قضايا وآراء

الدولة العربية بين الشرعية والتمرد عليها

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

مما لا يختلف فيه اثنان اليوم، هو أن الأزمات الحادة التي تعصف بالعالم العربي تكمن في صراع بين الشرعيات والتمردات عليها. وبتفاصيل طفيفة، فإن تمرد المليشيات الممولة من خارج الأوطان موجه ضد الشرعيات حتى لو كانت هشة، وهي لحظة فاصلة نعيشها اليوم في العالم العربي تمثلت في القاهرة بتغيير محمد مرسي المنتخب بقيادة انقلابية فرضها الجيش وتحول قضاء مصر العريق إلى مهزلة وإعلامها الذي تعلمنا منه إلى (سرك بهتان)، وتمثلت في تونس في محاولة إنقاذ المسار الديمقراطي من التلاعب الخارجي بقوة الأموال، حتى يجهض أعوان الثورة المضادة طموحات الشعب التونسي ويعيد الانتهازيون الحكم للاستبداد ضد إرادة الشعب التونسي، وفي ليبيا التي تتعرض لمؤامرة دولية من الصهاينة العرب الجدد لتدمر طموحات شعبها، بإعادة تدوير الجهاز الاستبدادي من خلال عسكري متمرد مهووس بالحكم، وفي العراق وإيران توقد نيران الطائفية والكراهية التي يشعلها الأباطرة الغربيون الجدد، وفي اليمن لا تهدأ لعلعة السلاح والقصف لتقضي على ما تبقى من شعب اليمين السعيد.

وجدنا أنفسنا في كل بلاد العرب والمسلمين أمام ثلاثة سيناريوهات متشابهة يحاول اللاعبون الكبار بها أن يجهضوا طموحاتنا المشروعة للحريات وسيادتنا على ثرواتنا. وهذه المخاطر الثلاثة تترابط مثل حلقات سلسلة مخيفة تهدد النسيج الاجتماعي العربي، وتربك البناء السياسي الإسلامي وتمهد لخروج العرب وإسلامهم من التاريخ. 

 

أجندات استعمارية


والثلاث أجندات هي المغامرة والفوضى والفتنة، تولد جميعا من رحم المصالح الدنيئة الأجنبية المتضاربة، ومن رحم الانتماءات الأيديولوجية المتناقضة بين أبناء الوطن الواحد، فيحدث عادة أن تتغلب الحسابات الحزبية الضيقة على مصلحة الوطن العليا (كما في تونس ولبنان والعراق والجزائر والسودان وسوريا واليمن بأشكال مختلفة)، وأن تطغى المطامع الشخصية المحدودة على الطموحات العامة للمجموعة الوطنية فيقع الكسر الذي لا يجبر في مفاصل المجتمع إلى حين عودة الوعي للنخبة وعودة البصيرة للمواطنين حين يكون جبر الكسر ممكنا. ولكن التاريخ أثبت أن الزمن لا يصلح ما أفسده الناس بأيديهم، وأن مصائر الشعوب كالزجاج لا يلتئم بعد الكسر. 

هذا الذي جال بخاطري وأنا أسمع بعض أصوات سياسيين تنادي هذه الأيام باستنساخ التجربة المصرية في تونس وليبيا والسودان والجزائر، ونقل حركة (تمرد) من ميدان التحرير بالقاهرة إلى شارع بورقيبة بتونس وساحة العزيزية في ليبيا وشوارع الخرطوم، بعد أن تخلص منها الشعب السوداني (والدليل ما وقع من أحداث مؤسفة يوم الثلاثاء الماضي بين عناصر مسلحة من المخابرات متمردة وبين الدولة).

 

البلاد في أشد الحاجة اليوم إلى بوصلة تهدينا لأقوم المسالك وإلى زعامة قوية وعادلة تقود هذا المركب التائه في لجج اليم الطامي وإلى توافق


وهي ممارسات انتهازية لم تراع لا خصوصية الشعوب التائقة للحرية والكرامة والعدل، ولا مستقبل الربيع العربي ولا طبيعة المرحلة الهشة التي تمر بها شعوبنا اقتصاديا واجتماعيا، ومن ثم سياسيا. 

