الجزائر.. الشباب والطلبة وقود الحراك الشعبي

يُعتبر المجتمع الجزائري مجتمعا شبابيا من الدرجة الأولى، حيث تتجاوز نسبة الشباب فيه الـ 70 بالمائة من عدد السكان. وقد كشفت الشهور الثلاثة الماضية من عمر الحراك الشعبي، ضد منظومة حكم بوتفليقة وبقايا نظامه، أن هذا الشباب وعلى رأسه طلبة الجامعات بشكل خاص، كان هو قلب الحراك المحرك الأساسي بكل فعالياته، فمنذ اليوم الأول من هذا الحراك، في الـ 22 من شباط (الماضي)، كسر هذا الشباب بقوته وحماسه، حاجز الخوف الذي سيطر على الجزائريين لأكثر من عقدين من الزمن، وخرج الى شوارع العاصمة وباقي ولايات الجزائر الأخرى، متحديا قرارات منع التظاهر، وفرض بإصراره وسلميته التي أبهرت العالم، على النظام أن يرضخ بداية بخلع الرئيس بوتفليقة، وها هو اليوم لا يكل ولا يمل منذ 15 أسبوعا على التوالي، في إعلان رغبته في أن يكون المستقبل له في بلده، بعد أن سيطر عليه عجائز السياسة عقودا طويلة.

وعلى غير عادة الشباب الجزائري، الذي أدمن في العقدين الماضيين، الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت هربا من واقعه التعيس في بلاده، وأدمن الآفات الاجتماعية والمخدرات، وكان مضرب المثل في الانسحاب التام من العمل السياسي، بفعل اليأس الذي كرسه نظام التزوير الانتخابي، يظهر اليوم وقد فاجأ العالم، بحس عال وراق في فهم قواعد اللعبة السياسية في بلاده، وفي حمل مرجعيات فكرية وحضارية كان الجميع يتصورون أنها حكر على نخبة النخبة، ليلتحق بذلك بركب شباب الجزائر الحي الذي عرفته البلاد في الماضي، خاصة أبطال ثورة التحرير المجيدة الذين كان جلهم شباب لا تتعدى أعمارهم الثلاثين سنة، وبالتالي وكما حرر أسلافهم الجزائر من الاستعمار الفرنسي بالسلاح، ها هم اليوم يعلنون إصرارهم على تحرير البلاد من العصابة، ومن أذناب الاستعمار، ولكن هذه المرة، عبر معركتي الوعي والسلمية، في مواجهة منظومة التجهيل والهمجية. 

شباب جديد ومختلف 

لأول مرة في تاريخ الجزائر المعاصرة، تتوقف قوارب الهجرة غير الشرعية أو ما تسمى بـ (الحرقة) من الجزائر نحو أوروبا، بعد أن قرر شباب الجزائر أن يأخذوا مصيرهم بأيديهم، عبر البقاء في وطنهم وصناعة ثورتهم ضد من يعتقدون أنهم نهبوا البلاد ودفعوا بشبابها للهروب قهرا، وقد كان ذلك أولى ثمرات الحراك الشعبي، الذي قضى في أيامه الأولى على ظاهرة خطيرة، عجزت الدولة على محاربتها لسنوات طويلة.

ولم يقتصر الأمر على توقف قوافل الشباب عن الهجرة للخارج منذ 22 شباط (فبراير) الماضي، بل تعدى الأمر الى تراجع ملحوظ في نسبة الجريمة وتعاطي المخدرات، مع انخراط مذهل لهذا الشباب الذي كان مغيبا لعقود طويلة، في حملات التطوع والنظافة، والأهم من كل ذلك أنه ترك حالة الانغماس الجنوني في قضايا كرة القدم المحلية والعالمية، إلى درجة مقاطعته لمباريات مهمة تزامنت مع الحراك والمسيرات، لينخرط في النقاش السياسي الواسع، ويفرض منطقه في كل التجمعات والمظاهرات والجمعيات والحركات السياسية متخلصا بذلك عن طوق "الأبوية" الذي ظل تحتها ويفرض نفسه في معادلة صناعة مستقبل البلاد بشكل غير مسبوق.

