(تقديم)
أنا من بلد يسمى
"
مصر"، وقد عشت أعتز بذلك، لكن لما بدأت في دراسة ما أسميته (مؤقتا)
"عبقرية الزمان" هاجمني سؤال مقلق هو:
هل مصر ظلت دائما مصر؟.. أم
أنها في فترات كثيرة من تاريخها (ومنها الفترة الأخيرة) تحولت بمعرفة الشياطين إلى
شيء آخر؟!
يسخر المصريون من خدعة التخفي
وراء الأسماء التي تتناقض مع الأفعال، فيقولون في مَثَل شعبي شهير: "الاسم
طوبة والفعل أمشير"، ما يدفعنا لإعادة صياغة سؤال المقدمة بشكل أكثر ارتباطا
بسياسات مصر تجاه إسرائيل والقضايا المرتبطة بها: ألا يجوز أن يكون الاسم
"مصر" والفعل "إسرائيل"؟!
(توضيح)
لن أتورط في أحاديث مرسلة عن
ديانة بعض الحكام وأمهاتهم، كما أثير عن الحاكم المصري عبد الفتاح السيسي، أو
تصريح الأمير السعودي محمد بن سلمان أن أمه يهودية (تبجيلا لديانة المربية التي
تولت رعايته منذ ولادته)، فهذه أمور لها تفسيرات كثيرة إن صدقت، والعبرة فيها
بالممارسات والسياسات والانتماءات الواضحة، وليس بالأصول العرقية والدينية القديمة،
فنحن مثلا نعرف حكاما كثيرين في دول العالم من أصول مختلفة عن الدول التي
يحكمونها، هندي يحكم في بريطانيا وعربي يحكم في الأرجنتين وأفريقي في أمريكا،
وهكذا، ولن أرتكز على اتهامات كثيرة تداولتها الميديا الشعبية عن اختراق "إسرائيل"
لقصور الحكم في الدول العربية، ولن أتعامل بثقة نهائية مع تصريحات "مصادر
عبرية شبه رسمية" أكدت فيها أن عددا من الحكام العرب ينتمون سرا إلى الكيان
الصهيوني ويعملون لصالحه ومصالحه، وحددت المصادر ذات مرة أن خمسة من الحكام العرب
صهاينة تم زرعهم في قصور الحكم بعد عقود من انكشاف عملية صعود "إيلي
كوهين" نحو رأس السلطة في سوريا..
القضية عندي إذن لا تعتمد على شائعات، ولا مكايدات سياسية، ولا حتى أصول عرقية ودينية قديمة (إن وجدت)، القضية يحسمها معيار الهوية والانتماء والعمل من أجل مصالح قومية عليا، تتناقض بالضرورة مع مصالح أعداء هذه البلاد التي نعيش فيها
برغم ذلك التريث، أعترف بأنني
كتبت منذ سنوات مقالا هجوميا ضد سياسات الحكم في مصر تحت عنوان "نتنياهو يحكم
من الاتحادية"، وانتقدت فيه اللقاءات السرية التي ذهب إليها الحاكم العسكري
المصري عبد الفتاح السيسي لترتيب الأمور مع نتنياهو في "إيلات"، قبل
مجاهرته في أسيوط بعدها بالدعوة لتوسيع كامب ديفيد عربيا، وحديثه في الأمم المتحدة
بعد ذلك عن أهمية "أمن المواطن الإسرائيلي جنبا إلى جنب مع أمن المواطن الإسرائيلي"،
وأؤكد عليكم ألا تستهينوا بزلات اللسان كما ينبهكم علماء النفس.
(تحديد)
القضية عندي إذن لا تعتمد على
شائعات، ولا مكايدات سياسية، ولا حتى أصول عرقية ودينية قديمة (إن وجدت)، القضية
يحسمها معيار
الهوية والانتماء والعمل من أجل مصالح قومية عليا، تتناقض بالضرورة
مع مصالح أعداء هذه البلاد التي نعيش فيها..
ومن هنا نبدأ النقاش بأسلوب
عقلاني هادئ لا يستسهل التخوين، ولا يتغافل عنه..
(سؤال مثير للجدل)
تحكي أسطورة بوذية قديمة عن
رجل سافر بصحبة اثنين من الشياطين، أحدهما يحمل على ظهره جثة لسبب لم يتضح في بادئ
الرحلة، وفي الطريق بدأ الشيطان الأول يلتهم أعضاء المسافر، واحدا تلو الآخر..
