابية قبل الثورة وبعدها -خلال حكم ورثة التجمع- بأن تلعب دورا سياسيا هامشيا)، بل إن الخطر الأعظم هو فقدان المركزية النقابية لشرعيتها أو لعلة وجودها ذاتها إذا ما أصر الرئيس وحكومته على تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي وشروطه (رفع الدعم، بيع المنشآت العامة، تقليص المصاريف العمومية.. الخ).
فالمركزية النقابية قد ترضى بـ"جمهورية ثالثة" تعيدها إلى زمن المخلوع في مستوى تحجيم دورها السياسي، ولكنها لن ترضى بتلك الجمهورية إذا ما كان شرط قيامها ليس فقط إلغاء "الأجسام الوسيطة" في المستوى السياسي (أي الأحزاب)، بل إفقاد العمل النقابي شرعيته القائمة أساسا على الدفاع عن الفئات الأكثر هشاشة في المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
وقد لا نبالغ إذا ما قلنا بأن المستقبل السياسي للرئيس ومشروعه سيكون مشروطا بموقف الاتحاد من إملاءات الجهات المانحة، ولكننا قد لا نبالغ أيضا إذا ما قلنا بأن مستقبل الاتحاد ذاته سيكون مرتبطا بطبيعة علاقته برئيس الجمهورية خلال المرحلة القادمة.
twitter.com/adel_arabi21