قضايا وآراء

إنها لحظة الفرز في تونس.. لكن على أي أساس؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
منذ تأسيس الحزب الحر الدستوري، لم تُخف زعيمته عبير موسي - القيادية السابقة في حزب التجمع المنحل بقرار قضائي بعد الثورة - عدم اعترافها بالثورة وبكل ما انبثق عنها من منجز سياسي. وبعد الأزمة التي عصفت بـ"حركة نداء تونس" - وانقسامه على ذاته إلى شقوق متصارعة بعد دخوله سياسة التوافق مع حركة النهضة - أصبحت "الفاشية" القاطرة الأساسية لميراث المخلوع بشريا وفكريا. ولمّا كانت القاعدة السياسية تقتضى ألاّ نُغيّر "خطابا ناجحا" أو استراتيجية فعّالة على الأقل حسب عمليات سبر الآراء، عمدت عبير موسي إلى "تصليب" مواقفها واعتماد مفردات "الصراع الوجودي" ومنطق التنافي ضد حركة النهضة ومجمل حركات الإسلام السياسي - كما هو دأب المخلوع من قبلها - جاعلةً من ذلك كله أساسا للفرز بين "القوى الديمقراطية" من جهة أولى، وبين القوى "الظلامية" أو "الرجعية" المهددة "للنمط المجتمعي التونسي" من جهة ثانية.

عبير موسي أو "الديمقراطية الأخيرة"

عندما تحدثت عبير موسي منذ أيام عن اقتراب "لحظة الفرز" - وهددت الإعلاميين وأهانت أحدهم مما أجبر نقابة الصحفيين على مقاطعتها - فإنها في الحقيقة لم تقم إلا بدفع منطق ما يُسمى بـ"القوى الديمقراطية" إلى نهاياته المنطقية. ذلك أنّ فلسفة الاصطفاف/ الانقسام السياسي التي استصحبتها "القوى الديمقراطية" من الزمن الاستبدادي؛ تجعل الخطاب "الفاشي" هو "النواة الصلبة" أو الصورة الصافية أو المثالية لمعنى "الديمقراطية" المراد تكريسها في بناء الجمهورية الثانية، وتجعل "الصراع الهوياتي" هو الصراع الأساسي - بل الأوحد تقريبا - حتى بعد الثورة، رغم شعاراتها واستحقاقاتها الاقتصادية والاجتماعية المعروفة. وهو ما يعني واقعيا أن احتلال عبير موسي وحزبها الفاشي لمركز الفعل السياسي في "العائلة الديمقراطية" هو أمر منطقي، خاصة مع تواتر الأزمات الدورية للمشهد السياسي في تونس منذ المرحلة التأسيسية، كما يعني كذلك "شرعية" المحاولات التي تقوم بها "الفاشية" لاحتكار الحديث باسم "العائلة الديمقراطية"، بحكم تعبيرها عن النواة الفكرية والاجتماعية الصلبة لتلك العائلة.
فلسفة الاصطفاف/ الانقسام السياسي التي استصحبتها "القوى الديمقراطية" من الزمن الاستبدادي؛ تجعل الخطاب "الفاشي" هو "النواة الصلبة" أو الصورة الصافية أو المثالية لمعنى "الديمقراطية" المراد تكريسها في بناء الجمهورية الثانية، وتجعل "الصراع الهوياتي" هو الصراع الأساسي حتى بعد الثورة

كيف احتلت "الفاشية" مركز الحقل السياسي؟

إن طرح قضية "الفاشية" بعيدا عن مقدماتها في المرحلة التأسيسية سيبقينا في مستوى سطحي من التحليل، وهو مستوى مفيد للتلاعب السياسي والأيديولوجي، ولكنه عقيم في مستوى فهم المشهد الحالي ومآلاته الممكنة. ففي الحقيقة، ليست عبير موسي وحزبها إلا واجهة سياسية من واجهات المنظومة القديمة ومراكز القوى فيها، تلك القوى التي "توافق" كل الفاعلين السياسيين - بمن فيهم الثوريون والإصلاحيون - على "التطبيع" معها واعتبارها مكوّنا من مكونات المشهد العام في تونس.

وبصرف النظر عن إسقاط قانون العزل السياسي للمنتسبين للتجمع المنحل، فإن قانون الأحزاب ذاته لم يُنقَّح بصورة تتوافق مع إدماج التجمعيين في الحقل السياسي "القانوني" دون أن يُشكّلوا خطرا وجوديا على الثورة التي استهدفتهم. فالقانون الذي يجرّم تأسيس الأحزاب على أساس الدين مثلا، لا يُجرّم تمجيد النظام السابق والتغني بجرائمه، ولا يُجرّم كذلك إنكار الثورة وترذيل شهدائها وجرحاها. ولا شك في أن هذه الفراغات التشريعية قد ساهمت في تنامي الخطابات المعادية للثورة ومنجزها الهش، وليست عبير موسي في التحليل الأخير إلا تجسيدا "قصوويا" لتلك الروح الانقلابية التي تخترق جميع الخطابات "الديمقراطية" بدرجات متفاوتة.

