قضايا وآراء

إيران واغتيال خاشقجي

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600
إيران كانت الغائب الحاضر في قضية الصحفي جمال خاشقجي.. الغائب في ارتكاب الجريمة، والحاضر بقوة في تفاصيل تداعياتها الواسعة. وتريثها لمدة أكثر من ثلاثة أسابيع قبل أن يتخذ موقفا رسميا على لسان الرئيس روحاني؛ لم يغير من هذا الحضور القوي شيئا، ما أدركه السعوديون أنفسهم عندما حاولوا استخدامه كورقة ضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، بعد تلويح الأخيرة بفرض عقوبات على الرياض، حيث هدّد تركي الدخيل، الصحفي المقرب من ولي العهد السعودي، في مقاله المثير للجدل في الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر أن العقوبات المحتملة سترمي الرياض في أحضان إيران.

أثار صمت طهران طيلة هذه الفترة تساؤلات عديدة لدى المراقبين والمحللين ومختلف وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية، وبحث الجميع عن اجابات مقنعة لذلك، وهي ما زالت قائمة، بالرغم مما قاله الرئيس الإيراني في بداية الأسبوع الرابع للأزمة.

مقابل هذا الصمت، كان هنالك تركيز اعلامي واسع في إيران على ما حدث لجمال خاشقجي، وظل الحادث محتلا صدارة نشرات الأخبار في القنوات التلفاز الإيرانية الرسمية، وكذلك بقية وسائل الإعلام، منذ أربعة أسابيع إلى الآن، فما لم تقله طهران رسميا، قاله الإعلام الإيراني بشكل غير رسمي.

أسباب الصمت

لم تغب عن نظر السلطات الإيرانية انتقادات الصحفي جمال خاشقجي لها في مقالاته أو مقابلاته أو تغريداته، فاستحضر البعض تلك المواقف، وخاصة تغريدته الترحيبية بإعدام السلطات السعودية العالم الديني الشيعي "باقر النمر" عام 2016، لكن ذلك لم يكن الدافع وراء صمتها طوال ثلاثة أسابيع. بعد اسبوعين من اغتيال خاشقجي في الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، عزا المتحدث باسم الخارجية الإيرانية "بهرام قاسمي" عدم اتخاذ موقف رسمي إلى انتظار طهران لاستجلاء الحقيقة، قائلا: "إن طهران لن تعلق على قضية خاشقجي حتى يتم الكشف عن الحقائق".

فضلا عن المذكور سالفا، فإن ثمة دوافع أخرى وراء هذا الصمت.. أولا، على ما يبدو، أرادت طهران من خلال ذلك عدم التأثير سلبا على مسار القضية، بعد أن تحولت إلى أكبر أزمة للسعودية، حيث أنها كانت تعلم أنه اذا ما أقحمت نفسها في الموضوع، على الأغلب يتم استغلال مواقفها لحرف وجهة الأزمة صوبها، نظرا إلى الحساسيات الموجودة والصراع الدائر بينها وبين السعودية، بالتالي يبدو أن هناك كانت قناعة بأن الدخول في هذه القضية بشكل رسمي من شأنه أن يقدم طوق النجاة للرياض، وتعيد طهران إلى مركز الاهتمام العالمي، لذلك امتنعت عن ذلك واختارت أن تكون متفرجة.

ثانيا، لم يغب عن الحسابات الإيرانية الاستفادة من هذا الظرف الحساس لتحسين علاقاتها مع السعودية لأغراض محددة، حيث أنها وبالرغم من توجيه اتهامات لاذعة للرياض بعد الهجوم على العرض العسكري في مدينة الأهواز الإيرانية في أيلول/ سبتمبر الماضي، حاولت خلال العام الأخير - عبر الوسطاء - إصلاح العلاقات الثنائية، وشجعها على المضي في ذلك التوتر الحاصل في العلاقات الأمريكية السعودية في الآونة الأخيرة.

في هذا السياق، يقول الدبلوماسي الإيراني السابق "نصرت الله تاجيك"؛ إنه في حال تمكنت إيران من اغتنام هذه الظروف ودفع الرياض التي أصبحت في موقف ضعيف إلى طاولة التفاوض للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية، ستكون طهران هي الرابح الرئيس في تداعيات قضية خاشقجي.

مع ذلك كله، لأول مرة تحدث الرئيس روحاني الأربعاء الماضي عن قضية جمال خاشقجي، مهاجما السعودية والولايات المتحدة الأمريكية معا. يبدو أن عاملين كانا وراء كسر الصمت من قبل روحاني.. الأول، تصنيف السعودية الحرس الثوري الإيراني وقائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني ضمن قائمة الإرهاب، والثاني أن أزمة اغتيال خاشقجي قد استفحلت وتحولت إلى أزمة دولية، بالتالي رأت طهران أنه من الأفضل أن تسجل موقفا في هذا الخصوص، فيبدو أنه أصبحت لديها القناعة بأن مثل هذا الموقف في هذا الحين لا يرتد عليها سلبا. ومع ما بدر من الرئيس الإيراني تجاه هذه القضية، إلا أن الصمت ما زال قائما بشكل أو آخر، إذ إن السلطات الإيرانية، خصوصا في الخارجية، ما زالت تتفادى التطرق إلى هذا الموضوع بطريقة تصعيدية.

