(1)
الوقائع تكبر على الكلمات، والخبل يحاصر العقل في زاوية ضيقة من العالم المختل، فلم يعد لدى العقلاء مقدرة على مجاراة طوفان العبث الفاضح في الدوائر الرسمية. والمؤسف أن الخلل ليس محدودا بمساحة الأنظمة العربية الرثة، لكنه خلل عالمي، نلاحظه في بيوت الحكم على اختلافها؛ من البيت الأبيض إلى "بيت برنارد ألبا"، حيث يختلط الخوف بالقمع بمزاعم الحرص على الضحايا المقموعين.
في وسط هذا العبث، يبدو ترامب زعيماً فجاً من العالم الثالث، على غرار موبوتو وعيدي أمين، ويتقمص
السيسي مكانة الحكماء، فيتحدث مصدقاً نفسه كمحافظ على النظام الدولي؛ يقدم النصائح لشباب العالم في مؤتمر هارب من الزمان والمكان، بحيث لا ينتمي إلى أي فكرة منطقية، بقدر ما ينتمي إلى الهلاوس السمعية والبصرية التي استولت على قلب الرئيس السيكوباتي، الذي وصلت به "الحالة" إلى صياغة "كوجيتو الدولة والبطاطس".. فاستقرار الدولة يتناسب عكسيا مع وجود البطاطس، وإذا حضرت البطاطس غابت الدولة، وإذا غابت البطاطس قويت الدولة وامتلكت زمام قوتها وانتصرت على مؤامرات الأعداء وغرائز المواطنين الذين تشغلهم عن الوطن ممارسات بدائية يجب التخلص منها، كالطعام والسلام والكلام.
(2)
كيف لنا وسط هذا العبث أن نحافظ على عقولنا، وعلى لغتنا، وعلى أي حديث عقلاني ينطلق من مشكلة بحثا عن حل، أو ينطلق من سؤال بحثاً عن إجابة، أو ينطلق من وعد أملا في الوفاء به؟
كيف يمكن لنا العثور على لغة مهذبة يمكنها وصف السيسي، وهو ينكر مصطلح "صفقة القرن"، ويتهم الإعلام بترويج شائعات لا أساس لها، بالرغم من أنه هو الذي أفصح عن ذلك بنفسه في تصريح شهير أمام رئيس أكبر دولة في العالم، تحت سمع وبصر وكالات وفضائيات الدنيا؟
(3)
هل يتذكر السيسي ما حدث وينكره بهذه الفجاجة متحديا عقل وذاكرة العالم؟ أم أنه لا يتذكر فعلا ما قاله، فاندفع يهاجم الإعلام مدفوعا بمشاعر الاضطهاد والوسواس القهري الذي يثير لديه الشكوك من مؤامرات أهل الشر، وفي مقدمتهم شياطين الإعلام، والشباب المنفلت الذي يخرب كيانات واستقرار الدول بكتاباته الجاهلة على مواقع التواصل الاجتماعي؟
الإجابة في الحالين تأخذني إلى مشكلة مع السيسي؛ لأنني سأعيد التنبيه إلى تصرفاته باعتبارها مظهرا من مظاهر الاختلال النفسي، وكنت قد كتبت عن ذلك منذ سنوات؛ مستندا إلى أطروحة دكتوراة في علم النفس تناولت "اللغة" باعتبارها مؤشرا على "المرض العقلي"؛ لأن استخدام اللغة يكشف عن سيكولوجية صاحبها ومدى غصابته بالاضطرابات النفسية والعقلية، وكذلك بالتوهمات، وحيل الإنكار، ومظاهر الاضهاد أو البارانويا، أو التعامل مع اللغة باعتبارها بديلا للواقع، بمعنى أن المتحدث ينحاز إلى ما يقوله بصرف النظر عن وجوده في الواقع، وبالتالي فهو لا يصدق إلى ما يقوله، وليس ما كان قبل ذلك، ولا ما هو موجود الآن.
(4)
في تقديري أن السيسي يشعر باتساقه وصدقه تماما في كل مرة يتحدث فيها، ويقسم على ذلك بكل ثقة مصدقاً نفسه، ومتوهماً أن الناس تصدقه، فهو (حسب التحليل المتاطف في هذا المقال) لا يتذكر فعلا ما قاله من قبل، وبالتالي لا يشعر بالتناقض بين مواقفه وكلامه بين لحظة واخرى، وأحيانا في الجلسة الواحدة وفي الجملة الواحدة ايضا، كما قال مثلا: "ده ما يرضيش ربنا.. وأي حاجة ما ترضيش ربنا احنا معاها".. وأمثلة كثيرة أخرى تجعلني أعيد النظر في "حالة السيسي" بعيدا عن الخلافات في التقدير السياسي، وأركز على النظر إليه بشكل إنساني، ومن هذه الرؤية يمكنني أن أعلن تعاطفي معه؛ لأنه "مريض عقلي" يستحق العلاج قبل النقد، وقد دعوت من قبل مؤسسة الرئاسة للحفاظ على الصحة النفسية والعقلية للرئيس، وإقناعه بالخضوع لفحص طبي للاطمئنان عليه كإنسان أولاً، ثم الاطمئنان على سلامة التفكير والقرارات التي يمكن أن تصدر عنه وتؤثر على دولة كبيرة بحجم
مصر. وكذلك على استقرار المنطقة كلها، وأظنها أهداف لا يختلف عليها السيسي حسب تصريحاته في مؤتمر الشباب الأخير، وفي أكثر من مناسبة سابقة.
