قضايا وآراء

ميزان عبد الستار قاسم في ذكرى رحيله الأولى

رفقة شقور
1300x600
1300x600
يصادف اليوم الذكرى الأولى لرحيل أستاذي وصديقي عبد الستار القاسم، دورة كاملة للأرض وهي تحمله بشكل مختلف هذه المرة، عاش رجلاً ثقيلاً مثقلاً بمواقفه وآرائه ومبادئه وكل محاولات اغتياله وإلغائه.

ليس كل من تحمل الأرض من رجال مفكرين بمقدار ثقله الفكري والإنساني والمعرفي، فهو بذلك الثقل كان يحفظ توازن الأرض من حولنا، بنظرته للأمام كان يحفظ سماءنا من أن تنهار على أرض أحلامنا. روحه المتوقدة التي حملته ما زالت تلهمنا الكثير، فكما كان يحرض لدينا الأسئلة، ظل نهجه فينا غير متهاون في غيابه وعند كل مفترق طرق يحرضنا على أسئلة جديدة، فتلمع في السماء نجمة حملت اسمه كلما عثرت بهديه على السؤال الصحيح لجروحاتنا العامة الصحيحة جداً.

لم يكن من المفكرين والأساتذة الذين يمكن أن تمر بجانب عواصفهم الفكرية بدون أن تسحبك في تيارها وبدون أن تحاول الغرق في تفاصيلها؛ من أسئلة وجروحات إنسانية وأجوبة محتملة. الثابت في حضوره أنه ثابت على هز شجرة العقل والفكر والتفكر في كل مرة يحضر بها، وما زال ثابتاً على ذلك بعد رحيله.

لقد ترك لنا الكثير لنسير على هديه في رحلة المخاطر لاستعادة الأوطان بكل الطرق. لا أذكر أنني سلكت يوماً طريقاً يقربني أو يبعدني مؤقتاً عن الوطن إلا بهدي كلماته.. "نبتعد أحياناً لنكون أقوى"، عبارته التحريضية تلك تعني أن نكبر بكل الطرق كي نعود أقوى.. في حضوره وغيابه فرض معادلة القوة التي أرادها أن تسود، وهي معادلة قوة الرؤية وقوة البصيرة وقوة الثبات على المبدأ والإنسان كرافعة وحيدة لقوة استعادة الوطن المسلوب.

وبنى على معادلته تلك صرح أفكاره الذي شيده من خالص عذاباته العامة والخاصة؛ في وطن حاربه فيه أبناؤه الأكثر رفضاً لمعادلته الصارخة والواضحة كطلقة. لقد أوجعت كل من حاربه قوةُ حضوره وقوة منطق معادلته التي انتصر بها للوطن وللإنسان، لقد كان رجلاً باحثاً ومفكراً ثائراً يعرف ما يريد، ويتمسك بما يريد ويعمل من أجل ما يريد بلا توقف تحت هدي نور معادلته الأصيلة التي رافقه ميزانها في أحلك وأصعب الظروف، وبقي ينتصر لأطرافها صعوداً وهبوطاً.

تلقى الضربة تلو الضربة من أعداء الوطن والإنسان والمبدأ الثابت، إلا أن كل ذلك لم يفت في عضد عزيمته الصلبة؛ عزيمته التي حيرت الأصدقاء والأعداء. لقد سار مع البلاد جنباً إلى جنب كما لو كانت أمه، في حين كان كل من يسير خلف مركبه ويرفض معادلته يلقي عليه سهام الغدر وسهام الاغتيال..

مرة حضنته البلاد، لكنها في مرات كثيرة تركته على قارعة مؤامرات أبنائها عليه كاليتيم، تراه يخرج ويدخل قاعات محاكمها بدون توقف، تلك محاكم البلاد التي صارت تحكم بأمر المنسق الأمني مع الاحتلال حين تريد عد أبنائها، وفي كل مرة كانت تلفظه وتخرجه من عداد الأبناء الأخيار الفلسطينيين الجدد كما أرادهم الاحتلال مجردين من معادلة المبدأ الثابت.

عام على رحيله وما زال له في عنق كل من مر في ساحته الفكرية متعلماً أو مهاجماً أو متفرجاً دين كبير، له في كل شارع وفي كل بيت من بيوت البلاد الصامدة فضل كبير، وخيرٌ فكري عميم، لقد ترك لأبناء البلاد ميراثاً من الفكر والمواقف التي لو سار أبناء البلاد على هديها لأنجتهم من انهيار أكبر.

لقد ترك لنا عبد الستار القاسم ذاكرة كبيرة من الحماس، والإصرار، وعدم التهاون مع من يريدون احتكار ساحات النضال في البلاد وتحويلها من ميادين المقاومة إلى طاولات المساومة. لقد كان موقفه من تهافت التهافت السلطوي من قبل سلطة أوسلو منارة تنير عتمة ليل فلسطين المحتلة الطويل.

علّم عبد الستار قاسم جيلاً بأكمله من طلبته ومن تأثر به أن يقولوا كلمة "لا" بوضوح وبدون "لكن"، وضوحه في زمن المواقف الرمادية خلق له من حاولوا اغتياله معنوياً وفكرياً بالتزامن مع محاولات اغتياله الخمس التي نجا منها واحدة تلو الأخرى. لقد انتصف للحق وللعدل وللإنسان حتى في أشد المواقف التي هددت أمنه الشخصي وأمن عائلته التي ذاقت معه ما تيسر من مرارات الوطن.

عزاؤنا الوحيد في غيابه أنه حاضر بقوة أكثر من قبل، ففناء جسده أطلق روحه في فضاءات البلاد بكل الأشكال، روحه التي حملتنا نحن من طلبنا علمه، فمنحنا فوق ما يعرف ميزاناً يرافقنا في كل مواقف العمر العامة والشخصية الأكثر صميمية، ذلك الميزان الذي ينتصف ويرجح الثبات على المبدأ والوطن والإنسان.
التعليقات (0)