قضايا وآراء

عبد الستار قاسم في ذكرى رحيله الثانية

رفقة شقور
في غياب الدكتور عبد الستار قاسم غاب عن عالمنا بصيرة ثاقبة
في غياب الدكتور عبد الستار قاسم غاب عن عالمنا بصيرة ثاقبة
في ذكرى رحيله الثانية نفتقده أكثر، لأن رحيله لا يشبه شيئاً سوى الانهيارات الصاخبة، التي يعقبها شقوق في بنى قامت على أساس صلب، رحيله يشبه أن ينسحب المعنى من مبنىً عتيق وشامخ، هل لأن الأساس الذي أسس له ليس صلباً بما يكفي ليحمل ذاته، في وسط من الشروخ والانهيارات؟ أم لأن من يعبثون بالبناء الذي شيده وأساساته الصلبة أكثر من شركاء الحفاظ عليه؟ وأكثر من شركاء التشييد؟

 في كل يوم ننظر من حولنا لنرى عبث السياسي والأكاديمي والاجتماعي والديني، يتسلل إلينا الشك، في كل يوم نرى من ينخرون البناء الذي شيده بعزم وسيجه بإصرار ملهىً لمخربين يحاولون العبث بكل أساس صلب، هل رحل عبد الستار  قاسم وخلف من بعده  أكاديميين وكتابا أضاعوا عهد البلاد فلم يبق في الساحات سوى من حولوا حقل الأكاديميا والفكر لساحة جشع السياسة والمتسلقين في سلم الاجتماع؟ 

عصبةٌ صغيرة هم من حملوا العهد من بعده، وجعلوا الأكاديميا حقل اشتباك مع فساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، عرفنا أسماءهم التي عرفتها أقبية الأجهزة الأمنية دون أن تستطيع إعادة تشكيلها أو إعادة طرحها كما تريد، هل كان  سيل الفساد عارماً من قبله؟ وهل وجوده جسداً وفكرة كان بمثابة السد الذي حمانا على الأقل من رؤية هذا السيل يتدفق في شعب البلاد؟ هل برحيله بلغ السيل مبلغاً لم نشهده من قبل؟  ومن يحمل في عمله جذوة الإصرار والفكرة حتى إذا استوى على أمر الفكر شيّد سفينة تستوي على جبل النار وتحاصر سيل الفساد؟

هل يحق لنا أن نفتقده كل هذا الفقد وبيننا أسود في عرينه الذي شهد على أيام كفاحه ونضاله الفكري في ساحات جامعاته؟ هل افتقادنا لصوته فينا افتقاد الفكر الذي لا يعوض، والذي يسند استحقاق الثورة والانتفاضة والغضب المقاوم؟ أم افتقاد الإصرار والعزم والرؤية التي لا تساوم ولا تقايض؟ في كل يوم نبتعد فيه عن صوته الذي كان وحده في ساحات دق الأجراس، في كل يوم نفتقد جرأته وشجاعته الواضحة كطلقة في بندقية ثائر من ثوار جبل النار حين خذله العالم.

مع صوته الأكاديمي والمفكر الحر، عرفنا مجد الفكر المشتبك، وفي ساحات الجامعات والفكر والدرس التي حولها لساحات اشتباك مع واقع الفلسطيني، تحت الفساد المزدوج فساد العالم المتواطئ مع الاحتلال، وفساد السلطة وأجهزة الأمن التي سارت يداً بيد مع وهم السلام الذي خلق منها حارسة لمشروع الاحتلال.

