كتاب عربي 21

ثورة ثانية في مصر لن تكون مفاجأة

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
لم تمر مصر بنظام سياسي مستبد وفاسد كما هو الحال مع نظام السيسي، ولم تمر بمستبد مغرور وهلامي كما هو الحال مع السيسي. حتى ملوك مصر المعاصرة لم يبلغوا ما بلغه من صلف وعنجهية وتكبر، بل حتى عبد الناصر في أوج شعبيته الطاغية التي مسحت المجال العربي من المحيط إلى الخليج؛ لم يكن ذلك ليخوله التصرف بهكذا تعالٍ.

المفاجأة ليست أن يبدأ شعب مصر في إعادة اكتشاف الشارع وتحدي طغمة السيسي التي تجثم على صدره، المفاجأة هو لماذا تأخر إلى الآن.

ربما أحد أهم مؤشرات هذا الغرور والصلف هي الطريقة التي استفز بها حد النخاع عائلات بسيطة وفقيرة، تحمّلت شظف العيش وتجاوزت عن سياسات النظام في تفقير الطبقات الشعبية الضعيفة، بل وحتى الطبقة الوسطى أو ما تبقى منها.

أهم مثال على الصلف سكان جزيرة الوراق في محافظة الجيزة، وهم ممن يواجهون قرارات التهجير والهدم العشوائية المتوالية للنظام، في سياق مشاريع ربحية لعائلات وشركات مقربة من السيسي.  تبلغ مساحة الجزيرة قرابة 5.7 كلم مربع، وعدد سكانها يقارب مئتي ألف نسمة، وتتبع محافظة الجيزة. و80 في المئة من أهلها يقطنون منازل لا تتعدى مساحتها سبعين مترا مربعا. يعمل سكان الجزيرة في الزراعة والصيد، وهو أحد المبررات التي يرونها سببا لاستحالة تخليهم عن أراضيهم التي تعد من أخصب الأراضي، خاصة أنها تطل على نهر النيل مباشرة، إلى جانب أنها مصدر رزقهم.

التصعيد حصل خاصة منذ 2018، عندما قرر مجلس الوزراء المصري نزع ملكية الأراضي وإخراجهم من إراضيهم في سياق "مخطط سكني" جديد، مع تعويضهم. في نهاية الأمر ملخص "المشروع الحكومي" هو اقتلاع نمط عيش يعود لعقود عديدة من أجل مشروع شركة إماراتية.

السيسي بعد فشل محاولة الانتزاع منذ سنوات قليلة، عاد في فترته الرئاسية الثانية ليصرح في أحد لقاءاته العام الماضي قائلا: "الجُزر اللي في وسط النيل دي المفروض ميبقاش فيها حد". تصريح من برجه العاجي الفرعوني بلا أي اعتبار لمشاعر الناس، كأنه يفسخ خريطة من على ورقة فوق مكتبه.

سكان "الوراق" كانوا من بين من تحدوا توحش النظام وعنجهيته وخرجوا إلى الشوارع، لأنهم لم يعد لديهم شيء يخسرونه ببساطة. 

لكن الملفت للانتباه أيضا المظاهرات الليلية في الأرياف، كأن الناس يؤدون طقسا ليليا بعد صلاة العشاء وقبل الخلود إلى النوم.. كأنها حفلة الشاي الدورية.. الأرياف حيث أكثر التقاليد محافظة، وحيث نسق الحياة الراكد، المتجانس مع نسق الأنظمة الراكدة، هذه الأرياف إن تحركت فإن الأمر بلا شك جلل. نحن بصدد قلق عميق في أعمق أعماق المجتمع وأفئدة الناس.

القلق أيضا في الخندق المقابل، فشاهدنا قنوات النظام تنتقل في بضعة أيام من التعتيم المطلق على المسيرات التي بدأت تخرج في القرى وبعض الأحياء المصرية في القاهرة وغيرها، إلى التهجم عليها. رأينا النظام يحكي كالعادة بمفردات التآمر و"التهويل"، ثم لينتقل هو إلى تقاليد نقل الناس بالباصات وتجنيد المؤجرين بسياراتهم للخروج إلى الشارع في مسيرات مضادة. وكل ذلك تحت مانشيتات تحصر كالعادة أي احتجاج في سياق "إخواني"، ولا يعلم النظام أنه باختزال المعارضة هناك، لن يستطيع من جهة كبحها بتخويف الناس من "أخونتها"، لكنه أيضا بصدد الدعاية المجانية لجماعة "الإخوان" وتضخيم دورها والمساهمة في إعادة طرحها كطرف أساسي في المعادلة.

السيسي مغرور بلا شك، لكن ذلك النوع من الغرور الذي يؤدي اليا إلى حالة غباء عميقة.

