قضايا وآراء

"الكتلة التاريخية" أو الفرصة التاريخية المهدورة

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
رغم دفع الثورة التونسية بأصحاب السرديات الكبرى إلى مركز الحقل السياسي، ورغم ما فتحه التأسيس للجمهورية الثانية من ممكنات تاريخية تقطع مع الزمن الاستبدادي بلحظتيه الدستورية والتجمعية ومع الأساطير المؤسسة لمنظومتيهما السلطوية، كان من الواضح منذ أعمال المجلس التأسيسي - بتركيبته ومنطقه وما يُعبر عنه من توازنات سياسية - أنّ النخب "الثورية" و"الإصلاحية" تتجه نحو بناء تسويات مخاتلة مع المنظومة القديمة، وهي تسويات ستجعل من ورثة المنظومة القديمة حجر الزاوية في مسار الانتقال الديمقراطي إلى لحظتنا هذه.

التوافق التأسيسي وتلغيم الانتقال الديمقراطي

لقد اختار الفاعلون الكبار - بصرف النظر عن مدى حرية ذلك الاختيار بحكم حتمية استحضار الإملاءات الخارجية في بلد فاقد لأدنى مقومات السيادة - أن يعتمدوا منطق "التوافقات" الذي لم يكن يعكس وجود إجماع حقيقي على المشروع الوطني - مشروع بناء مقومات السيادة والتحرر من التخلف والتبعية الذي صاغته شعارات الثورة بصورة مكثفة - بقدر ما كان يعكس انقلابا على استحقاقات تلك الثورة واختزالا للممكنات التاريخية التي أوجدتها في عملية انتقال ديمقراطي مشبوه؛ هي في جوهرها إعادة توازن للمنظومة القديمة مع إدخال بعض التعديلات الشكلية عليها، دون المساس بنواتها الصلبة ولا بخياراتها الكبرى ولا بعلاقاتها اللا متكافئة مع الخارج منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.
النخب "الثورية" و"الإصلاحية" تتجه نحو بناء تسويات مخاتلة مع المنظومة القديمة، وهي تسويات ستجعل من ورثة المنظومة القديمة حجر الزاوية في مسار الانتقال الديمقراطي إلى لحظتنا هذه

كان "التوافق التأسيسي" الذي عكسه الدستور والقانون المنظم للسلطات والقانون الانتخابي يتحرك بفلسفة معاكسة لمشروع بناء الجمهورية الثانية، ولذلك لم يكن محصوله واقعيا إلا تحويل تلك الجمهورية المتخيلة إلى مجرد لحظة ثانية في الجمهورية الأولى، بل تحويل الثورة كلها إلى "غيمة" لا تمطر إلا في "بستان قريش"، وإن أمطرت عند المستضعفين ومثقلي الأحمال لن يذهب خراجها إلا لورثة المنظومة القديمة ومن هم على سمتهم من مُحدثي النعمة والراسخين في الخدمة من الطوابير الخامسة يمينا ويسارا.

لم يكن خطر "التوافق التأسيسي" منحصرا في كونه القوة التوليدية لباقي التوافقات - توافق العلمانيين داخل استعارة "العائلة الديمقراطية" والدفاع عن النمط المجتمعي التونسي، وتوافق النهضة والنداء تحت غطاء إكراهات الانتقال الديمقراطي أو تجنب مآلات باقي الثورات العربية - بل إن الخطر الأكبر لذلك "التوافق التأسيسي" كان في استبعاد "الكتلة التاريخية" بما هي التعبيرة السياسية الأمثل لإدارة الزمن للثورة، والتعامل مع استحقاقاته الاقتصادية والاجتماعية، بل التعامل قبل ذلك كله مع استحقاقاته الفكرية والقيمية.

التوافقات أو بدائل الكتلة التاريخية

لو أردنا مقاربة سائر التوافقات التي هيمنت على المجال العام في تونس بعد الثورة لقلنا إنها كانت "بدائل" مأزومة تشكلت لمنع ظهور الكتلة التاريخية. ولكن بقدر ابتعاد تلك البدائل عن فلسفة الكتلة التاريخية، فإنها كانت تؤكد من طرف خفي عدم انتفاء الحاجة إليها. وبصرف النظر عن الأسباب الفكرية والموضوعية التي حالت دون تشكل الكتلة التاريخية، فإن شكلي التوافق - التوافق بين أنصار اللاّئكية من مختلف الإيديولوجيات بقيادة حلفاء المنظومة القديمة ثم بقيادة ورثتها، والتوافق السياسي بين النهضة وورثة المنظومة القديمة بقيادة نداء تونس أو بعض شقوقه - كانا يتحركان بالضرورة داخل المنظومة القديمة وفي خدمة نواتها الصلبة.