من ينقذ بعده حقل الأكاديميا والفكر الحر من عبث من اختطفوا لأنفسهم ألقاباً أكاديمية وفكرية فضفاضة جداً على أفكارهم الصغيرة ومواقفهم الجبانة التي تغازل السلطة، والتي تستطيع فقط أن تحتال على الرتب، وعلى القانون، وعلى الاستحقاق وتشيد لنفسها قصراً من وهمِ فكرٍ مدعى له مهمة إنقاذ شخصية جداً في حين استمراره في محيطه كارثة تغرق مراكب الاستحقاق، وتقطع الطرقات عمن لديهم مشروع فكري حر وشجاع وفيه جذوة إنقاذ وتفانٍ مع الهم العام؟

مع صوت الدكتور عبد الستار قاسم الأكاديمي والمفكر الحر، عرفنا مجد الفكر المشتبك، وفي ساحات الجامعات والفكر والدرس التي حولها لساحات اشتباك مع واقع الفلسطيني، تحت الفساد المزدوج فساد العالم المتواطئ مع الاحتلال، وفساد السلطة وأجهزة الأمن التي سارت يداً بيد مع وهم السلام الذي خلق منها حارسة لمشروع الاحتلال.
في زمنه وأمامه تلاميذ الدهشة الذين حصلوا على المعنى من النبع الذي أعطى هيبة واستحقاق رتب الفكر والعلم لمن استحق، وفي غيابه كأن آخر قلاع الفلسطيني استبيحت أمام جشع أطماع السياسة التي حولت أقلام وساحات علم وفكر إلى ساحات أتباع سلطان وسلطة، كل كلمة مكتوبة أو منطوقة فيها خاضعة لحسابات سلطان أجهزة الأمن والقمع، كيف يستعيد طلاب العلم دهشة المعاني من أفواه جبنت وحسبت وأرهقتها الحسابات؟

في غيابه وفي كل يوم نرى ونسمع ونذهل فهذا أكاديمي متملق للسلطة يطمح بمنصب وزاري، وهذا يطمح بقبول إداري يرفعه لترقية، وآخر يتاجر بما يعلم ويستغل سلطته الأكاديمية ليشبع ديكتاتوراً داخله أخفقت الظروف في إيصاله لمنصب سياسي فوجد نفسه في موقع المتحكم في مصائر الطلاب والطالبات، ينعم ويحرم عليهم وفقاً لألوان فصائلهم السياسية أو وفق جنسهم.

في غياب الشجاعة نفتقد صوته، مع علو أصوات تجار المواقف من أكاديميين وكتاب ومفكرين ومثقفين، نفتقده أكثر، مع بزوغ طبقة من الأكاديميين الفلسطينيين المنسلخين عن هموم شعبهم، الذين يفتقدون لوضوح الرؤية والمشروع، أولئك الذين لا يدعمون سوى دائرة علاقاتهم في الإدارة والنشر الأكاديمي الذي يمكنهم من ألقاب طازجة تنقلهم من وضع إداري إلى آخر، وتشبع ذواتهم المتعطشة لهيبة فكرية مفقودة لم يعلموا أنها لا تستمد من الألقاب الأكاديمية أو المناصب الإدارية، وإنما هي هيبة الفكر المشتبك حتى وإن جردته كل ساحات العلم من استحقاقاته في التسيّد والانتشار.

في غياب عبد الستار قاسم، غاب عن عالمنا بصيرة ثاقبة، ترى في الطلاب أبعد من كونهم مادة وأعدادا وشعبا وأبناء طبقات سياسية واقتصادية، في غيابه حلّت غربان بألقاب أكاديمية وثقافية تبتلع معنى الكفاح اليومي لأبناء عاملين وفلاحين وفقراء حملوا العلم ومؤسساته كل أشكال آمالهم النقية بخلاص فردي وجماعي من سطوة الفساد والاحتلال والظلم، ليجدوا أن حرّاس تلك المؤسسات مختطفون في أقبية الغياب وراء جشع السياسة والرتب التي نخرت فيها وراحت تقصي ما تستطيع من أصحاب الاستحقاق بطموحات فكرية وبدون سند أبوي سياسي أو اقتصادي.

*باحثة في العلوم السياسية
التعليقات (0)

خبر عاجل