مكاسب لم تُطلب

ثمة مكاسب حققتها التداعيات الواسعة لاغتيال جمال خاشقجي لإيران، دون أن تطلبها هي أو تكون في بالها سلفا. بعد تربع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على السلطة واتخاذه موقفا مختلفا عن سلفه تجاه إيران، أصبحت تحتل الأخيرة صدارة الاهتمام العالمي والإقليمي إعلاميا وسياسيا، والأنظار كانت ترصد كل صغير وكبير يرتبط بها من قريب أو بعيد.

ازداد هذا الاهتمام بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في الثامن من أيار/ مايو الماضي، واستمر اطراديا كلما اقترب موعد سريان المرحلة الثانية من العقوبات في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، والتي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بشن حرب إعلامية ونفسية كبيرة منذ أشهر لجعلها الأكثر إيلاما وإيجاعا، حسبما أعلنت واشنطن، وكانت تتفاوض مع عواصم العالم لتصفير استيرادها من النفط الإيراني. وفجأة، أخرجت السعودية منافسها الإقليمي من سلم تلك الاهتمامات المركزة، وحوّلت وجهة التركيز الإعلامي والسياسي عالميا وإقليميا نحو نفسها وقنصليتها في إسطنبول، والجريمة التي ارتكبت فيها بحق الصحفي جمال خاشقجي.

أربكت الرياض بذلك الحسابات الأمريكية تجاه طهران قبيل بدء تنفيذ المرحلة الثانية من العقوبات في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، ما أزعج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشكل كبير، ودفعه إلى مزيد من التشدد تجاه السعودية بشكل عام، وولي عهدها بشكل خاص، فضلا عن أن هذه الجريمة أيضا أربكت الحسابات الداخلية لترامب والجمهوريين قبل أيام من الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي، والتي ينظر إليها المراقبون كاستفتاء على مستقبل ترامب السياسي.

ومن جهة أخرى، أضعفت هذه الجريمة المحور المعادي لإيران، ولو مؤقتا، بعد أن وترت العلاقات بين ركنيه الأمريكي والسعودي، مما أشغلت المحور عن إيران في هذه الظروف الحساسة التي خططت الإدارة الأمريكية منذ أشهر لأن تكون هي الأصعب لطهران.

ثم إن حادث الاغتيال وضع السعودية في موقف لا تحسد عليه في العالمين العربي والإسلامي، بما يضعف موقفها ومكانتها التاريخية. وهذا بحد ذاته مصلحة إيرانية، بالنظر إلى الصراع المرير الجاري بين البلدين. صحيح أن تراجع موقع السعودية عربيا وإسلاميا لا يعني بالضرورة تصاعد موقع إيران في الساحتين، لكنّ لا شك أن ذلك سؤثر سلبا على سياسات الرياض الرامية إلى التحشيد ضد طهران، بعد أن كانت تشهر الورقة العربية والإسلامية في هذه المواجهة، سواء في الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي.

أما أخطر ما حدث بالفعل للسعودية بسبب تراكم أخطائها القاتلة، التي عزا إليها الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله تعاظم نفوذ إيران في المنطقة، في تصريح ملفت له في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، أنها فقدت بالفعل نفوذها الناعم في الرأي العام العربي والإسلامي، يفوق ما فقدته إيران بعد نشوء الأزمة السورية إلى اليوم.

نتيجة ذلك، ترى طهران أن الظروف باتت مستعدة أكثر من قبل للقبول بقراءاتها عن الأحداث الإقليمية، حيث يقول العميد محمد صالح جوكار، مسؤول الشؤون البرلمانية في الحرس الثوري، إن مقتل خاشقجي أحدث فضاء وأرضية مناسبة في المنطقة لفضح ما اعتبره جرائم السعودية في اليمن وغيرها، منتقدا الخارجية الإيرانية بقوله: "للأسف الخارجية لم تستفد من الحادث بشكل جيد، وبقية الدول تستغله في سياق مصالحها بشكل مكثف. كان لزاما على الخارجية الإيرانية أن تقول للعالم إن مقتل خاشقجي يعد واحدا من آلاف الجرائم ارتكبتها السعودية، ومثل هذه الجرائم تتكرر يوميا في اليمن وبقية الدول".

لا تتوقف مكاسب طهران عند هذا الحد، فبعد أن قام ولي العهد السعودي بجملة إصلاحات اجتماعية، منها السماح للنساء بحضور مبارايات كرة القدم وغيرها، حاولت المعارضة الإيرانية وأوساط غربية إحراج النظام الإيراني بذلك، لرفضه مثل هذه الإجراءات، أما اليوم فطهران ترد على ذلك من خلال تركيزها الإعلامي الكبير، واختيار عناوين "السعودية كشفت عن حقيقة إصلاحاتها" و"الديمقراطية على طريقة ابن سلمان" أو"الإصلاحات على طريقة ابن سلمان" في مانشيتات الصحف.

أخيرا، وبالرغم من أن السعودية من خلال اغتيالها الصحفي جمال خاشقجي قدمت مكاسب لطهران لم تكن بمخيلتها، إلا أن تلك المكاسب لا تبدو دائمة في غالبيتها، إذ إنه من المحتمل أيضا أن تعيد الإدارة الأمريكية التركيز الإعلامي على إيران من الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل فصاعدا، بعد تنفيذ المرحلة الثانية من العقوبات بشكل مكثف جدا، لينقذ الحليف السعودي من هذه الورطة من جهة، ويعيد اللحمة إلى المحور المعادي لإيران من جهة أخرى.
التعليقات (0)