هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ظاهرة الإرهاب ظاهرة معقدة، تدخل فيها أبعاد مختلفة، ويتباين تفسيرها من قطر إلى آخر، وذلك بحسب السياقات، وتتداخل فيها أبعاد مختلفة، ولا يمكن بحال استبعاد أي بعد منها، بما في ذلك الأبعاد المرتبطة بسياسات الهيمنة، أو حتى الصناعة الاستخباراتية.
ثمة، للأسف، مقاربات استسهالية، أيديولوجية وسياسية، لا تسعى لفهم الظاهرة والتعرف على مفرداتها، بقدر ما تروم توظيفها في معركة الصراع السياسي، لهزم بعض الفاعلين السياسيين أو وضعهم في دائرة الاتهام، كما أن هناك مقاربات أخرى، تستلهم مفرداتها من مقولة الصراع الحضاري وأجندتها تحاول أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام، والثقافة التي أنتجها في المجال التداولي العربي الإسلامي، لخدمة ذات الهدف السياسي، أي وضع بعض الدول العربية تحت طائلة الضغط والابتزاز لإضعاف هامش استقلاليتها السياسية، وأيضا دفعها للارتهان والتبعية للغرب.
في المقابل، ثمة مقاربات أخرى، تحاول أن تقفز على حقائق سوسيولوجية صادمة، تقرر حقيقة ارتباط الإرهاب بالحالة الأوروبية، وعجز النموذج التربوي الأوروبي عن تقديم الحصانة الفكرية، للشباب من الوقوع في دائرة التجنيد الإرهابي، إذ تحاول هذه المقاربات، أن تلصق الإرهاب، بالعالم العربي والإسلامي، أو بجنسيات تنحدر في أصولها من منطقة الشرق الأوسط، أو في بعض الأحيان بأوروبيين، تأثروا بجزء من ثقافة الشرق الأوسط الدينية.
يحاول هذا المقال التحليلي، أن يقرأ الظاهرة في أبعادها المختلفة، مركزا على تعدد موجات الإرهاب، وخصائص كل موجة على حدة، كما يحاول إثبات فكرة أوروبية الإرهاب الأوروبي، وأنه نابع من البيئة الأوروبية بتناقضاتها واضطراب سياساتها وكذا انعكاساتها الاجتماعية.
في الموجات الأربع للإرهاب في أوروبا
ينبغي أن نميز عند رصد ودراسة ظاهرة الإرهاب في أوروبا بين أربع موجات إرهابية: الأولى تتمثل في الهجمات الإرهابية التي نسبت لمجندين من أصول عربية تشربوا أفكارهم الجهادية من الجماعات الجهادية في مصر وغيرها (إرهاب الجماعات الجهادية الإسلامية)، والثانية مثلها تنظيم القاعدة، الذي استقطب عددا من المجندين في أوروبا، والموجة الثالثة مثلها تنظيم "داعش"، الذي توجه هو الآخر لاستقطاب داخل أوروبا مع تغيير شبه كامل لمعايير التجنيد، إذ أصبح التدين أمرا ثانويا ضمن معايير الاستقطاب، وصار التركيز أكثر على أصحاب السوابق والذين لهم قابلية سلسة للانخراط في شبكات للتهريب.
أما الموجة الرابعة، والتي مثلتها هجمات باريس وبروكسيل وبرشلونة أيضا بحكم أن منفذ الهجمة ولد في إسبانيا حسب ما رشح من الجهات الأمنية الإسبانية، فقد أصبحت فيها الظاهرة الإرهابية حالة أوروبية خالصة، يتورط فيها مواطنون أوروبيون ولدوا في أوروبا ويحملون جنسيات أوروبية وتشربوا النموذج التربوي والتعليمي والثقافي الأوروبي داخل المدارس.
ثمة ملاحظة تتعلق بالموجة الثالثة والرابعة، فهي في الأصل تمثل موجة رابعة، هي موجهة الإرهاب الداعشي، لكن التمييز داخلها بين مرحلتين أساسي، لأن المرحلة الثانية، هي غير الأولى، من حيث الموارد البشرية والمجندون، ففي الثانية، أصبح الإرهاب أوروبيا، في حين تشكل المرحلة الأولى امتدادا لنفس آليات التجنيد الجهادي والقاعدي.
