قضايا وآراء

"النهضة" التونسية.. بين سؤال الهوية وتحديات السياسة

الطيب الغيلوفي
1300x600
1300x600

نشر القيادي في حركة النهضة السيد لطفي زيتون نصا مهما حول الصراع الدائر داخل حزبه، سواء معركة التجديد للشيخ راشد الغنوشي في المؤتمر القادم أو ما رآه من قصور مفهوم الإسلام الديمقراطي وضرورة تعويضه بالتنصيص على الطابع المحافظ للحزب. 

لا أراني أختلف معه كثيرا في ما تعلق بتغيير طرق انتخاب رئيس الحزب ليشمل كافة منتسبيه وعدم اقتصاره على المؤتمرين كل أربع سنوات، إلا أنني أختلف معه على طول الخط وعرضه في التنصيص على الطابع المحافظ لحزب النهضة، هو رأي يشاركه فيه بعض كتاب النهضة ومنظريها وأصحاب ما يسمى "التأسيس الجديد" وربما حتى رئيسها. 

 

سؤال الهوية

يلحظ المراجع لكل تاريخ النهضة/ الاتجاه الإسلامي عشية مؤتمراتها أو عند الانعطافات الكبرى في تاريخها متلازمة سؤال الهوية وطبيعة الحركة وإعادة صياغة العلاقة مع الدين. كلما ظن هذا الملاحظ أن الحزب وصل إلى صياغة مثلى في علاقته بأساطيره المؤسسة إلا ويعاد طرح سؤال الهوية من جديد. 

من الجماعة الإسلامية إلى حزب الإتجاه الإسلامي إلى حزب النهضة إلى التبرؤ من الإسلام السياسي إلى الفصل بين الدعوي والسياسي إلى الديمقراطية الإسلامية إلى محطة الحزب المحافظ، تعددت الصياغات النظرية لهوية الحزب الدينية وتعرضت الواجهة الهووية للنهضة إلى عمليات ترميم وتجميل متواصلة، إلا أن طبيعة الحزب على الأرض بقيت ثابتة، في بنيته، في معنى الانتماء الجمعي لأعضائه، في العلاقات الأفقية والعمودية بين منتسبيه أو مع بقية أبناء الشعب، في قيادته كيف اكتسبت شرعيتها وسبل تصريف هذه الشرعية تنظيميا وسياسيا.  

الدين في حركة النهضة سبب للوجود والمرجعية الوحيدة الجامعة لحزب فاقد لليقين السياسي وتشقيه غرغرينا متواصلة من الصراع الداخلي تؤثر على أدائه وتهدد مستقبله. عوض تحرير الحزب من الأوصاف الهويية والاكتفاء بتأكيد الطبيعة السياسية للحزب وكفى، باعتبارها مجال اختصاصه. يعود الجدل الهووي في صفوف الحزب ليحجب تقييم الأداء السياسي وتحميل المسؤوليات، وتحديد البرامج التفصيلية لإصلاح السياسة والاقتصاد والاجتماع التونسي المأزوم. 

الهوية بالنسبة للمجتمعات صياغة تاريخية معقدة يغلب عليها الثبات وتتطور ذاتيا، ليست قرارا يمكن أن تغيره مجموعة من المؤتمرين أو صياغات نظرية لمجموعة من المفكرين أو توهمات زعيم مسكون بجنون العظمة. هي ليست معتقدا يمكن لمجمع رسولي أن يضيف إليه أو يحذف منه ولا اجتهادا فقهيا قابلا للمراجعة من أي مجمع فقهي ينعقد للغرض. 

الأحزاب الأيديولوجية عمرها من عمر أيديولوجيتها، وهي أحزاب فاشلة سياسيا وقصيرة العمر تاريخيا. أما الأحزاب الدينية فلا تعدو أن تكون واجهة سياسية لجماعات دينية تأخذ شكل الطائفة اجتماعيا. الحزب السياسي في النظام الديمقراطي، حزب حركة النهضة كمثال إن استقر على هذا التوصيف، ليس له من هوية خارج برنامجه السياسي، إن خالطه انتماء ما فوق سياسي، المحافظة الدينية مثلا، يسقط ضرورة في الطائفية، يصبح كيانا متميزا عن بقية الشعب سلوكا او لباسا أو لغة أو معتقدا ، يخاف من الذوبان في المجتمع مشغولا بتأكيد هويته المختلفة خائفا من استهدافها. حركة النهضة بين أمرين، إما أنها تعاني من أزمة هوية مستحكمة لا تجد توصيفا تستقر عليه أو أنها تهرب إلى الهوية التي تجمع الصف خوفا من السياسة التي تفرقه.

