كتاب عربي 21

نظام يحتفل.. وشعب يعزّي

شريف أيمن
1300x600
1300x600
وقعت حادثة دير الأنبا صموئيل ليلة ما يُسمّى بمؤتمر شباب العالم، وجرت وقائع الاحتفال صبيحة اليوم التالي تزامنا مع أحداث المأتم، ليتكشّف وجه آخر من أوجه قبح النظام السياسي، الذي يهتم بالدعاية الفارغة والبروباجندا، ولا يعبأ بجراح ذوي الذين اغتيلوا غدرا عقب صلواتهم، وقد جرت عادة المصريين على ألا يقيموا فرحا بجوار مأتم؛ احتراما لروح المتوفَّى ولمشاعر ذويه، ومجافاة ذلك من علامات قلة الأصل لديهم.

ظهر رأس النظام وهو يضحك ويحتفل بين الآلاف من ضيوفه، لا ضيوف الوطن، في إحدى وقائع العلاقات العامة الفاشلة.. وفشلها له وجهان، من جهة أن العالم يعلم حقيقة ما يجري من استبداد وإخفاق اقتصادي في مصر، وإن تغاضى عنه بسبب ما يقدمه النظام من تنازلات تحقق مصالح الغرب وتخسف بحقوقنا الأرض، ومن جهة أخرى لأن حملة العلاقات العامة التي يقيمها رأس النظام لنفسه، مكلّفة بشدة في ظل وضع اقتصادي قال عنه من قبل "إحنا فقراء أوي (جدا)"، لكن طموحات الجنرال ورغبته في مخاطبة الجموع باعتباره طبيب الفلاسفة وكبيرهم، تطغى على أي اعتبار اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي، أو حتى الاعتبار المتعلق بالذوق، وهي اعتبارات يفقدها كلها ولا يمتاز سوى بحس أمني شرس تجاه ما قد يمس منصبه، وتبدو شراسته أمام مواطني بلده فقط، ويبدو هوانُه أمام من يسترضيهم.

بعيدا عن أجواء الاحتفال في ظل مصاب كبير، فقد جرى أثناء التأبين ما يستدعي التوقف والانتباه، إذ قام الأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا بشكر مجموعة من مسؤولي محافظة المنيا "بصعيد مصر"، ثم قام بشكر القيادات الأمنية في المحافظة، وأعضاء مجلس النواب. وعلت أصوات الاستهجان والرفض طوال الوقت الذي عدّد فيه الأنبا مكاريوس أسماء المسؤولين، ودون اكتراث منه لحالة السخط تلك، وبمجرد انتهائه من ذكر أسماء المسؤولين الحكوميين وأعضاء مجلس النواب، توجه بالشكر لبعض القساوسة الذين حضروا، لتنقلب صيحات الاستهجان في لحظة واحدة، إلى تصفيق شديد أثناء المأتم، لتتوجه رسالة حادة على المستويين الرسمي والأهلي بذلك الفعل.

اضطر الأنبا مكاريوس في اليوم التالي لتوضيح أسباب توجهه بالشكر للمسؤولين، وذكر أثناء صلاة "صَرْف روح الحزن" أن سبب توجهه بالشكر للمسؤولين أنهم "كانوا متواجدين طول الليل ولم يناموا أثناء تجهيز الجثامين وإنهاء الإجراءات، وأننا لم نتعود على إنكار الجميل، ولم نتعود على إبخاس حق شخص، بل اعتدنا على الوفاء"، ثم استدرك الأنبا مكاريوس بقوله: "أما من حيث المسؤولية، فهم مسؤولون مسؤولية كاملة عن الحدث، خاصة مع تكراره في نفس المكان ونفس الطريقة"، وهذا الخطاب الثاني صادر لتهدئة جموع المسيحيين من تماهي قيادات الكنيسة مع الدولة.

علِمْنا من هتافات الغاضبين أن هناك سخطا على الدولة وتقصيرها بسبب تكرار الحوادث، وعلمنا كذلك أن هناك سخطا على القيادات الكنسية بسبب إصرارهم على تجميل وجه الدولة والوقوف بجانبها طوال الوقت، رغم الخطايا الاقتصادية التي قامت بها الحكومة وتسببت بسخط شعبي واسع ضدها، وبالتبعية ضد داعميها، مما يسهم بدرجة ما في زيادة مساحات الاحتقان الطائفي. وعلمنا كذلك أن هناك ارتباطا روحيا يتنامى بدرجة قد تعلو على ما عداه، ويوازي ما يتم انتقاد الإسلاميين به من علو الانتماء الديني على الوطني، لكننا لم نجد أحدا يسأل ما يشبه السؤال الشهير للدكتور محمد أبو الغار: "مَن الأقرب إليك: المسلم المصري أم المسيحي الأوروبي؟".

حدثت عملية القتل بخستها، وبدلا من أن تطهّر الجراح، فإن هناك من يزيدها ويعمقها، إما بتزايد الخطاب الطائفي الشامت فيما جرى، وإما بتوجيه السخط لعموم المسلمين لا مجرد من ارتكب الجريمة، وإما باستغلالها سياسيا لصالح الدولة، وهؤلاء هم المستفيدون من تزايد الانقسام الاجتماعي، وأخطره ما كان على مستوى الدين. وفي ظل الخطاب العبثي تغيب الأسئلة المُلحّة، مثل: لماذا تتكرر العملية في نفس المكان؟ وإلى أي مدى يتعامل النظام بجدية مع هذه العمليات؟ وهل الدولة التي تكتشف المرتكبين وتبادلهم إطلاق النار وتقوم بتصفيتهم جميعا في خلال 24 ساعة؛ صادقة فيما ادعته؟ أم أنها تستغل الحادثة لتصفية معتقلين لديها؟ أم تقوم بقتل مجموعة من الأبرياء لتهدئة الرأي العام كما جرى مع الخمسة الذين قتلتهم على خلفية قتلها للباحث الإيطالي ريجيني؟ وإذا كانت كفاءة أجهزة الأمن في التعقب بهذا المستوى المرتفع، فلماذا لا تكشف عن الجريمة قبل وقوعها خاصة مع تكرارها؟

تتزاحم الأسئلة وتتشابك بقدر ما يتشابك الواقع المصري وتزداد تعقيداته، على مستوى عبث السلطة؛ وعلى مستوى تفكك التجمعات الأهلية وعدم قدرتها على بلورة موقف موحد يخدم المجتمع، وعلى مستوى تراخي مؤسسات الدولة وأجهزتها الوطنية في كبح التدهور الحاصل على كل الصُّعُد، إلى الحد الذي وجدنا فيه نظاما يقيم حفلة علاقات عامة سفيهة وفاشلة، في الوقت الذي ترتفع فيه أنّات ضحايا العنف، وتتعالى معه شكاية الناس من غلاء أساسيات الحياة.
التعليقات (0)