الطلبة والحراك

منذ اليوم الأول لانتفاضة الشارع الجزائري، ظهر الدور المحوري لطلبة الجامعات الجزائرية بوضوح، فكانوا بحق هم وقود هذه الانتفاضة، الذي يمنع خفوتها أو تراجعها، ورغم محاولة سلطة بوتفليقة في البداية قبل ذهاب الرئيس، تحييد الجامعة، عبر تقديم موعد العطلة، في سابقة هي الأولى من نوعها، إلا أن طلبة الجامعات رفضوا ذلك واستمروا في تأطير الحراك والمشاركة الفعالة فيه، كما اختاروا يوم الثلاثاء من كل أسبوع، يوما خاصا بهم للخروج في مظاهرات عارمة، تسند مليونيات أيام الجمعة التي يخرج فيها الشعب عن بكرة أبيه، وقد شكلت مسيرات الطلبة عبر مختلف ولايات الجمهورية منعطفا حاسما في استمرارية الحراك وقوته.

ورغم الخلافات الأيديولوجية الكبيرة التي تميز العمل الطلابي، واندساس عناصر محرضة وأخرى أصحاب أجندات خاصة، إلا أن الطلبة حافظوا على سلمية حراكهم، رغم أن جزءا منهم انصاع وراء دعوات مشبوهة، تحركها أقليات أيديولوجية معروفة بعدائها للجزائر وأصالتها.

كما حاولت جهات كثيرة بعد الدعوات المستمرة للإضراب ومقاطعة الدراسة، أن تفرض على الطلبة "السنة البيضاء"، غير أن الطلبة أدركوا المكيدة، وقرروا الدخول إلى الامتحانات في نفس الوقت مع المشاركة في المسيرات، بل أن أصواتا أخرى ارتفعت للإضراب بشكل عبقري مختلف، يكون عبر الدراسة بشكل أفضل، وفتح منافذ مع جامعات العالم عبر اللايف، لأن العلم هو أكثر ما يخيف الطغاة.
كما أظهر الطلبة في شهر رمضان التزاما كبيرا بحراكهم، وظلوا يخرجون إلى الشارع تحت شعار"صائمون صامدون للحراك داعمون"، في مواكب لم يسبق في تاريخ الجزائر أن شهدت مثلها، قوة وعزما ووعيا بحتمية التغيير.

طلبة الجامعات.. تاريخ مشرف من النضال

ولا يعد نضال الطلبة الجزائريين جديدا، فهو يمتد بعمر الحركة الوطنية الجزائرية نفسها، ذلك أنه ومنذ أن اكتشف طلبة الجزائر في العقد الثاني من القرن العشرين، فعالية العمل التنظيمي داخل الجامعات والمعاهد، بدأوا ينظمون أنفسهم مبكرا في زمن الاستعمار الفرنسي، حيث تشكلت رابطة الطلبة الأهالي في العام 1926، قبل أن تتحول في العام الموالي، إلى جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا، كما كان لطلبة الجزائر في جامعة الزيتونة بتونس، دورا فعالا في إحياء هذا النضال الطلابي بعد ذلك، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد برز في تلك الفترة سياسيون محنكون في صفوف طلبة الجزائر، كان لهم دور هائل في الحركة الوطنية الجزائرية، من أمثال فرحات عباس، السعيد الزاهري، وشاعر الثورة الكبير مفدي زكريا، والشيخ البشير الابراهيمي (جمعية العلماء المسلمين)، ومحمد يزيد، عبد السلام بلعيد، وأحمد طالب الابراهيمي، قبل أن يتبلور ذلك النضال في إعلان الطلبة الجزائريين دعمهم الكامل ومساندتهم لجيش التحرير الوطني في كفاحه المسلح ضد الاستعمار في 11 شباط (فبراير) 1955، أي بعد حوالي ثلاثة أشهر فقط من اندلاع الثورة التحريرية، مع التحاق أعداد كبيرة من الطلبة بصفوف المجاهدين.

وأدى هذا الموقف البطولي لطلبة الجزائر إلى إقدام السلطات الاستعمارية على حملات اعتقال وتعذيب في صفوف الطلبة، الأمر الذي دفع بهم إلى إعلان الإضراب العام عن الدروس في 20 كانون الثاني (يناير) 1956، قبل أن يتم الاعلان عن الإضراب العام اللامحدود عن الدراسة في 19 أيار (مايو) 1956، والإلتحاق بأعداد أكبر بصفوف جيش التحرير.