 

السياسة هي المدخل

 
التونسي لا ينتخب على الهوية، لا يعنيه كثيرا تديّن المرشح، إن كان يتردد على المساجد أو الحانات، إن كان محافظا أو ليبراليا. ما يحدد قراره الانتخابي هو الموقف والفعل السياسي للمترشح، تواصله المجتمعي وسلوكه المدني. انتخاب التونسي للنهضة في 2011 لم يكن بسبب تدينها، إطلاقا، بل بما رأى فيها من نظافة لليد وصدق في محاربة الدكتاتورية وما اعتقده أنها الأقدر على إصلاح تركة بن علي الكارثية. لما ضعفت وترددت وفشلت اختار نداء تونس في 2014، ظنا منه أن النداء الأقدر على إعادة استقرار مفقود وإصلاح اقتصاد منكوب، برغم ما كان يعرف من انتماء بعض قيادات النداء إلى اليسار أو صلاتهم بالنظام القديم. 

لم يجعل التونسي هويته الراسخة محل بيع وشراء انتخابي، سواء اختار النهضة أو اختار النداء، أو عند تفضيل قيس سعيد ونبيل القروي على عبد الفتاح مورو الشيخ المعمم. لكن النهضة تذهل عن كل ذلك وترتكس في كل مرة إلى سؤال الهوية هربا من استحقاق السياسة. وحدها السياسة هي مدخل الحزب لإصلاح نفسه وإعادة طرح مشروعه واسترجاع كتلته الناخبة القديمة . 

(الحزب المحافظ) في الفكر السياسي الغربي ليس تعريفا هوويا بل سياسيا، في الغرب الانجلوساكسوني يوصف الحزب بالمحافظ (يميني بالتصنيف الفرنسي) هو الحزب الذي يدافع عن اقتصاد السوق، أن يكون تدخل الدولة في الحدود الدنيا (minimum state) بحسب تنظيرات ميلتون فريدمان صاحب جائزة نوبل للاقتصاد ومستشار رونالد ريغن ومارغريت تاتشر، إلغاء أو مراجعة الإعانات الاجتماعية للعاطلين ومحدودي الدخل، التصدي للهجرة شرعية أو غير شرعية، دعم التحالف مع الولايات المتحدة وتمتين حلف الناتو في مواجهة روسيا والصين. هذه هي مفردات المشروع السياسي للأحزاب المحافظة في الغرب في مقابل الاحزاب العمالية أو اليسارية. 

 

بعد أكثر من عشر سنوات على سقوط بن علي وعودة النهضة إلى ساحة الفعل السياسي والحضور المجتمعي، ظهر بوضوح أن المواطن التونسي ليس أقل تدينا من الفرد النهضاوي بأية حال وعلى أي وجه، لم يعد يرى فيهم أهل دين وعبادة، صدم سريعا، ليسوا أقل منه حبا للدنيا ولا رغبة في السلطة والجاه .

 



إن كان الطابع الديني هو ما يشغل المطالبين بالتنصيص على "المحافظة"، فهذا ليس من اختصاص الحزب السياسي الذي يجمع في صفوفه المحافظ وشديد التدين والليبرالي وحتى الملحد في مشروع سياسي واحد. أما إذا كان التوصيف سياسيا فهذه ثالثة الأثافي. 

النهضة تحتاج إلى مشروع اقتصادي وسياسي أقل ليبرالية اقتصادية وأكثر يسارية اجتماعية، يعالج  انتشار الفقر والبطالة والجرائم والبراكاجات والزطلة والانقطاع المدرسي والباحثين عن قوتهم من أكداس القمامة. المحافظة بمفهوميها الديني أو السياسي وصفة ضررها أكثر من نفعها لمعالجة أمراض تونس المتفاقمة. عجزت الحركات الإسلامية عن صياغة مضمون سياسي اجتماعي يعالج الأزمات المستحكمة في بلدانها يتجاوز الطبيعة الدينية لمشروعها، غرقت في شرنقة عاجزة عن تجاوزها  أصولي / معتدل، إصلاحي / محافظ، سلفي / إخواني.

المجتمع التونسي لم يسائل هويته أبدا، لم يراجعها، يقوم بتعديل ذاتي اجتماعي غير سياسي، كلما رأى انحرافا عنها أو تهديدا لها، كذلك فعل في بداية السبعينات بعد الموجة البورقيبية الهوجاء في ستينيات القرن الماضي وكذلك فعل في العشرية الأولى من هذا القرن بعد محرقة ما يسمى تجفيف  ينابيع التدين. متى تفهم النهضة أن identity politics في كل تعريفاتها، عنوانا للرجعية السياسية، إذ تحول العمل السياسي إلى طائفية بغيضة (معنية بمصالح طائفة أو عرق أو دين أو جنس..). لازالت النهضة تتصرف على أنها طائفة من دون الشعب، مثلها مثل أغلب الحركات الإخوانية،  يجمع المنتسبين إليها السلوك الديني أو الموقف الثقافي، فتنتهي غريبة عن مجتمع تدعي أنها تدافع عنه. 

اليساري، الملحد، شارب الخمر، هؤلاء كلهم ليسوا خارج هوية الشعب التونسي، وليسوا خارج المحافظة الإسلامية، والبحث عن توصيف إضافي للفرد النهضاوي غير أنه تونسي ينتمي لحزب سياسي يستعمل أدوات السياسية لتحقيق أهداف سياسية ضمن قانون البلاد وفي إطار الاختيار الحر، مضيعة للوقت وللجهد. 