يأكل الذراع فيسارع الشيطان الثاني بنزع ذراع من الجثة التي يحملها ويعوض المسافر
ما فقده، ونفس الشيء بالنسبة لبقية الأعضاء، حتى التهم الشيطان جسم المسافر كاملا
وعوضه الشيطان الثاني بأعضاء الجثة التي يحملها، وبعد الرحلة الشيطانية، انفجرت
مشكلة الهوية في رأس المسافر: من أكون؟
هل أنا الرجل القديم الذي
أعرفه؟ أم أنني شخص جديد لا أعرفه، ظهر نتيجة التعاون بين شيطانين أحدهما
"ينزع" والثاني "يزرع" أعضاء بديلة يحملها مسبقا؟!
(التدمير والتعمير)
بعد كل حرب تدميرية تنطلق حرب
إعادة الإعمار، ما يذكرنا بالعلاقة الأزلية بين الهدم والبناء، ومهما كانت نتيجة
"التعويض المادي" للدمار والهدم والانتزاع، فإن السؤال الذي طرحته
الأسطورة البوذية يظل صالحا لإثارة الجدل: هل "إيلات" هي نفسها "أم
الرشراش"؟ هل "تل أبيب" هي نفسها "قرية الشيخ مؤنس"؟ هل "بير
شيفاع" هي "بئر السبع"؟ هل "نتانيا" هي "أم
خالد"؟ هل "تسيبوري" هي "صفورية"؟ هل "أحيهود"
هي "البروة"؟ هل "أشكلون" هي "عسقلان"؟ هل "كيرم
شالوم" هي "كرم أبو سالم"؟ هل "زخاريا" هي "بلدة
زكريا"؟.. هل "غزة الجديدة المعمرة" ستكون هي "غزة القديمة
المقاومة"؟..
وكذلك الحال في مصر، هل تبقى
"جبانة المماليك" هي هي، برغم كل ما حدث فيها من انتزاع واستبدال؟ هل
ميدان الرميلة (وحي القلعة عموما) هو نفسه ما كان عندما كان المكان مركزا للحكم
طوال قرون؟ هل ظلت الإسكندرية هي نفسها مع تبدل الزمان؟
(شجرة تشومسكي)
في فيلم ممتع بعنوان "هل الرجل
الطويل سعيد؟" يتحاور المخرج الفرنسي "ميشيل جوندري" مع المفكر
الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي الذي يسألنا كاشفا عن جوهر فلسفته:
إذا قامت ساحرة بتحويل كلب إلى
جمل، ثم حدث شيء ما وانفك السحر وعاد الجمل إلى كلب من جديد، فأين اختفى الكلب أثناء
"فترة التحول"؟
يرد تشومسكي مؤكدا أن الكلب
لم يغب أبدا، لقد ظل موجودا طوال الوقت، حتى عندما ظهر لنا في صورة "جمل"!
أفكار تشومسكي صعبة ومعقدة
لذلك تحتاج إلى شرح وتفصيل وتكرار للأمثلة، وهو ما فعله في الفيلم، ونحاول أن
نفعله في مقالنا أيضا، ولهذا نتوقف أمام مثال آخر طرحه تشومسكي لتوضيح معضلة المحو
والاستبدال، ويمكنك أن تفكر في المثال كأنه أنت، أو "أرض فلسطين" التي
يتم انتزاعها وتهويدها، أو مباني مصر التاريخية التي يتم محوها، أو أي شيء يتبدل
حولك..
يقول تشومسكي:
لنفترض أنني شاهدت أحدهم يقطع
الشجرة الوارفة التي تظلل مدخل منزلي، ثم سافرت للانضمام إلى أسرتي في مدينة بعيدة
قضينا فيها إجازة طويلة، ولما عدنا كانت الشجرة قد نمت من جديد بشكل يكاد يتطابق
مع القديم، قد لا يلاحظ أفراد أسرتي أي تغيير يستدعي التفكير، أما أنا فلا بد أن أعرف أن الشجرة الجديدة مختلفة عن القديمة.. إنها ليست هي، ولكن نسخة أخرى، ويجب
أن أظل متأكدا من هذه الحقيقة، لأنني رأيت بعيني الشخص الذي جاء وقطع الشجرة
القديمة الأصلية، وليكن اسمها مثلا "تيران وصنافير" أو
"يافا"، أو "مصر كلها".. إلخ..
