كتاب عربي 21

المواطن المقتول: المواطنة من جديد (21)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600

في مقالاتي العشرين السابقة آثرنا أن نتناول بعض الإشكالات التمهيدية لمفهوم المواطنة الذي نتعاطى معه، واتضح مع متغيرات جديدة أن مفهوم المواطنة في ذاته يحتاج إلى تشكيل جديد يمكننا من التقاط إشارات تهدد مقام المواطنة للإنسان في هذا الزمن المعاصر؛ سواء تعلق الأمر بمنظومة دولية مشوشة ومشوهة، أو بأزمات استجدت تفرض علينا إعادة النظر وتجديد منهج النظر لمفهوم المواطنة، من مثل الثورات العربية، وصعود اليمين العنصري في الحضارة الغالبة الغربية، وأزمة فيروس كورونا (كوفيد 19)..

أحداث مفصلية توجب أن نعيد النظر والمراجعة لمفاهيم أساسية وسياسية ضمن مساحات السياسة، بل إنه وبحق يجب علينا أن نعيد تعريف السياسي ذاته. ومن هنا فإن هذه المقالات العشرين وإن طالت إنما ستعبر عن إطار مهم سنعتمده في التحليل لمشاهد مستجدة تتجلى ضمن حالة المواطنة التي نشهدها في عالم اليوم. وسنتوقف مليا عند لقطات مهمة نراها في مشاهد شبه يومية في الحالة المصرية التي شهدت منظومة انقلابية كشفت عن مفهوم مستبطن للمواطنة؛ على مقاس المستبد وآلاته الأمنية الباطشة وسياساته المستبدة الطاغية..

هذه اللقطات متابعة لمدخل اللقطات الذي اعتمدناه ضمن محاولتنا الأولى لدراسة نماذج في حال المواطنة المصرية في كتابنا السابق "الزحف غير المقدس.. تأميم الدولة للدين.. قراءة في دفاتر المواطنة المصرية".

كنا قد تعرضنا في الكتاب السابق إلى نماذج رأيناها تشكل ذروة النظم المستبدة على عصر المخلوع مبارك، ووصلنا إلى عتبات المواطن المعدم، والمواطن المنتحر، والمواطن المتاهة، والمواطن المجنون، والمواطن الخارج على النص السلطوي، وغير ذلك من مشاهد أثبتناها في حينه.

ولكننا لم نكن نتصور أن الحالة الاستبدادية والطغيانية ستصل في فجورها إلى أن تعتمد سياسة تقوم على قتل المواطن والاستخفاف بحياته؛ عندما تتخيل السلطة الغاشمة أن شخصا ما يتحدى تلك السلطة المستبدة، أو ربما يومئ فقط بالاحتجاج على مظاهر من الإذلال والقهر الذي يمارس باعتباره سياسة يومية؛ لا يستنكف نظام الطاغية أن يمارسها ليل نهار حتى لو أدت إلى إزهاق الأرواح وإراقة الدماء.

إننا أمام نموذج غاية في الخطورة ويعبر عن فجر هذا النظام، ألا وهو "المواطن المقتول"، ليدخل في فئة تتعلق بأنه على كل مواطن أن يعلم من خلال حالة "عويس الراوي" أو "الراوي عويس" التي ترصد سردية مهينة للمواطن المصري في ظل هذه المنظومة الانقلابية، والتي اتخذت من السياسات الأمنية الباطشة والسياسات الفاشية الظالمة أسلوبا وطريقة في التعامل.. "عليك أن تتقبل الذل وإلا فإننا سنقتلك".. "ليس لك أن تعبر عن معارضة أو تومئ بأنك غاضب أو تكشف عن غضبك".. كل ذلك ممنوع، المواطن في علاقة السيد بالعبد ليس إلا عالم أشياء تتخلص منه السلطة الطاغية وقتما تشاء.