إن النجاح الأبرز للمنظومة القديمة ليس في إعادة وكلائها التقليديين إلى مركز السلطة، بل في جرّ خصومها إلى مربّعها الثقافوي وإجبارهم على تعميق خصوماتهم الأيديولوجية واصطفافاتهم الهوياتية التي حرفت الصراع عن رهاناته الحقيقية القائمة. ولم يكن شكلا التوافق المشار إليهما أعلاه إلا تعبيرا عن قدرة تلك المنظومة على حماية مصالحها من موقعين متضادين ظاهريا، ولكنهما في الواقع لا يخرجان عن استراتيجيات إعادة التوازن للمنظومة القديمة بتوظيف أصحاب السرديات الكبرى والتلاعب بهم.
النجاح الأبرز للمنظومة القديمة ليس في إعادة وكلائها التقليديين إلى مركز السلطة، بل في جرّ خصومها إلى مربّعها الثقافوي وإجبارهم على تعميق خصوماتهم الأيديولوجية واصطفافاتهم الهوياتية التي حرفت الصراع عن رهاناته الحقيقية القائمة

لماذا كانت الكتلة التاريخية من اللا مفكر فيه؟

تأتي أهمية "الكتلة التاريخية" من كونها تعني إمكانية بناء تسويات تاريخية ضد المنظومة القديمة وما يحكمها من خيارات كبرى داخليا وخارجيا، تسوياتٍ تتجاوز جدليا منطق "التوافق" في شكليه التجمعي- اليساري (بدعوى حماية النمط المجتمعي) أو التجمعي- الإسلامي (بدعوى حماية مسار الانتقال الديمقراطي). ولكنّ هذه الكتلة كانت تحتاج إلى عقل سياسي تخلّص من الكراسات الأيديولوجية اللا وظفية ومن الهوس باستصحاب صراعات الماضي وضغائنه، كما كانت تحتاج إلى شركاء تحرروا من منطق "الصراع الوجودي" ومفردات النفي المتبادل واستراتيجيات المناولة لإدارة التخلف والتبعية وإعادة إنتاج شروطهما. ولم يكن الإسلاميون ولا القوميون ولا اليساريون - أي أصحاب السرديات الكبرى - قد بلغوا هذه الدرجة من الوعي المتناغم مع رهانات الواقع، ولذلك لم يكن من الغريب ألاّ تكون الكتلة التاريخية من المفكر فيه أصلا عندهم، كما لم يكن من الغريب أن تتضخم العداوة بينهم من جهة أولى، وأن يُطبعوا جميعا من جهة ثانية مع ورثة المنظومة القديمة في السر والعلن.

بحكم عدم انتماء الرئيس قيس سعيد لأية سردية كبرى عاجزة عن تكييف نفسها مع الزمن السياسي الجديد الذي أدخلته الثورة التونسية، وبحكم انحيازه الصريح لاستحقاقات الثورة وقدرته "نظريا" على كسر التسييجات الأيديولوجية القائمة على ثنائية إسلامي/ حداثي، كان الرئيس التونسي قادرا على أن يلعب دور أنطونيو غرامشي في الدعوة إلى "الكتلة التاريخية"، وكان يستطيع تحويل قاعدته الانتخابية المؤقتة والسياقية - وهي قاعدة تنتمي إلى مختلف الأيديولوجيات والجهات والفئات الاجتماعية - إلى نواة لهذا المشروع التاريخي. ولكن الرئيس اختار مشروعا سياسيا مختلفا جعله يفقد قدرته التجميعية، ويتحول واقعيا إلى رقم من أرقام الصراع على خدمة المنظومة القديمة أو وراثتها بصرف النظر عن نواياه أو مقاصده.

وما زال الأمل قائما..

واقعيا، لم تكن التوافقات التي عرفها الحقل السياسي التونسي إلا استراتيجيات لإعادة التوازن للمنظومة القديمة وشرعنة شروط التخلف والتبعية على مختلف الأصعدة. ورغم فشل تلك التوافقات في تحقيق أي إنجاز لفائدة المواطنين، ورغم أنها لا تُعرّف إلا بالسلب والضدية - فهي لحماية النمط المجتمعي المأزوم بنيويا، أو لحماية الانتقال الديمقراطي الفاشل واقعيا - فإنها ما زالت تُمثل المحرك الأساسي للفعل السياسي. وقد يكون علينا أن ننتظر استنفاد تلك التوافقات لكل طاقاتها التحشيدية/ التخريبية حتى ينتبه عامة المواطنين "المهدورين" - بمن فيهم بعض أنصار تلك التوافقات - إلى حتمية بناء الكتلة التاريخية التي ستحرر البلاد من فاعلين جماعيين لا وظيفة لهم إلا إدارة التخلف والتبعية وإعادة إنتاج شروطهما فكريا وواقعيا. عندها فقط قد تعود الثورة إلى مدارها المواطني الاجتماعي الحقيقي، ذلك المدار الضروري لبناء مقومات السيادة والخروج من هيمنة "الوكلاء" الذين لا يتصارعون إلا للمحافظة على موقع الوكيل وامتيازاته، بصرف النظر عن تلبيسات خطابه السياسي ومزايداته.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)