ثم إن فشل الانقلاب العسكري المصري لم يعد خافيا عن الرأي العام العربي والدولي، لأنه حراك مرتجل دبره أفراد يحصون على أصابع اليد، ولعله أخذ بخاطر أطراف أجنبية عن مصر وهو إلى حد الساعة لم يثمر استقرارا منشودا ولم يحقق عودة ملايين المصريين إلى بيوتهم وأعمالهم، ولم ينفذ وعود إنجاز شرعية جديدة بسبب تكاثر الشرعيات وتناقضها. ومن العبث استنساخ تجربة مصرية مريرة لم تؤكد بأنها الأنجع والأصلح، بل أجهضت ثورة 25 كانون ثاني (يناير) ودمرت مسارها وألغت تطبيق مستحقاتها وتحقيق غاياتها وخلقت هذا الانشطار (أي انقسام الشعب المصري إلى شطرين)، الذي لا تحمد عقباه وفتحت الأبواب في وجه المجهول. 

 

الوفاق المطلوب في تونس


إننا نعتقد في تونس أن أخطاء من حكموا بعد 14 كانون ثاني (يناير) 2011 في تحقيق وعود الثورة وغاياتها لا تبرر فتنة يوم واحد، فالوفاق المطلوب لم يتحقق إلى اليوم ولم يسع إليه الحاكم والمعارض على حد سواء، وظلت الحوارات هنا وهناك تسمع لها جعجعة إعلامية ودعائية ولا ترى لها طحنا كما يقول المثل العربي. واليوم تونس الثورة بلا حكومة لكن الدستور ضمن الحلول والأمر بيد الرئيس قيس سعيد يشكل حكومة تتوافق مع رؤيته في أن الشعب يريد والدولة تحقق له ما يريد. وحتى يدعو لمؤتمر حوار ووفاق، لا أن نخرج من حوار لحوار دون حوار؛ لأن تيارات غابت بسبب رفضها لتيارات أخرى أو لأن هذا الحزب يصر إصرارا ويلح إلحاحا على أن عقيدته هي الأفضل وفكره هو الأصلح، فما جدوى الحوار بين نخب تتشبث برأيها مع اعتبار رأي الطرف المقابل مجرد تهريج أو "تحركه أياد خفية، أما الفتنة فتبدأ من إلغاء الرأي المختلف والإفراط في الثقة في النفس التي تتحول إلى نرجسية مرضية، فيتمترس كل حزب بما لديهم فرحون ويقع إيصاد اللعبة السياسية بصم الأذان عن سماع أي صوت مخالف. 

ولا نفهم كيف يرضى بعض الفرقاء بفتح باب المغامرة في لحظات تاريخية مفصلية مهمة ودقيقة من واقع تونس، لأن معضلاتنا الاقتصادية ومشاكلنا الاجتماعية، ما لبثت تتفاقم على وقع تناقص الاستثمارات وتقلص السياحة وازدياد حجم الديون وارتفاع كلفة العيش ومراوحة حالة البطالة الشبابية مكانها، إذا لم تتصاعد درجاتها وتتسع مجالاتها (800 طبيب تونسي هاجروا سنة 2018 الى أوروبا للعمل !). فالبلاد في أشد الحاجة اليوم إلى بوصلة تهدينا لأقوم المسالك وإلى زعامة قوية وعادلة تقود هذا المركب التائه في لجج اليم الطامي وإلى توافق.. على أن أمن الوطن والمواطن إذا ما عرفت الدولة كيف توفره هو الضامن الأول لسلامة المسار الديمقراطي يليه الحوار الصادق والعميق الذي سيؤسس للوفاق. وما عدا هذا المسار السليم، فهو جر للبلاد والعباد نحو الفتنة وهي كما نعلم أشد من القتل.

التعليقات (1)
محمد قذيفه
الأحد، 19-01-2020 10:57 ص
غياب الثقافة السياسية عن الشعوب بغية توجيهها حيث شاءوا