قضايا وآراء

تونس: أزمة التحوير الوزاري وصراع مؤسسات الحكم.. إلى أين؟

نور الدين العرباوي
1300x600
1300x600
عندما فاز اليمين الديغولي بالانتخابات التشريعية الفرنسية سنة 1986، اضطرّ الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، المنتخب مباشرة من الشعب والموجود في منصب الرئاسة آنذاك منذ 1981، إلى التعايش مع جاك شيراك، زعيم الأغلبية البرلمانية، وأدّى ذلك التعايش إلى تقلّص نفوذ الرئيس لصالح رئيس الحكومة إلى الحدّ الذي حوّل النظام السياسي الفرنسي إلى نظام برلماني.

شهد عمل السلطات العمومية الفرنسية صعوبات ولحقته أضرار خلال فترات التعايش التي عرفتها فرنسا، والتي تكرّرت أكثر من مرّة خلال المحطات الانتخابية وذلك إلى حدود سنة 2001، في تبادل للمواقع بين الاشتراكيين واليمين الديغولي.

في 2001، ومع توالي تجارب التعايش، توصّل الرئيس الديغولي شيراك ورئيس الحكومة الاشتراكي جوسبان إلى حلّ يقضي بتغيير النظام الانتخابي، حيث تمّ تقليص العهدة الرئاسية من سبع سنوات إلى خمس، ولم ينشغل الفرنسيون باتهام النظام السياسي في بلادهم ولم تقع الدعوة لتغييره أو تغيير الدستور.

بسبب مشكلات التعايش، وربما بفضلها، خلّف الرئيس ميتران إرثاً نبيلا في الممارسة الديمقراطية واحترام الدستور، حيث قال عن تعايشه مع جاك شيراك: "يتساءل كثير من مواطنينا: كيف ستشتغل السلطات العمومية؟ عن هذا السؤال لا أعرف إلاّ إجابة واحدة وهي الوحيدة الممكنة، والوحيدة المعقولة، والوحيدة المطابقة لمصالح الوطن: الإجابة هي: الدستور، ولا شيء غير الدستور، كلّ الدستور".
لم تعرف مراكز الحكم ومؤسسات جهازه التنفيذي صراعاً فيما بينها وتصدّعاً مثل الذي تعيشه تونس اليوم، وذلك رغم تذمّر الرئيس المنصف المرزوقي من الصلاحيات المحدودة التي أسندها له الدستور الصغير الذي قام عليه الحكم آنذاك

تحضرنا التجربة الفرنسية في إدارة التعايش ونحن نتابع تصاعد أزمة التحوير الوزاري الذي أقدم عليه رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي، والذي تبعه رفض الرئيس قيس سعيّد استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين، وهي أزمة تأتي في سياق مسار انتقال ديمقراطي تعيشه تونس منذ ثورة 2011. عرف هذا المسار هزات وأزمات كادت في بعض الأحيان تعصف به، ولكنّ خنادق الصراع السياسي ظلّت متمايزة وحافظت منظومة الحكم التي مثّلتها الترويكا سنتيْ 2012 و2013 على تماسكها. ولم تعرف مراكز الحكم ومؤسسات جهازه التنفيذي صراعاً فيما بينها وتصدّعاً مثل الذي تعيشه تونس اليوم، وذلك رغم تذمّر الرئيس المنصف المرزوقي من الصلاحيات المحدودة التي أسندها له الدستور الصغير الذي قام عليه الحكم آنذاك.

وبعد انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2014 التي أجريت ضمن أحكام دستور كانون الثاني/ يناير 2014، شهد التونسيون لحظاتٍ ومواقف عبّر فيها الرئيس الباجي قائد السبسي، رحمه الله، عن عدم رضاه عن الصلاحيات المحدودة التي يسندها له الدستور، وبلغت الأزمة ذروتها عندما تمسّك رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، بصلاحياته الدستورية في ما بدا كأنّه تمرّد المعيّن على المنتخَب.

في الأثناء، أطلق الرئيس الباجي الحوار الوطني "قرطاج 2" بهدف الإطاحة برئيس الحكومة، وعندما فشل في استبعاده ظلّ الرئيس يغمغم ضجرا من ضيق الدستور، ولكنّه ظلّ يحترمه، مسلّما بعُلويته ومُحجماً عن خرقه.

وعندما نستحضر التجربة الفرنسية في تفكيك ألغام التعايش ومنع التصادم بين السلطات التنفيذية، أو تجربة الرئيس الباجي قائد السبسي مع رئيس حكومته يوسف الشاهد، فإنّنا نذكّر بأنّ النظام السياسي التونسي الذي أنشأه دستور 2014 نظام شبه برلماني يعطي لرئيس الحكومة شرعيّةً واسعةً ليست أقلّ من شرعيّةً الرئيس، وذلك بتزكيته من الأغلبية البرلمانية، ويمكّنه من صلاحيات واسعة في إدارة شؤون الحكم ويخصّ رئيس الدولة بالشؤون الخارجية وشؤون الدفاع.
أخذت أزمة ما أصبح يعرف بـ"أزمة أداء اليمين" في البدء منحى الجدل القانوني المتعلّق بتأويل النصّ الدستوري، وذلك في غياب المحكمة الدستورية صاحبة الاختصاص، لكن الأغلبية الساحقة من خبراء القانون الدستوري انتصروا لموقف رئيس الحكومة

لقد أخذت أزمة ما أصبح يعرف بـ"أزمة أداء اليمين" في البدء منحى الجدل القانوني المتعلّق بتأويل النصّ الدستوري، وذلك في غياب المحكمة الدستورية صاحبة الاختصاص، لكن الأغلبية الساحقة من خبراء القانون الدستوري انتصروا لموقف رئيس الحكومة وانتقدوا تأويل رئيس الدولة للدستور وما اعتبروه تمدّدا للرئيس خارج صلاحياته.