(5)
لماذا لا نصدق بعضنا البعض؟ ولماذا نتسرع في اتهام الناس والحكم عليهم قبل اكتمال التحقيقات؟
أسئلة طرحها السيسي في المؤتمر للدفاع عن حليفه محمد بن سلمان في جريمة اغتيال وإخفاء الكاتب السعودي جمال خاشقجي، لكن السؤال: إذا كان السيسي يستنكر غياب الثقة، فلماذا لم يشغل نفسه بترميم الثقة التي حطمها بحنث وعوده مع شعبه؟ وكيف يتذكر حديث "نور عينينا" وحديث مصر اللي هتبقى "اد الدنيا"، وهو يكرر حديثه عن دولة الأشلاء، والشعب الفقير أوي؟ ولما تجاهل وعوده بضبط الأسعار، واتخذ المسار المتشدد في حديث الصبر والتخسيس الجماعي والتضحية بالغالي والبطاطس من أجل استقرار الدولة؟
وكيف أيضا يلقي بالمواطنين في السجون، ويكيل الاتهامات، ويقمع ويصفي الناس أفراداً وجماعات بلا تحقق ولا تحقيق؟
كيف يقول كلاما باعتباره الحكمة التي يريد أن يقنع بها الناس، بينما هو يفعل عكسها؟
(6)
إجابة هذه الأسئلة حسب دراسات علم النفس المختصة باللغة ومظاهر المرض العقلي، تأخذنا إلى أحاديث مخيفة عن "الفصام الذهاني" بأنواعه، وعن درجات متفاوتة من التبلد الوجداني واضطراب الوعي، والهذيان الذي يؤدي بالمريض إلى خلق واقع موازٍ يعيش فيه ولا يصدق سواه، وبالتالي يسهل إنكار أي شيء في الواقع الفعلي، وينساق المريض للتعال مع الأشباح والخيالات التي تسكن دماغه، بحيث يتخيل مؤامرات أو معجزات، حسبما تقوده الهلاوس التي تسيطر عليه، وتختلف من لحظة إلى أخرى، مع ثبات إحساسه بالعظمة وبالوسواس القهري، ليس من المعارضين فقط، ولا من الإعلام الذي يخالفه الرأي، ولكن ذلك يمتد إلى المحيطين به، فيتخذ قرارات العزل والإبعاد والتنكيل، لا أسباب سياسية، ولكن تحت ضغط الدوافع النفسية التي يغذيها المرض العقلي.
(7)
لما لاحظت قبل ثلاثة أعوام تقريبا أن السيسي يضحك في مواقف تتطلب الحزن، ويُظهِر الصلف والعناد والقسوة في مواقف تحتاج إلى التفهم والعدل والرحمة. فقد كتبت مقالا بعنوان "لا تجعلوا السيسي يبتسم"، وطالبت بمعاملته بالمثل، فإذا "عكنن" على الشعب، فليس أقل من أن "نعكنن" عليه، وإذا تجاهلنا سخرنا منه وتجرأنا عليه، لكن ظاهرة المكايدة اللاإرادية للشعب ومشاعر الجموع تواصلت وزادت، فظهر هو يضحك غير عابئ بمشاعر الحزن على ضحايا جريمة دير الأنبا صموئيل في المنيا، وزاد في صلفه بالحديث عن البطاطس، والتلويح بإلغاء علاوة موظفي الدولة، وبالحديث عن التقشف وهو ينفق ببذخ على الفعاليات المستفزة التي تروق له، ومع ذلك فأنا اليوم لا أدعو لـ"العكننة" على السيسي، ولا
السخرية منه، ولا مكايدته بالنقد العنيف على مواقع التواصل، بل أدعو إلى فحصه عقليا، والعمل على علاجه، وأطالب مؤسسات الدولة باتخاذ الإجراءات المسؤولة لضمان سلامة الرئيس صحيا وعقليا، حرصا على الدولة واستقرارها؛ لأن البطاطس ليست التهديد الوحيد لاستقرار مصر، بل "البدنجان" أيضا، وأنا أخشى بالفعل أن تكون الحالة بقت "بدنجان خالص".
[email protected]