هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أعادت الاضطرابات التي شهدها مجال التعليم في تونس في السنوات الأخيرة، وتصاعد مطالب النقابات التعليمية، سؤال الإصلاح التعليمي إلى الواجهة. وبدلا من أن تكون الثورة، التي يحتفل التونسيون بذكراها الثامنة هذه الأيام، مدخلا لحوار عميق من أجل إنجاز إصلاح حقيقي للتعليم، لا سيما القطاع العام منه على وجه الخصوص، فإن غلبة الشق المطلبي للعاملين في المجال التعليمي غطت على تحدي الإصلاح.
وأثار تصعيد نقابة التعليم الثانوي الأخير، وعدم عقد امتحانات الثلاثي الأول من السنة الجارية، مخاوف من إمكانية سنة تعليمية بيضاء، لا سيما مع تزامن إضراب مدرسي المرحلتين الإعدادية والثانوية، مع إعلان الاتحاد العام التونسي للشغل عن إضراب وطني لمدة يومين خلال شباط (فبراير) المقبل.
إقرأ أيضا: كيف يبدو النظام التعليمي في الشرق الأوسط؟
وخلف أسئلة اليومي من حاجيات العاملين والقائمين على التعليم يظل السؤال عن أي أجيال تخرجها المدارس العربية؟ ولماذا رغم كل الإنفاق على التعليم لا تتحسن أحوال العرب العلمية والتقنية وتزداد تبعيتهم كل يوم للخارج؟ وأين الخلل؟ هل الخلل في السياسة بما هي تخطيط وإدارة عامة للدولة ووضع الرجل في مكانه والشيء في موضعه؟ أم الخلل في المدرسة أيضا؟ وهل تخرج مدارسنا أجيالا أكثر علما وأصالة ووعيا أم تخرج أجيالا أكثر غربة عن مجتمعها؟
الاغتراب اللغوي
يبدأ الخلل في التعليم في العالم العربي منذ الطفولة المبكرة من اللغة المستخدمة في العملية التعليمية. فالعرب يزهدون في لغتهم ويتدافعون على تعلم اللغات الأجنبية، لعلها تكون سبيلهم للاندماج في العصر والنهل من منبعه.. لكن ذلك يزرع عقدة نقص تكبر مع المتعلم حتى توشك أن تنتهي به إلى الزهد في ثقافته ولغته رغم أنها ثقافة عريقة ولغته هي الرابعة في العالم من حيث عدد المتكلمين بها، فضلا عن قدرتها التعبيرية وغناها اللفظي والتركيبي، حتى عدها الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن اللغة الأقوى في العالم قبل الألمانية من حيث قدرتها على الاشتقاق والتوليد.
إن اللغة الأم هي سبيل الإبداع، ولا توجد في التاريخ القريب أو البعيد أمة نهضت بغير لغتها
أكبر المشاكل الناجمة عن تعليمنا أنه تعليم يجتث المتعلم من بيئته ويصنع له أوهاما ويزرع فيه الشك في مجتمعه
إقرأ أيضا: دولة عربية هي الأولى عالميا في معدلات الطلاق
تضع هذه التساؤلات البسيطة من هذا المدون تعليمنا ومدارسنا وجامعاتنا جميعا موضع سؤال كبير.. فإذا كنا بالتعليم نخرج أناسا فاشلين اجتماعيا فما فائدة التعليم إذن؟ ولعل ما غاب عن مدوننا أن التعليم والتعلم لا يكون في المدرسة وحدها.. الحياة هي المدرسة الحقيقية.. والأمي ليس جاهلا، بل فقط فاتته مهارة القراءة والكتابة وهي مهارة من مهارات كثيرة في الحياة.. فقد تجد شعراء أميين هم أرباب القوافي والمعاني والحكم.
كما إن أكبر المشاكل الناجمة عن تعليمنا أنه تعليم يجتث المتعلم من بيئته ويصنع له أوهاما ويزرع فيه الشك في مجتمعه ويغرس فيه التكبر على ناسه.. إنه تعليم يمكن المتعلم من بعض المهارات لكنه يفسد عمقه ويشوش فكره ويجتثه من بين أهله.. وبمناهج تعليمنا اليوم فإن المتعلم ينشأ في خصام غير واع مع مجتمعه.
وبما أن لكل مجتمع إنساني خبرة تاريخية وحكم متوارثة تتجلى أساسا في الأمثال الشعبية، والأمثال الشعبية كلام بليغ مختصر يحمل في طياته الحكمة والخبرة وخلاصة التجارب الاجتماعية، ومتعلمونا مقطوعون عن خبرة مجتمعاتهم متكبرون عليها أو على الأقل لا يعيشونها بالعمق المطلوب..
لكل هذا نفهم لماذا كانت الأسرة القديمة أكثر تماسكا من الأسرة الحديثة، لأنها أكثر تجذرا في دينها وهويتها وخبرتها الاجتماعية، بخلاف الأسرة الحديثة التي تقوم على عوامل ارتباط عابرة، وتبدأ حياتها بالديون حتى يظهر الزوج يوم زواجه غنيا مقتدرا حداثي التفكير واسع الإمكانيات.. وبعد أشهر من الزواج تبدأ الضغوط، التي توتر العائلة الصغيرة وتخلق الشقاق والصراع بين طرفيها وتنتهي آخر الأمر بالمحاكم والطلاق.
وللسياسة نصيب الاغتراب الأكبر
قد لا يكون التعليم وحده مسؤولا عن استفحال الطلاق ولا على مظاهر الفشل الأخرى في مجتمعاتنا، فضغوط الحياة الكثيرة تساهم في ذلك.. ولكن لابد من أن نسجل أن تعليمنا مأزوم وأنه أخفق في الارتقاء بأوضاع العرب، فهم يكادون يكونون عالة على غيرهم، يستوردون ما يأكلون وما يلبسون وما يركبون، ولا يصدرون إلا خامات المعادن التي وهبها لهم الله وهم اليوم يبذرونها يمينا وشمالا.. ولعل المدرسة مع مسؤوليتها البارزة إنما وضعها هي ذاتها هو ثمرة لسياسة التبعية والاحتلال غير المباشر.. فالعرب اليوم وخاصة حكامهم لا يفكرون إلا في كراسيهم، يحمونها بالولاء لأصحاب الجيوش والأساطيل.. ومن هنا يبدأ الاغتراب الأكبر والتيه الأعظم.
إقرأ أيضا: أزمة التعليم تتسع بتونس.. والأساتذة يهددون بالتصعيد (شاهد)