المواطن المقتول يشير في هذه السردية حينما يقوم "الراوي عويس" بالحكاية عن نفسه في ناحية "العوامية" (قرية بالأقصر).. ضابط يتأهب لتنفيذ مهمته الترويعية، ذهب ليقبض على أحد أفراد أسرة مطمئنة آمنة، فإذا به يدفع الأب ويروع كامل سكان البيت، فإذا الأب ينطق بكلمة واحدة: "إنني رجل كبير مثل والدك".. إن هذه المقولة تطالب فقط من طرف خفي باحترام الكبير والشيخ العجوز حتى لو أردت أن تنفذ ما تراه أنت القانون. ولكن الضابط الذي يعتقد أن قيمته في سلاحه وأن السلاح قيمة مضافة إليه وإغراء له بالاستخدام؛ فإنه في هذه الحال واجه تلك الإشارة من الرجل الكبير بلطمة على وجهه.. الضابط المنتفخ بسلاحه لطم الأب الكبير فقط لأنه يذكره أنه في مقام سن والده، لم يعجبه القول. إن غطرسة القوة تملؤه، والمنظومة الانقلابية تدعمه، والمسار الأمني جعل من هؤلاء "الحاكم بأمر الله"؛ عفوا "الحاكم بأمر السلطان الشيطان"، صاحب السلطة الطاغية الذي أرشده من كل طريق بأنك لا تقيم لحياة أي إنسان وزنا، ولا لروحه مقاما، ولا لنفسه كرامة، إنه المقتول.

ماذا يمكن أن نتصور في هذا المشهد الذي يعيشه الأهل جميعا، والابن الذي يمكث معهم بأطفاله الصغار.. حينما يرى كل هؤلاء لطمة هذا الرجل الكبير الذي في حقيقة الأمر لم يطلب الكثير، طلب فقط من الضابط أن يكون إنسانا يعرف القيم الأساسية والبديهية في احترام الكبير والرحمة بالصغير، هذا إن صح أن الضابط في مقام الإنسان، فنزعاته الحيوانية وتغطرسه بالقوة وانتفاخه بالسلاح أدى به إلى أن يسحب سلاحه ويطلق رصاصاته على الابن؛ الذي لم يجد بدا من الثأر لكرامته وكرامة أبيه وكرامة عائلته عند الأب الكبير الذي يشكل مجمعا لتلك الكرامات.

إنه السلاح الذي يملكه ويعتبره مصدرا لطغيانه وغطرسة قوته.. أطلق رصاصات مسدسه على جسد "عويس" فأرداه قتيلا.. يقول الراوي إن الضابط استهان بكل شيء واستخف بكل روح، وأطلق رصاصاته غير مبال، وكان عويس المواطن المقتول.

قال الناس: لماذا قُتل عويس؟ ومن قتله؟ وهل كان على عويس أن يصمت أن يبتلع الذل ويقبل الإهانة وامتهان الكرامة؟ نعم قال هذا من يدعي الحكمة والنصاحة.. قالها هكذا واضحة زاعما الفصاحة وأنه كان عليه أن يتحمل. حينما تقوم الدولة بإهانة المواطن فهي تنتظر منه إذعانا وصمتا وقبولا للإذلال، ولسان الحال يقول: حتى لو زاد هذا الإذلال وتكرر مرة بعد مرة فعليك أن تقول: هل من مزيد؟ هكذا يقول أهل الحكمة الانبطاحية، وأهل الذل والمهانة حينما ينظّرون لتقبل المرارة حتى لو كان ذلك يمس عزتك وكرامتك.

إن السلطة الباطشة أرادت أن ترسل أكثر من رسالة.. إنك أيها المواطن لا قيمة لك، وإذلالك هو عملنا وشغلنا، وتعبيدك هو منهجنا ومسارنا. عليك ألا تتأوه من الألم، عليك أن تتمرس لقبول كل ظلم وجور، عليك أن توطن نفسك لكل خضوع وذل، لا تستطيع أن تقول لا، أو أن تنظر إلى نفسك ضمن مساواة إنسان بإنسان. إنك العبد وهو السيد، يتصرف فيك وفي حياتك، يقبض عليك ويعتقلك يتابعك ويطاردك، يخفيك قسريا ويقتلك إن أراد حتى من دون جريرة.