ويذكر التاريخ عن بطولات أسماء خالدة لطلبة الجزائر في مواجهة الاستعمار الفرنسي، ومنهم الشهيد عمارة رشيد، الذي أقدمت سلطات الاحتلال على إحراق جثته بالبنزين بعد سقوطه شهيدا، وتنفيذ حكم الإعدام بالمقصلة في حق الطالب عبد الرحمن طالب (24 نيسان/أبريل 1958)، وذلك في سجن بارباروس الشهير، بعد تعذيب وحشي رهيب.

وقد استمر نضال الطلبة الجزائريين حتى بعد الاستقلال، حيث عارض الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين الانقلاب الذي قاده العقيد هواري بومدين ضد الرئيس بن بلة، الأمر الذي أدى إلى تجميد الاتحاد في العام 1967 ثم إلى حله في العام 1972، ليتم دمج الاتحاد ضمن الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية التابعة وقتها للحزب الواحد جبهة التحرير الوطني، إلا أن التعددية السياسية التي جاء بها دستور 1989، فتح المجال أمام التعددية الطلابية أيضا، غير أنه ومنذ انقلاب 1992، قام النظام الانقلابي بتدمير العمل الطلابي، عبر شراء الذمم لدى مختلف التنظيمات الطلابية، وازداد الوضع سوءا في زمن بوتفليقة، حين حاولت آلة النظام عبر ما يسمى ببرامج إصلاح التعليم العالي، تدجين الطلبة، عبر سياسة تخريج مئات الآلاف من الطلبة سنويا ولكن من دون مستوى حقيقي، عبر اعتماد سياسة الكم على حساب الكيف، بغرض تدجين الجامعة الجزائرية، وهو الأمر الذي اعتُقد أنه قد تم بالفعل، بعد أن انساق الطلبة وراء سلوكيات سطحية، قبل أن ينفجر بركان الـ 22 من شباط (فبراير) الماضي، ويظهر طلبة الجزائر من جديد على حقيقتهم الثورية والواعية، التي حيرت العالم، وجعلت منهم رأس حربة الحراك الجزائري برمته.

الشباب انتفض على الشرعية الثورية التي انتجت اللصوص

وتفسر الكاتبة الصحفية فتيحة بوروينة ثورة الشباب الجزائري بكونه سئم من العدمية التي ظلت تحيط به طيلة العشرين سنة الماضية ولهذا السبب قرر هؤلاء الشباب أن يأخذوا زمام أمرهم بأيديهم ويخرجوا إلى الشارع دون استئذان. فكان خيارهم بعدم ركوب زوارق الموت بعد اليوم والمضي نحو بناء حياة كريمة داخل الوطن لا خارجه.

وتؤكد بوروينة في حديث مع "عربي21" أن فئة الشباب الذي لم يكن يؤمن بالعمل السياسي من قبل، تشكل ما يزيد عن 80 بالمائة من الجزائريين الذين خرجوا في المسيرات والمظاهرات، بل هم من ينبض بلافتاتهم وهتافاتهم الشارع وبفضلهم تحافظ المسيرات المليونية على تنظيمها ووهجها وعمقها.
 
وأضافت أن الشباب اليوم ينخرط في حراك الكرامة والانعتاق لأن صبره نفذ وظنه خاب في أحزاب يعمر الشيوخ على قياداتها ولا تجد له الحلول المناسبة لعصره وأحلامه، إنه ينخرط بهذا الوعي بعدما رأى الشرعية الثورية التي ظل يحكم بموحبها النظام أفرزت لصوصا ومغامرين ومنظومة فساد كبيرة  أكلت ثروات الشعب ولم تشبع في وقت كانت العامة تمضي يومياتها في مقاومة التهاب الاسعار ورداءة الخدمات.

من جهته، يرى الناشط والإعلامي علي شمام، أن الشباب الجزائري لم ينخرط في الحراك فقط، بل هو من قاده منذ أول وهلة، وهو من حافظ على سلميته إلى غاية الجمعة الـ 15.

ولم تشهد أي مسيرة بما فيه تلك التي قادها الطلبة أيام الثلاثاء أي انزلاقات خطيرة، عدا بعض المناوشات التي انتهت دون مشاكل تذكر.

واوضح شمام في تصريحات لـ "عربي21"، أن الشباب، خاصة الجامعيين منهم، نجحوا في تأطير المسيرات، لكن كانت لديهم صعوبة كبيرة في فهم الرسائل السياسية، التي كانت تصدرها المؤسسة العسكرية، بسبب تدني الوعي السياسي لدى معظم الطلبة بسبب الآثار السلبية التي تركها النظام البائد، ومع ذلك فقد أثبت الشباب الجزائري عموما بما لا يدع مجالا للشك أنه عرف كيف يفرض نفسه، بسلمية أبهرت الجميع، وعرف كذلك كيف يتصدى لمحاولات الاختراق التي تبقى الخطر الوحيد على الحراك.