لقد حدث انقطاع بالفعل في الواقع وتم تعويض الأصل المقطوع بنسخة جديدة، سواء
بطريقة حميدة لتعويض الوظيفة نفسها (مثل زراعة الأعضاء في الجسد)، أو بطريقة خبيثة
لغرس كيان مضاد للأصل (مثل محو الهنود الحمر في الأرض الجديدة واستبدالهم بالغزاة
البيض)، وهذا نموذج لاستبدال معلوم ومكشوف صنع واقعا انقلابيا على التاريخ القديم
لشعب ما، لكن في حالة بلدان أخرى يظل الانتزاع والاستبدال والانقلاب مخادعا
وملتبسا، مثلما حدث لمصر في فترات طويلة تحولت فيها إلى "زومبي"، يحتفظ
بجسده واسمه، لكن عقله صار مسكونا بأفكار الشيطان المسيطر، وبالتالي فإن سلوكه صار
خطيرا ومدمرا للذات القديمة..!
(الحمار والصخرة)
العبرة دائما في أي تغيير تحددها استمرارية الإنسان في أداء دوره الأساسي دون انحراف وانقطاع عن الأصل، وإذا نظرنا إلى حالة مصر بعد كل انقطاع سنصطدم بانقلابات مفزعة في الهوية والدور
لا يتخذ تشومسكي موقفا ثابتا
ضد عملية "المحو والاستبدال" في ذاتها، لكنه يحدد موقفه بما يسميه
"الاستمرارية"، ويصفها بأنها "عملية معقدة للغاية"، لأن
المقصود هو الاستمرارية العقلية والنفسية (التاريخ المتسق مع الهوية والوظيفة
والروح الإنسانية)، وليس الاستمرارية المادية (الجغرافيا والأبنية وإنجازات الحجر
التي يبالغ في تقديرها الشياطين على حساب البشر والقيم الروحية والنفسية).
لذلك فإن العبرة دائما في أي
تغيير تحددها استمرارية الإنسان في أداء دوره الأساسي دون انحراف وانقطاع عن
الأصل، وإذا نظرنا إلى حالة مصر بعد كل انقطاع سنصطدم بانقلابات مفزعة في الهوية
والدور، فلا نكاد نعرف: هل مصر عربية أم أوروبية؟.. إسلامية أم فرعونية؟.. أفريقية
أم شرق أوسطية؟.. الخ..
وإذا فكرنا أننا تشكيلة
متعددة الطبقات من الهويات المتداخلة، ألا يجب أن يكون هناك مايسترو يدير كل تلك
التناقضات بانسجام لا يفضي إلى صراعات أو تشوش أو نزاعات بينية تسرطن الوطن جسدا
وروحا؟!
يلمح لنا تشومسكي أن ذلك
"المايسترو" هو العقل، هو المعرفة بحقيقة ما حدث من تحولات حتى لا نقع
مع الزمن ضحية الخداع، وهو كذلك الاهتمام بـ"درجة
التغيير" التي لا
تنقلب على الأصل، بحيث لا تطغى المباني على جوهر المعاني، وبالتالي فإن
"الوعي التاريخي" هو المفهوم المرجعي الذي يحسم وصف تغيير ما بأنه تدمير
أو تعمير.. تبديد أو تجديد.. استمرار أو انقلاب..
فالعالم كما يقول تشومسكي ليس
هو الأشجار والكلاب والأنهار وما إلى ذلك، لكنه بالأساس "الوعي بهذه
الأشياء"، ويعود تشومسكي لضرب الأمثال فيحكي لنا قصة الحمار "سيلفستر"
التي توقف أمامها بسبب انجذاب أحفاده لها.
