بدعوة كريمة من حركة
النهضة، قُدر لي أن أحضر وقائع وجلسات وحوارات مؤتمرها العاشر الذي انتهى قبل أيام، ذلك المؤتمر الذي تجاوز في أهميته الحالة
التونسية، وأصبح حديث العالم في الأيام الماضية، ولا تزال تتردد أصداؤه في أرجاء المعمورة، وكتب عنه الكثيرون بين مؤيد ومعارض ومشكك ومتسائل، ولعل هذه النقطة بحد ذاتها علامة من علامات نجاح الحركة في خطوتها.
من شهد المؤتمر يدرك حجم الجهد الهائل الي بذل في تنظيمه وإخراجه بهذا الشكل، وأحسنت حركة النهضة (حزب النهضة حاليا) الأداء الإعلامي، بأن صنعت حدثا وأطلقت تصريحات مدوية، فملأت الدنيا وشغلت الناس.
وليس هذا السلوك غريبا، فقد فعلت الشيء ذاته عندما أنجزت الحوار الوطني، وخرجت من الحكم وسط هالة من الإشادة بتقديمها لمصلحة الوطن على مصلحة الحزب.
وعلى الرغم من أن (بعضا) من الإسلاميين -ممن اعتاد على طريقة ذهنية معينة في العمل- لم تعجبهم الرسائل الإعلامية التي صدرت عن المؤتمر، إلا أنها كانت موجهة في المقام الأول للمواطن التونسي وللمجتمع المدني التونسي وللمجتمع المدني الدولي والأوروبي بشكل خاص، وقد حققت هذا الدويّ.
ملاحظة رئيسة وجدتها في معظم من كتب حول الأمر، وهي المبالغة سواء في الهواجس من التغيير والتخوف من القادم، أو في الحفاوة بهذه الخطوة في محاولة لتعميمها نموذجا يصلح للتطبيق بغض النظر عن ظروف الزمان والمكان، أو في الشماتة باعتبارها علامة من علامات تراجع ما يعرف بالمشروع السياسي الإسلامي.
والمسألة الأولى، أنه لا جديد في قرار تحول حركة النهضة التونسية من مشروع الحركة الشمولية إلى حزب سياسي متخصص، فهي واقعيا تمارس هذا العمل منذ الثورة، ولم يكن لها حركة، منذ ذلك الوقت، جهد كبير في الإصلاح المجتمعي، وهذا بحكم الواقع التونسي بعد الثورة حيث تحول المجتمع التونسي بأسره إلى مجتمع مسيس.
والمسألة الثانية، أن جميع اللوائح التي تم إقرارها في المؤتمر أكدت على مرجعية الحزب الإسلامية، وأقرت بشمولية الإسلام لجميع نواحي الحياة، لكن شمول الإسلام لا يعني ان تقوم مؤسسة ما بالعمل في جميع مجالات الحياة، كما أن حجم التدهور الذي أصاب الأمة في عقود الانحطاط لا تستطيع جماعة ما مهما بلغت ان تتحمل وحدها أمانة إصلاحه فهذا مناقض لمنطق الأشياء.
والمسألة الثالثة، أنه لا يوجد خلاف جوهري داخل الحركة على التوجهات الجديدة في عمومها، مع وجود اختلافات في التفاصيل بطبيعة الحال.
أما السياسات العامة، فقد تمت مناقشتها على جميع المستويات الإدارية في الحركة، وعقد لأجلها ما يزيد عن 200 جلسة حوارية على مستوى البلاد، إلى أن خلصت إلى حالتها النهائية وقد تم جمع خلاصة التوجهات في سبع لوائح هي:
اللائحة التقييمية وسبل إدارة المشروع والرؤية الفكرية والسياسية والاقتصادية، والتحدي الأمني، وهيكل الحزب. وكل هذه اللوائح مطبوعة ومتاحة، وتم إقرارها في المؤتمر العام بنسبة مرتفعة.
تبدأ القصة في تونس بعد الثورة، وما تلاها من صعود لحركة النهضة واشتراكها في الحكم فيما عرف بحكومة الترويكا، ثم تخليها عن الحكم نتيجة للحوار الوطني الذي أدارته منظمات المجتمع المدني التونسي.
لقد أدركت حركة النهضة أنه رغم حصولها على الشرعية التصويتية في الانتخابات، إلا أنها لم تمكن من التأثير في صناعة القرار في الدولة، ومرد ذلك لسببين:
أولا: عدم امتلاك أدوات الدولة، وثانيا: غياب الحضور في قوى المجتمع المدني الفاعلة.
معضلة رئيسة تعاني منها الحركات السياسية التي اعتادت على البقاء في مربع المعارضة، وهي التفكير بعقلية الاحتجاج لا الحكم، وإضاعة الوقت في مناقشات فكرية مع الأحزاب المنافسة، مع ترك الدولة يديرها ويصول فيها ويجول رجال الدولة العميقة.
قد يكون هذا الوضع مريحا في مرحلة ما تميزت فيها الحركات الإسلامية بميزتين: الاستناد للمرجعية الإسلامية، والاحتجاج على أوضاع البلاد، لكن الأوضاع الآن تغيرت، ففي المجال الإسلامي دخلت على الخط قوى منافسة تقدم خطابا جاذبا، وفي المجال السياسي أصبح على هذه الحركات أن تواجه استحقاق الحكم.