فقط عويس ثأر لكرامته وكرامة أهله، رد اللطمة بالصفعة، ورد المتغطرس برصاصات المسدس، قتله بدم بارد ولسان حال الضابط الطاغية أنه ليس هو إلا صورة فحسب من الطاغية الأكبر، يحاكيه، يقتل يستبيح الدماء، يستخف بالأرواح، يستدعي ما فعله من قبل خلال انقلابه على الوطن وقطع الطريق على المسار الديمقراطي.

من قتل عويس؟!، قتله الطاغية الأكبر (السيسي) حينما أكد لكل ضابط من زبانيته ومن جنوده أن اقتلوا ولن تُحاسبوا. وبتعبير مجازي قال إن الضابط أحمد حينما يصل فعله إلى قتل فإنه لن يحاسبه، ومن المؤكد لن يعاقبه، ومن أمن العقوبة ليس فقط أساء الأدب ولكنه أسرف في القتل.. هذه قوانين العصابة التي تحكمت بمصر وجعلت من المواطن مشروع مقتول.

نعم عليك أن تعرف أن الفئة الجديدة التي دخلت على قاموس المواطنة في مصر المحبوسة والمخنوقة "المواطن المقتول".. هكذا وصلنا إلى محطة خطيرة وربما تكون الأخيرة تتعلق بتصور هذه المنظومة الانقلابية حينما تؤكد له أنها تمتلك ضمن ما تمتلك، تمتلك حياته وهي التي تنهيها إن شاءت وتقتله إن أرادت، وتميته ما استطاعت. هذا الأمر الذي يتعلق بأجهزة أمن الطاغية إنما أُشيرَ إليه في الآية القرآنية: "إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين".

هذا أمر الطاغية وأمر المواطن المقتول.. نموذج مستجد في المواطنة من المؤسف أن نفتتح به ملف اللقطات للمواطنة من جديد.

 

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الأربعاء، 07-10-2020 07:30 م
... هل كانت الثورة في مصر بموجتيها في 2011، وفي 2013، ثورة محلية داخلية فقط؟ لقد أدرك المتابعون لها بأنها جزء من ثورات الربيع العربي، فالتحرك الشعبي المصري كان تالياُ ومتأثراُ بالثورة التونسية التي اطلقت الشرارة الأولى لها، ثم تبعهما الشعب السوري ضد المجرم بشار، ثم الليبيون ضد المجنون القذافي، ثم توالت في مختلف الأقطار العربية، كما أن قوى الثورة المضادة التي وقفت ضد الثورة المصرية، لم تقتصر على السيسي وداعميه في الداخل فقط، بل موله ودعمه آل زايد وآل سعود، والسيسي دكتاتور ترامب المفضل، مسخ تحركه وتقف وراءه قوى خارجية معروفة، ليس أقلها الصهيوني نتنياهو الذي اعتبره كنز إسرائيل الاستراتيجي، والمنقلب السيسي والباطني بشار لن يسقطا إلا مع كفيليهما بن زايد وبن سلمان وغيرهم من الحكام العرب الفاسدين المستبدين، فهم عصابة واحدة متعاونة، ولقد أدركت الجماهير العربية الواعية الثائرة في مختلف اقطارها حقيقة ذلك، فكانت هتافاتها واهدافها واحدة، فعندما بدأت الجزائر "لا إله إلا الله ... السيسي عدو الله" تبعتهم الجماهير في فلسطين وليبيا وسوريا وغيرهم، ثم عادت إلى مصر مرة أخرى، التحركات الثورية للجماهير في مختلف الأقطار العربية هي حلقات متصلة في سلسلة واحدة، ولن تصل إلى تحقيق اهدافها بإسقاط عروش حكامها الطغاة إلا بالنظر إلى ما وراء الرؤية الوطنية الضيقة، وبوحدتها ونضالها المشترك في مواجهة قوى الثورات المضادة والواقفين ورائها والداعمين لها، وإن غداً لناظره قريب.