هذا التمييز مهم وضروري، لأنه في الموجات الثلاث السابقة، كان الإسلام وجزء من العالم العربي يوضع في منطقة السؤال والحرج، وكان المدخل دائما يركز على تحديث الإسلام وتجديده عبر الضغط على الدول العربية لإحداث تجديد في الحقل الديني يستهدف بالأساس تأميم وضبط كل القنوات التي تشكل القناعات الدينية للمواطنين، حتى تضمن تقليص منابع إنتاج الظاهرة الإرهابية المصدرة للخارج.
ما إن عادت أمريكا وأوروبا إلى المقاربة التقليدية، فيما يسمى خريف الديمقراطية، حتى أخذت الظاهرة الإرهابية أبعادا جد معقدة، إذ لم يعد التجنيد يتم على أساس الدين فقط، ولم تعد الظاهرة الإرهابية ترتكز على ترويج تأويل ديني متطرف لنصوص الجهاد وغيره، ولكن صارت الجريمة والسوابق العدلية المكون الأساسي للظاهرة الإرهابية
وقد رصدنا في الموجة الثالثة إضافة أبعاد أخرى للمقاربة عبر الرهان على طرح سؤال التأطير الديني في الخارج، وتكوين الأئمة والمرشدين على الشاكلة التي تمت في الدول التي كان ينظر إليها على أساس أنها مصدرة للإرهاب. لكن مع الموجة الرابعة، ظهرت إشكالية مستعصية، إذ لم يعد الإسلام ولا دول الأصل (شمال إفريقا مثلا) هي موضع التساؤل، بحكم أن المجندين هم مواطنون أوروبيون بجنسيات أوروبية وتلقوا تعليمهم في إطار النظام التربوي والتعليمي الأوروبي، مما يعني أن المشكلة هي في النظام التربوي الأوروبي الذي عجز عن تحصين هؤلاء، وليس الدول الأصل ولا الإسلام الذي كان يتهم في الموجات الإرهابية الثلاث السابقة.
الإرهاب في أوروبا: هل هي ظاهرة أوروبية خالصة أم هي امتداد إقليمي وثمرة تصدير الإرهابيين من دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا؟
من الصعب اليوم أن نجد الفواصل بين حدود الإرهاب، والأقرب إلى توصيفه أن نعتبر أنه ثمرة السياسات الدولية، ذلك أن عددا من القوى الدولية التي تتمتع بمواقع جد مهمة في قيادة العالم وتوجيه بوصلته، كانت لا ترى أي طريق لتحقيق مصالحها الاستراتيجية سوى دعم أنظمة الاستبداد في العالم العربي، وقد نتج عن ذلك تضييق مساحات الحرية والديمقراطية، وإقصاء عدد من النخب وتهميشها ورميها أحيانا خارج النسق السياسي، وكانت النتيجة الطبيعية لهذه السياسة هي تنامي الإرهاب والتطرف، وقد كان من الممكن أن تطوى هذه الصفحة مع الربيع العربي، ومع حصول تحولات عميقة في توجهات السياسة الدولية الأمريكية والأوروبية، وحصول الانعطاف نحو دعم الدمقرطة والإقرار بأدوار للحركات الإسلامية المعتدلة في مشهد السياسة في العالم العربي وبروز مقاربات أنتجتها الصناعة البحثية لمستودعات التفكير الأمريكية توصي باندماج الإسلاميين والارتكاز عليهم في إنجاز التحولات السياسية (كارنيجي، بروكنغز)، وقد رأينا ثمرات ذلك في اندماج جزء كبير من الجسم السلفي في النسق السياسي، ونتج عن ذلك حالة هدوء غير مسبوق على مستوى العمليات الإرهابية سجل ما بين سنة 2010 و2011.
لكن ما إن عادت أمريكا وأوروبا إلى المقاربة التقليدية، فيما يسمى خريف الديمقراطية، حتى أخذت الظاهرة الإرهابية أبعادا جد معقدة، إذ لم يعد التجنيد يتم على أساس الدين فقط، ولم تعد الظاهرة الإرهابية ترتكز على ترويج تأويل ديني متطرف لنصوص الجهاد وغيره، ولكن صارت الجريمة والسوابق العدلية المكون الأساسي للظاهرة الإرهابية، واختلط الإرهاب بالجريمة والمخدرات وتبييض الأموال، بل صار الإرهاب جزءا من التجارة الدولية كما هو الحال في تجارة المحروقات، تتورط فيه دول عظمى، تستعمل تنظيم "داعش" كواجهة لضمان تدفق النفط من العراق بثمن بخس، كما صار الاستقطاب يتم على أساس مغريات مالية ومناصب قيادية في تنظيم الدولة في كل من العراق وسوريا، وأصبح المجندون في الإرهاب تبعا لهذه التحولات من كل الجنسيات بما في ذلك أوروبا وروسيا.