التناغم بين شباب الملاعب والجامعات أحدث الفارق

من جانبه أكد الصحافي عاطف قدادرة أن الشباب في الحراك الجزائري كان العنصر المكون الأول تعدادا و حضورا، كما أنه تصدر مسيرات 22 فيفري (أول مسيرة) بعدما دب الخوف في قلوب كثير من الجزائريين عندما سمعوا بنداءات تدعو للتظاهر، ويعود الفضل لفئة الشباب الذين شوهدوا في أول مسيرة، بكسر حظر التجمع والتظاهر في العاصمة المقيد بمرسوم تنفيذي منذ 2001، كما منحوا الفرصة لباقي الجزائريين للحاق بالحراك، بعدما تقيدوا بأسمى مظاهر السلمية.

وقال عاطف قدارة في معرض شرح رؤيته لـ "عربي21" أن دور الشباب في المسيرات، كان في مجال التعبئة، إذ اختلط شباب ملاعب كرة القدم بطلبة الجامعات، في دمجٍ راقٍ للشعارات التي طالبت بتغيير جذري للنظام القائم، معللا ذلك بأن هذا الشباب أولا لأنه معفى من تركة النظام القائم منذ عقدين، بمعنى أنه بريء من أية حسابات بالتواطؤ مع سلطة بوتفليقة، ثانيا كان الشباب وعاء التراكمات التي أفرزها حكم بوتفليقة الإقصائي، إذ تغيب هذه الفئة عن الحضور في السلطة الرسمية، كما أقصيت من المسارات المهيكلة في النقابات والجمعيات والأحزاب سواء الموالية والمعارضة، كما أن هذه الفئة لا تعترف بمخاوف العشرية السوداء التي يحملها البعض بنية الإساءة لنهايات الحراك الشعبي.

وشدد على أن انسحاب الشباب من العمل السياسي في الماضي، كان أمرا تلقائيا، في منظومة سياسية، حزبية، جمعوية ونقابية استمدت نفس ممارسات حكم بوتفليقة، إذ تحولت هذه الفضاءات إلى جهاز لتخريج الزبائنية والقيادات القابلة للتطويع وتقبل الرشى السياسية، ولأن فترة حكم بوتفليقة امتدت لعشرين سنة (أطول فترة رئاسية منذ الإستقلال) فقد مكنت هذه الممارسات لنفسها أن تطال باقي مؤسسات الدولة وأجهزة الإعلام وقطاع المال والأعمال.

جيل بلا عقد 

بهذا كذب الشباب الجزائري، كل الاتهامات السابقة، التي كانت تسفهه وتقول عنه أنه شباب "تسريحات الكيراتين" و"السراويل المتدلية"، وأثبت أنه بالفعل يشكل جيلا من أحفاد المجاهدين والمقاومين، وأنه مهما انتكست به الظروف، سرعان ما يعود إلى أصله الأول، عندما تتاح له فرصة التعبير عن ذاته.

لقد أثبت من ظلوا يسمون بـ "الجيل البوتفليقي" أنه "جيل نوفمبري" أو "جيل باديسي"، بعد أن كسر سلاسل متينة، وحطم عقدا ظلت تكبل جيلين كاملين، عن طلب الحرية والديمقراطية، وقرر التخلص من عقدتين كبيرتين، عقدة الشرعية الثورية التي ظلت تحكم الجزائر منذ الاستقلال، وتعتبر الخروج عنها خيانة، حتى وإن كان أصحابها من كبار اللصوص، وعقدة العشرية الحمراء، التي استعملتها الطغمة قصدا لترهيب الشعب، وتخويفه من خطر العودة إلى زمن المجازر الجماعية في تسعينيات القرن الماضي، وهو الانجاز الكبير الذي قلب المعادلة رأسا على عقب، وأعلن عن ميلاد جيل جديد تماما، لا يؤمن إلا بشرعية الصندوق واحترام خيارات الشعب، بما يؤسس لجزائر مختلفة، يمتلك فيها هذا الجيل مستقبله بيده، وينهي وصاية جيل الثورة، والحرس القديم.