كتاب عربي 21

وحدَها دولة الفساد باقيةٌ وتتمدّد

محمد هنيد
1300x600
1300x600

أولا ـ لا يختلف اثنان اليوم في أن المنطقة العربية ودولها فاسدة وأنّ الفساد هو الجامع المشترك الأبرز بين هذه المقاطعات وإنِ اختلفت نسبه وصوره من بلد إلى آخر. 

ثانيا ـ لا يكاد ينجو قطاع واحد من طاعون الفساد سواء في الاقتصاد أو السياسية أو الدين أو المجتمع على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة أي أنّ الورم السرطانيّ قد تمكّن من كامل الجسد وهو منتشر أفقيا وعموديا ومبثوث في كل مكان. 

ثالثا ـ الجميع في بلاد العرب من سياسيين ومفكرين ومسؤولين يتحدّثون عن الفساد ويرفعون عاليا لواء الحرب على الفساد.

الخلاصة هي أن البلاد العربية فاسدة وأن الفساد في كل مكان لكنّ الجميع يتحدث عن الفساد ويُدينه والكل يرفع شعار الحرب على الفساد والفساد باق ويتمدّد. أين الخلل إذن؟ كيف يكون الشيء في كلّ مكان والجميع يدّعي محاربته؟ هل من مصلحة السلطة العربية محاربة الفساد؟ ماذا تستفيد الدولة العربية من القضاء على الفساد؟ أليس الفساد في الحقيقة هو شرط وجود الدولة العربية نفسها؟ 

الفساد كيانٌ هلاميّ

لا أحد تقريبا يستطيع تعريف الفساد بحدّ جامع مانع فما هو الفساد؟ هل يجيب المُعجم؟ قطعا لا يستطيع ذلك. يكتفي المعجم بسرد بعض المرادفات مثل الجدب والقحط والخراب أو التلف والعطب والخلل. لقد تجاوزت مجالات الفساد وتطبيقاته كل امكانيات اللغة وكل حدود المعجم حتى صار عصيّا على التعريف مثل مصطلح الإرهاب وهو مؤشر لساني معجمي على تفشى الظاهرة وانتشارها بشكل تحوّلت معه إلى مكوّن مصاحبٍ لكل مجالات الاجتماع البشري.

يكون الفساد فرديا ويكون جماعيا يكون عموديا من السلطة إلى المجتمع ويكون أفقيا من المجتمع إلى المجتمع. هناك الفساد الأكبر فساد الدولة وفساد العصابات المرتبطة بها وهناك الفساد الأصغر وهو فساد الأفراد عبر سلوكات الغش والتحيل والسرقة والتزوير والانحراف والإجرام. يكون التعليم فاسدا والقانون فاسدا والتربية فاسدة والإعلام فاسدا وكل الحقول الرمزية كذلك. 

 

لم تُغادر جيوش المحتلين بلاد العرب منذ أواسط الخمسينات من القرن الماضي إلا بعد أن وضعت أسس دولة الفساد في بلادنا وعلى رأسها تقسيمات سايكس بيكو نفسها بما هي رأس رؤوس الفساد. تحوّلت محميات الاحتلال إلى دول ثمّ نصّب على رأس كل دولة أكثر الأنظمة فسادا بدء بالأنظمة القومية التي لم تخلّف إلى اليوم غير الخراب والدمار والانقلابات.

 


مجالات الفساد ومستوياته وأطواره ونتائجه وأسبابه أكثر من أن تُحصى في مقال أو حتى في كتاب لكنها تؤشر جميعها على خطورة هذه الظاهرة التي تفتك بالأمم والأفراد والجماعات فتكا. الفساد لم يعد ظاهرة خارجية بل صار مكوّنا ثقافيا وسلوكيا وهي أخطر أطواره وأشدّها فتكا لأن التطبيع مع الفساد باعتباره تحصيل حاصل وبأنه سلوك اجتماعي مقبول هو آخر أطوار الأمم والشعوب قبل الخروج من التاريخ.

الفساد في بلاد العرب

قد لا يختلف إثنان بما فيهم أشد الفاسدين فسادا في أنّ الدول العربية اليوم تتربع على عرش الفساد عالميا وهي مرتبة لا تنافسها عليها إلا بعض الدول الإفريقية المتخلفة.  الفساد في كل مكان بل هو الحاكم الحقيقي في كل قطاعات الحياة العربية ولا تكاد تفلت منه قطعة من قطع الوطن الكبير فليس الفساد في بلادنا جزءا من الكل كما هو الحال في بقية دول العالم بل هو الكل في الكل وإن لم يعترضك الفساد في قطاع ما فهذا استثناء لا يكسر القاعدة. 