 

لزوم ما لا يلزم، مصادرة على المطلوب وهروب مفضوح من السياسة. قرار الفصل بين الدعوي والسياسي في المؤتمر العاشر، جاء بعد 35 سنة من تأكيد الحزب في 1981 أنه مدني ديمقراطي غير ناطق بإسم الإسلام. الاحتفال الكبير بقرار الفصل داخليا وخارجيا وروح الانتصار التي صاحبته وحضور المرحوم الباجي قايد السبسي المؤتمر، كل ذلك لم يساوي عند الشعب التونسي صوتا واحدا يضيفه لرصيد النهضة، بل تراجعت أصوات النهضة في الانتخابات الأخيرة عما كانت عليه قبل المؤتمر العاشر في انتخابات 2011 و2014، بل تصاعد الصراع الداخلي وأصبح على المباشر وتعددت الاستقالات..  

هل إلى خروج من سبيل؟

بعد أكثر من عشر سنوات على سقوط بن علي وعودة النهضة إلى ساحة الفعل السياسي والحضور المجتمعي، ظهر بوضوح أن المواطن التونسي ليس أقل تدينا من الفرد النهضاوي بأية حال وعلى أي وجه، لم يعد يرى فيهم أهل دين وعبادة، صدم سريعا، ليسوا أقل منه حبا للدنيا ولا رغبة في السلطة والجاه .

حقيقة الأمر، خارج الانطباعية الشعبية البسيطة والعفوية، قصور النهضة ليس أخلاقيا ولكنه سياسي. حركة النهضة لم تجرب من السياسة طيلة أربعين سنة من تأسيسها غير المواجهات الصفرية المفروضة مع الحكم القائم، لم تعرف الدولة ولا الإدارة ولا طرق اشتغالهما، لم تعرف من اقتصاد البلاد والأيادي المتحكمة فيه غير عموميات لا تغني عن المعرفة الدقيقة الاحصائية والإجرائية شيئا. حتى إذا نزلت قياداتها بالمضلات على الوزارات والإدارات بعد انتخابات 2012، سقطت سريعا أمام إغراءات السلطة بأسرع مما فعلت أمام سياط الجلادين وتاهت في دواليب الإدارة بأكثر مما فعلت في أقبية السجون . 

 

ليس للنهضة من هوية خارج برنامجها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، كانت ولازالت أحد أدوات المجتمع التونسي لمقاومة الدكتاتورية وتحقيق أهداف الثورة. مطلوب منها في مؤتمرها القادم جردة حساب نزيهة على آدائها في السلطة وتقدير مسؤوليتها في وضع البلاد الحالي وطرق معالجته،

 



تذرر المنتظم الحزبي التونسي وتوالت الانشقاقات في أغلب الأحزاب وبقيت النهضة عصية على التقسيم. لازالت النهضة رافعة العمل الحزبي التونسي والأمل في إصلاح لا يحتمل التأخير. المشروع السياسي للنهضة في حاجة إلى إعادة صياغة عقلانية تبحث في الإجراءات المبنية على دراسات علمية وإحصائية دقيقة، في كيفية القيام بإصلاح إداري عميق، في إطلاق ثورة زراعية ملحة وجهتها التصدير، مستفيدا من التجربة المغربية والتركية، في تحرير الاقتصاد من اللوبيات المتحكمة والفساد والعمولات…. 

ينتظر التونسيون من حزب لم يغادر السلطة وأروقتها طيلة عشرية كاملة أن يكون مؤهلا لصياغة خطة إنقاذ اقتصادي وإصلاح إداري واجتماعي حقيقي تتجاوز العموميات والإنشائيات، إذا سألت أي مثقف نهضاوي كيف مشروعكم لتحقيق النهوض الاقتصادي؟ يجيبك بعجب ظاهر أقتصاد السوق الاجتماعي.

الأحزاب السياسية في الغرب تظل شهورا تبحث عن أنسب تعديل لنسب الفائدة لا يتجاوز الكسور العشرية إذا أراد معالجة أزمة مالية أو تضخم متصاعد، تقدم خطط محاسبية ومالية وهيكلية تفصيلية لإنقاذ الشركات المشرفة على الإفلاس أو القطاعات الاقتصادية المأزومة. 

ليس للنهضة من هوية خارج برنامجها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، كانت ولازالت أحد أدوات المجتمع التونسي لمقاومة الدكتاتورية وتحقيق أهداف الثورة. مطلوب منها في مؤتمرها القادم جردة حساب نزيهة على آدائها في السلطة وتقدير مسؤوليتها في وضع البلاد الحالي وطرق معالجته، فيرى المواطن التونسي في مؤتمرها مشاكله التي يعيشها وأزمته التي يعانيها ونزاهة للسياسي يفتقدها، يبحث فيها ومعها عن طريق للخروج. أما التجديد للغنوشي من عدمه، محافظ أو مسلم ديمقراطي، هذا لا يعنيه في شيء وسيجد نفسه غريبا عن مؤتمرها غربتها هي عن واقعها، هنا الغريب ليس للغريب نسيب.

التعليقات (0)