"الفاشية" أو ثمرة التوافقات المغشوشة والحسابات الضيقة

رغم أنه لا يمكن إنكار مسؤولية "القوى الديمقراطية" عن التطبيع الممنهج مع ورثة المنظومة القديمة عندما اعتبرتهم جزءا لا يتجزأ من "العائلة الديمقراطية"، فإن حصر المسؤولية في تلك القوى هو منطق يجانب الصواب. فحركة النهضة تتحمل جزءا من تلك المسؤولية منذ المرحلة التأسيسية التي غلبت عليها التوافقات "النفعية". ومهما كانت الأسباب أو الإكراهات التي بررت بها حركةُ النهضة إسقاط قانون العزل السياسي، فإن مواقفها اللاحقة قد أظهرت أن موقفها كان نتيجة خيار استراتيجي وليس مجرد انحناء للعاصفة التي ترافقت مع الاغتيال السياسي وتنامي الخطابات الاستئصالية. لقد اختارت حركة النهضة أن تتجاوز منطق البديل - وما يؤسسه من استعلاء إيماني - إلى منطق الشريك وما صاحبه من "استضعاف ديمقراطي"، ومِن قبول بدخول منظومة الحكم بشروط تلك المنظومة ودون أي تعديلات جوهرية على سياساتها الكبرى في اللحظتين الدستورية والتجمعية.

ولم يكن لفشل سياسة التوافق إلا أن يؤذن بعودة منطق الاستقطاب الأيديولوجي بقوة، وقد كانت عبير موسي وحزبها التعبير "الأصدق" عن استمرار الشروط الفكرية والموضوعية الحاضنة لذلك الاستقطاب، أي التعبير "الأصدق" عن الانسداد التاريخي الذى أوصلنا إليه "الفاعل الديمقراطي" من جهة أولى، و"الفاعل التوافقي" من جهة ثانية.
عبير موسي وحزبها التعبير "الأصدق" عن استمرار الشروط الفكرية والموضوعية الحاضنة لذلك الاستقطاب، أي التعبير "الأصدق" عن الانسداد التاريخي الذى أوصلنا إليه "الفاعل الديمقراطي" من جهة أولى، و"الفاعل التوافقي" من جهة ثانية

في ضرورة مراجعة أنظمة التسمية المزيّفة

إن النظر إلى عبير موسي باعتبارها "مرضا" يتهدد الانتقال الديمقراطي التونسي هو مغالطة كبيرة. فعبير وحزبها ليسا إلا "عرضا" من أعراض مرض العقل السياسي التونسي بكل سردياته الوطنية والقومية واليسارية والإسلامية "المُتَونَسة". فذلك العقل مصرٌّ على إدارة البلاد بمنطق "لا وظيفي" رغم محصوله البائس الذي لا يخفى على أحد. وهو ما يعني أن مواجهة مخاطر الفاشية "الصريحة" المتمثلة في عبير وحزبها ستكون مشروعا فاشلا ما لم نواجه الفاشية "الكامنة" في "الفاعل الديمقراطي" من جهة أولى، و"الانتهازية" التي تحكم "الفاعل التوافقي" من جهة ثانية.

ولا شك في أن هذه المهمة تستدعي أخذ مسافة نقدية من كل الفاعلين والتعامل الحذر مع أنظمة التسمية المهيمنة على المشهد العام في تونس. فلا "الديمقراطي" موفٍ بالشروط الديمقراطية الدنيا في مجالها التداولي الأصلي أو حتى في بعض البلدان الطرفية، ولا "التوافقي" موفٍ بشروط التوافق الوطني الذي يتحرك بعيدا عن هيمنة المنظومة القديمة وشروطها. وهو ما يعني - من باب المفارقة أو مكر التاريخ - أنّ الفاشية وحزبها ضروريان لتحقيق "الفرز" على قاعدة جديدة، أي على قاعدة تتجاوز "آفات" الوعيين الديمقراطي والتوافقي معا (آفات إدارة الصراع على أساس هوياتي ثقافوي بائس وتهميش الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لتحقيق شروط السيادة والتحرر في الجمهورية الثانية)، وهو الأمر الذي لا يمكن الحسم بوقوعه على الأقل في المدى المنظور، ولكنه سيتحقق لا محالة بحكم حركة التاريخ المتوجهة نحو التحرر وتحقيق شروط السيادة رغم أنوف الأعداء والأدعياء.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)