ويكفي الاطلاع على قاعدة البيانات الخاصة بجغرافية الحالة الإرهابية لنعلم حجم توسع هذه الظاهرة في كل بلدان العالم. فمؤشر الإرهاب، يعطي صورة عن تطور مهم لعدد المجندين ذوي الجنسيات الغربية في تنظيم داعش، إذ تتصدر بعض البلدان الأوربية اللائحة.
مسؤولية سياسات أوروبا تجاه الجاليات المسلمة في إنتاج التطرف؟
إذا قمنا بتحليل سوسيولوجي يستثمر المعطيات الخاصة بالمتورطين في الهجمات الإرهابية، يمكن أن نستنتج أن السمة الغالبة عليهم هو التوتر الذي يأخد أربعة أبعاد: توتر بين التدين والجريمة، ويظهر هذا التوتر بشكل كبير عند منفذي هجمات مدريد (الانتماء للجماعة المغربية المقاتلة / المخدرات) وأيضا عند هجمات باريس، إذ تشير التحريات إلى أن صلاح عبد السلام الرأس المدبر لهجات باريس وبروكسيل كانت له سوابق إجرامية (بيع الأقراص المهلوسة في البار الذي كان يسيره)، كما كشفت التقارير الإعلامية عن منفذ هجوم نيس، أنه لم يكن متدينا، بل كان يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، وله سوابق في العنف الزوجي.
أما البعد الثاني في هذا التوتر، فهو التوتر الهوياتي (من أصول شمال إفريقية وجنسية أوروبية)، ويظهر ذلك من خلال جنسيات منفذي هجمات مدريد الأوروبية والشمال إفريقية (تونس والمغرب) وكذلك منفذي هجمات شارل إيبدو (فرنسيان من أصول جزائرية) ومنفذي هجمات بروكسيل (جنسية المنفذين بلجيكية من أصول مغربية).
أما البعد الثالث في هذا التوتر، فهو ثقافي (خريجو المدرسة والتعليم الأوروبي / أتباع داعش في سوريا)، فمعظم منفذي الهجمات التي تعرضت لها أوروبا من مواليد دول أوروبية، وتلقوا تعليمهم فيها بسياسات تربوية وثقافية أوروبية أي أنهم لم يعانوا كما عانى الجيل الأول من المهاجرين من إشكالية الهوية والاندماج الثقافي، لكن مع ذلك، سقطوا في فخ التجنيد الداعشي.
والبعد الرابع في هذا التوتر، اجتماعي، (الانتماء للطبقات الوسطى/ التمرد على البيئة الأوروبية) والمفارقة، أن الانتماء إلى الطبقة الوسطى يحصن من التهميش والشعور باليأس والإحباط ويساعد في بناء منسوب رضا على الوضع الاجتماعي والسياسي، غير أن حالة منفذي الهجمات التي تعرضت لها أوروبا كانت معاكسة تماما لهذه القاعدة، مما يعني وجود عوامل أخرى ساعدت على التمرد على البيئة الأوروبية وخلق الشعور بالرغبة في الانتقام منها بسبب الإقصاء الاجتماعي والتمييز في الفرص الاقتصادية على أساس عنصري، إذ كلما تنامت ظاهرة الإقصاء والتمييز على أساس عنصري داخل أوروبا، كلما أنتجت ردة فعل معاكسة تظهر في صورة الاحتماء بالهوية الضامرة، والتمرد على الهوية الظاهرة، إذ يبدأ اكتشاف الإسلام والعالم العربي، لكن بصورة تأويلية تبحث عن الانتقام، ومما يزكي هذه الصورة مشاهد الكراهية والعنصرية الدينية والإسلاموفوبيا هذا فضلا عن الوعي بلاعدالة السياسات الدولية تجاه القضايا العربية والإسلامية.