لقائل أن يقول: لكنّ الفساد موجود في أعتى الديمقراطيات ولا تكاد تخلو منه دولة من الدول.. هذا صحيح لكنّه هناك مُطارد بسلطة القانون أما في بلاد العرب فإنه ينتشر بسلطة القانون نفسه. لا ينتشر الفساد ولا تتمدّد دولته وتقوى شوكته وسلطانه إلا إذا كان الحاكم ساهرا على نشره والتمكين له بل يمكن القول دون مبالغة أنّ السلطة السياسية العربية لم تأتِ ولم تُنصّب إلا لتمكّن للفساد الذي سيخلف الاحتلال العسكري المباشر. كيف ذلك؟

لم تُغادر جيوش المحتلين بلاد العرب منذ أواسط الخمسينيات من القرن الماضي إلا بعد أن وضعت أسس دولة الفساد في بلادنا وعلى رأسها تقسيمات سايكس بيكو نفسها بما هي رأس رؤوس الفساد. تحوّلت محميات الاحتلال إلى دول ثمّ نصّب على رأس كل دولة أكثر الأنظمة فسادا بدءا بالأنظمة القومية التي لم تخلّف إلى اليوم غير الخراب والدمار والانقلابات. 

عملت الدولة الوطنية على تكريس مبدأ الفساد في توزيع الثروات والسياسة الخارجية والمغامرات العسكرية حتى وصل الوباء إلى الثقافة والصحة والتعليم والعقيدة نفسها. إن بلوغ الفساد المستوى الرمزي للدولة بعد أن أطاح بالبنية التحتية المادية هو أخطر المؤشرات على بلوغ الأمة أخطر أطوارها التاريخية وأكثرها حرجا.
 
تتجلى هذه الخطورة في فساد أدوات محاربة الفساد. ليس دور الدين والتعليم والتربية وكل أشكال البينة الثقافية للمجتمع إلا بناء الإنسان السويّ بشكل يجعله الأقدر على الابتعاد عن الفساد وعلى مقاومته بما هو وباء المجتمعات والشعوب. وهو نفس الدور المنوط بالقضاء وكل المنظومات الرقابية في الدولة فإذا فسدت الأدوات وأصابها الفساد فإن عملية الإصلاح تصبح حينئذ شبه مستحيلة.
 
اليوم تكون الدول العربية قد بلغت هذا الطور الخطير في نماذج عديدة كمصر وتونس ولبنان والسودان واليمن والجزائر وأغلب الأقطار العربية بشكل جعل منها دولا عاجزة عن توفير أبسط مقومات الحياة المادية لمواطنيها. هذا الطور من الانحدار والتردّي هو تاريخيا آخر أطوار النظام الرسمي العربي وهو الطور الذي حاولت ثورات الربيع تداركه ومنعه.
 
لن تكون أمام المنطقة العربية من مخارج ممكنة بعد إجهاض الربيع العربي الذي جاء ثورة على الفساد وحربا عليه. فإمّا أن تتجدد الموجة الثورية لتصحح المسار وتقضي على الفساد فتمنع السقوط في الهاوية أو أن تقضي دولة الفساد على الأمة من الداخل فتنهار وتسقط في هوة لا خروج منها.