من جهة أخرى العالم يراقب، فالنظام تحت المنظار الدولي، الأممي تحديدا. وقد حثت مفوّضة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت، الجمعة، السلطات في مصر على "احترام الحق في حرية التعبير والتجمع"، من خلال الالتزام بالمعايير الدولية. وفي بيان نشره موقع مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على الإنترنت، قالت باشيليت: "أذكِّر الحكومة المصرية بأنه تحت مظلة القانون الدولي، للناس حق في التظاهر بشكل سلمي".

الآن ماذا يحدث داخل النظام؟ هل يتقاسم كله التصريحات المطمئنة للسيسي؟ لفت انتباهي بشكل خاص تأكيد زير الدفاع الفريق أول محمد زكي في لقاء مع طلبة وأعضاء هيئة التدريس في الكلية الفنية العسكرية يوم الخميس؛ أن "رجال القوات المسلحة لديهم وعي كامل بكافة المخاطر والتحديات التي يواجهها الوطن"، مشددا على ضرورة أن يتحلى أفراد القوات المسلحة بـ"الانضباط الذاتي". ما معنى ذلك؟ هل يعني أن الجيش ككل سيتحلى بـ"الانضباط الذاتي" وأنه غير معني بالدفاع عن السيسي؟ سنرى.

لكن إذا لاحظنا أي شيء في العقود الماضية والتجارب المتوالية، فهو أن جدار الصد القوي للمؤسسة العسكرية يتشقق كلما زاد الضغط الشعبي، من أجل استيعابه وإعادة البناء من جديد، مثلما ضحّى بمبارك لن يتوانى عن التضحية بالسيسي إن استوجبت الحاجة في ديمومة النظام ذلك.

twitter.com/t_kahlaoui
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الإثنين، 28-09-2020 01:15 م
... كاتب المقال اكاديمي تونسي، متخصص في تاريخ الفن، واستكمل درساته العليا في جامعات اجنبية، وساهم في التدريس فيها، كما أنه شارك في الحزب السياسي التونسي الذي أسسه المنصف المرزوقي، وله مشاركات ودراسات ومقالات في موضوعات سياسية متعددة أوسع من تخصصه الأكاديمي، وتلك المقدمة هدفها بيان كيف أن مقال الكاتب عن الشأن المصري الداخلي الذي يدل على سعة اطلاع وعمق تحليل وفهم لأوضاعها، قد لا يتوفر لكثير من المتخصصين المصريين الذين يعيشون ويعملون فيها، وقد يستغرب البعض ذلك، وقد يكون مرجعه أن النظرة البعيدة قد تكون أكثر شمولاُ، ولكنني لا اقول النظرة الخارجية، فكلنا نعيش داخل منطقة الشرق الأوسط برمتها، فيما نسميه بقلب العالم العربي الإسلامي، نؤثر فيه ونتأثر به، والمنصف المرزوقي قد وصل إلى درجات عالية في فهم هذا التداخل، وفيم يتعلق بثورات الربيع العربي، فقد درج بعض ذوي النظرة المحدودة القاصرة أو المغرضة على النظر إليها بمعزل عن بعضها البعض باعتبارها احتجاجات وحركات محلية لأسباب داخلية تخص كل دولة بمعزل عن الأخرى، ولكن رغم أن أوضاع كل دولة لها خصوصيتها، فإن الثورات العربية ضد أنظمة الحكم القمعية المستبدة العميلة وداعميها، لا يمكن فهم أحداثها وترشيد مساراتها إلا باعتبارها ثورة عربية واحدة، يصح تسميتها "بالثورة العربية الكبرى" الحقيقية، وهو الأسم الذي استخدم خطئاً في بدايات القرن العشرين لوصف الأحداث آنذاك، فالسيسي لن يسقط إلا بسقوط شركاءه وداعميه ترامب وبن زايد وبن سلمان بل ونتنياهو، ولن تعتدل الأوضاع السياسية في تونس إلا بالقضاء على الجنرال الانقلابي حفتر في ليبيا، وقل مثل ذلك عن الجزائر، فهي ثورة عربية كبرى واحدة، ضد أنظمة قمعية متحالفة ومدعومة من الحركة الصليبية الصهيونية العالمية الجديدة، وقد يظن البعض جهلاُ أو خداعاُ ان ذلك التوسع في النظر للثورات العربية سيؤدي إلى إفشالها، وتحميل الثورات فوق ما تحتمل، ولكن الواقع أننا في خضم صراع تاريخي وتغيرات عميقة ستؤثر في المنطقة لعقود قادمة، ولو افتقدنا العزيمة والإرادة للجهاد في سبيل الحفاظ على هويتنا ومستقبل أجيالنا، فلا خير فينا، وسيديننا التاريخ وأبناءنا على تقصيرنا في حقوقهم ومستقبلهم.