والقصة باختصار تحكي عن حمار
اسمه "سيلفستر دنكان"، كان مغرما بجمع الحصى غريبة الشكل، وفي أحد
الأيام وجد حصاة كروية حمراء تحقق الأمنيات لمن يحملها، لذلك لما وجد سيلفستر نفسه
في مواجهة أسد مفترس، لجأ إلى ما يملك من حصى وليس إلى التفكير الصحيح، فقد تذكر
أنه يملك "حصاة الأمنيات" فتمنى أن يتحول إلى صخرة، حتى لا يقدر عليه
الأسد، ولأن الصخرة بطبيعتها ومهما كانت قوتها وضخامتها لا تستطيع الإمساك والتحكم
في حصاة، فقد ظل سيلفستر في صورة صخرة ولم يستطع العودة إلى حياته كحمار، إلا بعد
رحلة بحث وكفاح من جانب والديه لمعرفة ما حدث ومساعدته لاستعادة هويته.
يذكرنا تشومسكي بأن العامل
الأقوى في استعادة الحمار لهويته هو تعريف الوالدين بأن الصخرة الصماء التي أمامهم
هي نفسها ابنهم الذي سقط في فخ التحول الخاطئ، مع ملاحظة أن الأطفال الذين يتابعون
القصة الشعبية، كانوا على يقين طوال الوقت أن الصخرة هي نفسها الحمار برغم
الاختلاف التام في الشكل والخواص الطبيعية. وهذا هو الفيصل في حماية الهوية
الفلسطينية برغم كل تحولات التهويد وتغيير طبيعة وأسماء البلدات الفلسطينية، وكذلك
الحال بالنسبة لمحاولات تغريب شكل الحياة في مجتمعات لم يعد شكلها يتطابق بأي درجة
مع هوياتها الأصلية.
(حتى يبقى النهر
نهرا)
مصر كنموذج للمحو والاستبدال تجاوزت درجة التغيير المسموحة فيما يتعلق بهويتها الإنسانية والوطنية والحضارية، بحيث لم تعد بلدا عربيا ولا إسلاميا ولا يمكن حسابها على أي هوية إلا بطريقة التذكير بتاريخ كان ولم يعد
النقطة الأخيرة التي أذكرها
على عجالة حتى لا يطول المقال أكثر هي "درجة التغيير المسموحة" التي لا
تنقلب فيها الهوية على نفسها، ويضرب تشومسكي مثلا لتوضيح ذلك بحالة "نهر
تشارلز" الذي يعيش بجواره في ولاية ماساتشوستس، فيقول: ما الذي يجعل نهر
تشارلز نهرا، برغم أنه يمر بتحولات ومشاهد كثيرة؟ فمرة نراه وسط الحقول، ثم يمر
بين المباني في صورة مختلفة ومع ذلك نظل نسميه نهر تشارلز، يمكن أن يتسع ويضيق
ويغير اتجاهه ولا يزال كذلك نهر تشارلز، يتفرع إلى روافد ويظل نهر تشارلز، تتغير مياهه
بسبب صرف المصانع والتلوث ولا يزال نهر تشارلز، لكن هناك تغييرات إذا قمنا بها فلن
يكون نهر تشارلز على الإطلاق، مثلا إذا وضعنا الألواح فوق النهر وغطيناه فإنه حين
ذاك سيتحول إلى أنبوب، أو قناة مغطاة، ولن نتعرف عليه كنهر إلا على سبيل التذكير
بمرحلة من تاريخه القديم كان فيها نهرا، ولم يعد كذلك الآن..
وبكل أسف فإن مصر كنموذج
للمحو والاستبدال تجاوزت درجة التغيير المسموحة فيما يتعلق بهويتها الإنسانية
والوطنية والحضارية، بحيث لم تعد بلدا عربيا ولا إسلاميا ولا يمكن حسابها على أي
هوية إلا بطريقة التذكير بتاريخ كان ولم يعد، فقد تحول النهر إلى أنبوب للصرف،
ولكي نستعيد الهوية ونحرر الحمار من سجن الصخرة فلا بد من جهد وإيمان وإخلاص تتفق
عليه عائلة دنكان لاستعادة هوية وحياة ابنهم الذي آمن بمعجزة "الحصاة
السحرية"، وظل يردد: آه بنيت قصور.. وهفضل ابني وابني، بينما كان البناء
بالحصى هدما للإنسان وانحرافا عن الطريق..
وختاما أتذكر زجلا بديعا
للراحل عبد الحميد البنهاوي يقول فيه:
"تاجرت بالفكر، لما
وصّلك وارتحت
ولما وصلت.. انفصلت
واندرت هد وفحت
حاسب..
دي ماهش علالي..
انت نازل تحت".
[email protected]