التعليقات (4)
الواثق بالله
السبت، 26-06-2021 10:24 ص
قبل وجود البشر على الأرض ، كان متوقعاً منهم الإفساد فيها وهذا واضح في قوله تعالى في الآية 30 من سورة البقرة ( وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ). سرعان ما حصل توقع الملائكة ، فقتل أحد ولدي آدم - عليه السلام – أخاه ، و قتل الإنسان للإنسان هو في قمة الفساد في الأرض و وردت هذه القصة مختصرة في الآيات 27 – 31 من سورة المائدة. بعد ذلك قال تعالى مباشرة في الآية 32 من نفس السورة (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ...) . هذا الإنسان ، الذي تحمل مسؤولية حمل الأمانة التي أبت السموات و الأرض و الجبال أن يحملنها و أشفقن منها ، وصفه رب العالمين بأن في صفاته الاختيارية الظلم – أي الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ و حَقِّ الْغَيْرِ – و الجهل – أي انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عِلْمُهُ - ) وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا( . بمقدور الإنسان أن يتخلص من الظلم و الجهل ، المفضيان إلى الفساد و الإفساد في الأرض ، بمنتهى السهولة حين يسمع و يعقل و يتعلم و يفهم و يكون أميناً مع نفسه و مع الآخرين . يوجد باستمرار في هذه الكرة الأرضية (أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض) لكنهم محلَ حرب شرسة من الظالمين المجرمين بوصف الله تعالى لهم (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) أي أن من يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر يعتبرونه تهديداً خطيراً لطريقة عيشهم المترفة القائمة على الباطل وعلى الحرام و على ارتكاب الموبقات . أنت حين تطلب إتباع الحق سيرفضه هؤلاء بشدَة لأنهم يبغونها عوجاً لكن مهلاً ففي سورة الأنعام أخطر آية ، 26 ، تنبئك بمصير من ينهى عن الحق و ينأى عنه ((وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون)).
محمد ماضي
الخميس، 24-06-2021 07:40 م
مقاومة ممانعة معاوقة أنت عميل السفارة أنا ضد المقاومة في غزة أنت تقاوم أحرار العالم. يا حضرة الكاتب المحترم، هذه الأمة هي فلذة كبد الإستبداد و الفساد متغلغل في شرايينها و قد وصل إلى مرحلة حرجة بحيث أضحى علاجه مستحيلا. لا ربيع و لا ثورة فهذه الأمة في مزبلة التاريخ.
تعريف المرض
الخميس، 24-06-2021 08:23 ص
مقارنة بسيطة بما يسمى ملوك و أمراء و عساكر في البلاد العربية علينا حدفها في من المعاجم نهائيا إنها لا تدل على شيء بتاتا و إستبدالها بكلمة لصوص و فقط لصوص.
الكاتب المقدام
الخميس، 24-06-2021 08:18 ص
*** أخالفك في قولك بأنه "بعد إجهاض الربيع العربي..فإمّا أن تتجدد الموجة الثورية، أو أن تقضي دولة الفساد على الأمة". من حيث اعتقادي بأن ثورات الربيع العربي لم تجهض، كما أنها لم تتقادم بحيث تحتاج أن تتجدد، بل هي ممتدة زمنياُ ومكانياُ بأحداث متزامنة ومتتالية ومتصلة، ويقصر بعض المناصرين للثورات العربية نظرتهم داخل دولتهم، فيعجزون عن فهم حقيقة الثورات وتوقع مآلاتها، وهم بذلك أقصر نظراُ من الحكومات المستبدة المتكاتفة التي أدركت ارتباط الشعوب العربية وثوراتها ببعضها البعض، فعندما اشتعلت الثورة في تونس، تأكدت السلطة القمعية في مصر بأن الثورة ستمتد لها لا محالة، وبدأوا في الاستعداد لمواجهتها، رغم أن كل تصريحاتهم العلنية كانت تجزم بأن الأوضاع في مصر مختلفة ولا علاقة لها بما يحدث في تونس، كما ادرك آل سعود خدام الحرمين بوجوب دعم ومساندة بن علي العلماني المقصي للدين، على ما كان في الظاهر من اختلاف بينهما، كما أدرك بن زايد وآل سعود بأن نجاح الثورة المصرية في تأسيس حكومة وطنية شرعية منتخبة مستندة إلى دعم شعبها، من شأنه أن ينقل الثورة إلى بلديهما، كما عملوا على قمع الثورة في اليمن قبل امتدادها لهم، ورغم مرور ما يزيد عن عشر سنوات، فالنظرة الشاملة للثورات العربية في مختلف اقطارها، تؤكد استمراريتها وطول نفسها، رغم أن الهدوء المؤقت الذي يسود بعض أرجاء العالم العربي، قد يدفع البعض إلى الظن الخاطئ بخمود الثورة فيها، وفي الوقت ذاته فإن ترابط الحكومات المستبدة في دعم الثورات المضادة لا شك فيه، وهم مدعومون من قوى المحور الصهيوني الصليبي الجديد، وهو التحالف الذي ظهر إلى العلن في موجة التطبيع الأخيرة، التي هندسها اليهودي كوشنر زوج إيفانكا المتهودة بنت الصليبي ترامب، حيث تمخطرت المتهودة إيفانكا في أرجاء القصر الملكي تستعرض صفوف أمراء ومشايخ آل سعود المنحنين أمامها، والحكومات المستبدة هي فاسدة وفاشلة بالضرورة، فما كان استبدادها بشعبها، وجرائمها بقتل وتلفيق الاتهامات لمعارضيها إلا لفسادها لنهب ثروات شعوبها، ولأنهم مجموعة من الفاسدين فالشك في بعضهم البعض قائم، ويقومون بتصفية بعضهم البعض بأيديهم، فتنهار وتتفرق صفوفهم، وتكون نهايتهم الفشل، وفشلهم في إدارة شئون بلادهم وحل مشكلاتها يؤدي بالضرورة لانفجار الثورات الشعبية ضدهم، وتكون نهايتهم وشيكة، أما الحكومات الوطنية التي تأتي بإرادة شعوبها فتحتاج هي الأخرى لجهاد كبير وطويل لمقاومة شبكات الفساد المدعومة من الداخل والخارج، وهذا هو الجهاد الأكبر.