توقّف الجدل الدستوري بعد كشف سعيّد عن حقيقة دوافعه في رفض أداء اليمين، فلم يعد الأمر متعلّقا ببعض الوزراء الذين يقول الرئيس أنهم متهمون بشبهات تضارب مصالح أو فساد، وإنما هو رفض للتحوير الوزاري أصلا واستهداف لرئيس الحكومة ودعوة لإسقاطه لأنّه "خائن للأمانة".

إنّ لأزمة أداء اليمين جذوراً بعيدة وأخرى قريبة، إذ الحقيقة أنّ نزوع الرئيس سعيّد للإطاحة برئيس الحكومة بدأ قبل تزكية المشيشي وحكومته في بداية أيلول/ سبتمبر 2020، عندما اكتشف سعيّد أنّ المشيشي، وهو "الشخصية الأقدر" التي اختارها بنفسه لتشكيل الحكومة طبقا لمقتضيات الدستور، أنّ لمرشّحه لرئاسة الحكومة توجّهاً للعمل مع الأحزاب السياسية ضمن الوضع الطبيعي لنظام سياسي شبه برلماني قائم على الأحزاب، وطبقا للصلاحيات التي يتيحها الدستور لرئيس الحكومة، في حين كان مشروع الرئيس سعيّد، ولا يزال، هو معاداة الأحزاب ونبذها وتهميشها.

كما تجد أزمة أداء اليمين جذورها القريبة في رغبة الرئيس في الانتقام من الأطراف السياسية التي تدعم حكومة المشيشي اليوم، وهي التي أسقطت ما سُمِّي حكومة الرئيس الأولى، حكومة إلياس الفخفاخ، الذي اختاره الرئيس أيضا باعتباره "الشخصية الأقدر"، ثمّ تبيّن أنّ له شبهة تضارب مصالح في ملف النفايات.

وبقدر خطورة أزمة أداء اليمين على سير دواليب الدولة وارتخاء مؤسساتها وتعطيل عملها، وتكريس مشهد صراع مراكز الحكم، فإنّ مآلات الأزمة، التي يعلم الجميع أنّ مفاتيح حلّها في جيب الرئيس سعيّد، تجعل الأوضاع أكثر تعقيداً والمزاج العامّ للشعب التونسي أكثر إحباطا، وتجعل التوقعات تسقط في حبائل الغموض.

في الأثناء، تواترت الدعوات التي أعلنها بعض السياسيّين لإقحام المؤسسة العسكرية في الشأن السياسي وإدارة البلاد كتلك التي أعلنها محمد عبو، الرئيس السابق لحزب التيار الديمقراطي، في طلب علنيّ وجَّهه للرئيس سعيّد، أو الموقف الأخير والأكثر وضوحا الذي دعا فيه نائب ووزير سابق إلى أن يتولّى الحكم في تونس سيسي آخر، وهي دعوات تزيّن للجيش التونسي التدخّل في الأزمة وتغريه بالمسك بالسلطة، وتؤكّد أنّ أصحابها (أي الدعوات)، على استعداد كامل لتقديم الديمقراطية والحريّة قرباناً بسبب عجزهم السياسي وفشلهم الانتخابي.
قد تتسبّب النزعات الشعبوية في فصول أخرى من الصراع السياسي الذي لا يحتاجه التونسيون، لكن المنْجاة تبقى دائما في استجابة الرئيس سعيّد لدعوات الحوار وتحكيم الدستور، ولا شيء غير الدستور

في هذه المناخات عاد مؤخرا جنرال متقاعد للحديث للإعلام، في مخالفة لتقاليد المؤسسة العسكرية التونسية المتحفّظة، عاد الجنرال متّهماً كُلاّ من رئيس الحكومة ورئيس البرلمان بالتسبّب في الأزمة وداعيا إياهما للاستقالة، ولكنّ الأخطر هو دعوته الرئيس سعيّد لتوظيف مجلس الأمن القومي في حلّ الأزمة القائمة بما يعني اعتماد الملفّات وتلفيق التّهم لحسم الخلافات مع الخصوم، وهي نصيحة من خارج التقاليد الديمقراطية، بل هي دعوة لاستدعاء أساليب الدكتاتورية في الحكم والسيطرة وإخضاع المخالفين.

قد يُهدر مزيد من الوقت قبل تجاوز أزمة أداء اليمين، خصوصا أمام تعثر المبادرات التي تطرح في الساحة لحلحلة الأوضاع، وقد تتسبّب النزعات الشعبوية في فصول أخرى من الصراع السياسي الذي لا يحتاجه التونسيون، لكن المنْجاة تبقى دائما في استجابة الرئيس سعيّد لدعوات الحوار وتحكيم الدستور، ولا شيء غير الدستور، كما قال ميتران وكما فعل الرئيس الباجي قائد السبسي.

والمؤكد أنّه مع ذلك كلّه، فإنّ تونس، وإن لم تدرك بعدُ وضع الاستقرار الديمقراطي الكامل، فإنّ مسافة العشر سنوات التي قطعتها منذ إسقاط حكم ابن علي سنة 2011، لم تعد تسمح بعودة الدكتاتورية حتّى وإن تعالت أصوات الذين يحملهم الحنين إليها.
التعليقات (0)