إن فهم طبيعة الدولة الحديثة وأدواتها وسطوتها ركن أساسي لمن أراد أن يمارس السياسة في إطار هذه الدولة، كثير من الحركات السياسية بنيت على فكرة التنظيم الشمولي الذي كان سائدا في العالم في فترة صعود الامبراطوريات الأيديولوجية مثل الشيوعية والنازية، وهو شكل سياسي يفيد في الصمود وقت المحن او في حركات التحرر الوطني أو حالات انهيار الدولة، لكنه لا يصلح للعمل في إطار الدولة الحديثة القائمة على هياكل سلطوية تشريعية وقضائية ومالية وأمنية وارتباطات بجماعات ضغط ومصالح ورجال أعمال.
استدعت الأحداث التي تلت الثورة التونسية من حركة النهضة أن تعيد تقدير موقفها وحساباتها، ففي ظل وضع دولي وإقليمي رافض، وفي ظل عدم امتلاك لأدوات النفوذ داخل البلاد، وفي ظل حالة شعبية ساخطة على الأحزاب السياسية ووقوف نصف الشعب في خانة الأحزاب المنافسة التي تطالب بإقصاء النهضة، يصبح من الجنون في هذه الحالة خوض معترك السياسة دون مناورات وتسويات تبقيها حتى هذه اللحظة رقما صعبا في الوضع السياسي التونسي، لا يمكن لأحد تجاوزه.
يعاني الشعب التونسي من حالة إحباط شديد، فبعد ثورة عظيمة أطاحت بالاستبداد تأمل الشعب بعدها بأن يحظى بحياة عزيزة كريمة، لكنه تحصل بعد خمس سنوات على وضع اقتصادي ضاغط زاد من صعوبته تراجع السياحة بسبب العمليات الإرهابية، ووضع سياسي تسوده المناكفات الحزبية والأيديولوجية مما يأّس الناس من السياسة وأهلها.
وفي ظل حالة من التدهور السياسي وتفكك في الأحزاب المنافسة للنهضة، التي لا تملك مشروعا سياسيا أو اقتصاديا لتونس سوى إقصاء النهضة، وفي ظل حالة العزوف عن السياسة بسبب هذه المناكفات الأيديولوجية، وفي ظل تراجع اقتصادي مستمر، تصبح البلاد في حاجة لحزب وطني يجمع شتات المواطنين التونسيين العاديين ويعبر عن التيار الوطني التونسي الوسطي البعيد عن الاستقطابات الأيديولوجية.
وحزب النهضة الجديد هو الحزب الوحيد المؤهل ليملأ هذا الفراغ، وهو حاجة تونسية بالمقام الأول، وستكون ضربة معلم لو استطاع أن يضم بين صفوفه بعضا من رجال الدولة التكنوقراط الذين لن يجدوا مكانا يلجؤون إليه سوى حزب النهضة.
وقد حدث فعلا أن بادر رجال الاقتصاد في الدولة بملاحظاتهم وتعقيباتهم على البرنامج الاقتصادي الذي يطرحه حزب النهضة، لأنهم وجدوا في طرح النهضة بعثا لأمل جديد لهم ولتونس، والحاجة الآن في تونس لإنجاز اقتصادي يلمسه المواطن العادي تقع في أولى الأولويات.
يبقى التحدي المجتمعي حاضرا بقوة في توجهات النهضة الجديدة، فمن أسقط حكم النهضة عمليا هي مؤسسات المجتمع المدني القوية، وعلى رأسها الاتحاد العام للشغل، وبما أن الحركة قد تحولت لحزب سياسي متخصص وتركت أمر العمل المجتمعي للمبادرات الفردية إلا أن هناك ملاحظات قوية على هذه الخطوة:
1) الجمهور الأكبر من حركة النهضة هو ممن يملك مهارات العمل المجتمعي في مختلف مجالاته الدعوية والتربوية والخيرية والحقوقية والتنموية، وهناك بالفعل العديد من المؤسسات القائمة، وهي تمثل الرصيد الأساسي للحزب الجديد بما تمثله من ثقل مجتمعي.
2) هذه الخطوة، وإن كانت تحرر كوادر النهضة من قيود الالتزام التنظيمي، إلا أنها تحتاج إلى قدر من التوجيه والتنسيق والتشبيك، وقد تركت لوائح المؤتمر الرؤية المستقبلية لهيكلة المجتمع المدني ضبابية دون أن تحسمها، ولا يجوز بحال أن نقول بأننا نطلق العمل المدني في الفضاء المجتمعي ثم لا نقدم تصورا عن الشكل الهيكلي له، وقد يكون غياب هذا التصور هو خشية قيادة الحزب الجديد من تشكل حركة إسلامية جديدة.
3) لوحظ من تشكيلة مجلس شورى الحزب الجديد، أنه لم يختلف كثيرا عن مجلس شورى الحركة، بمعنى أن الرموز الدعوية والمجتمعية لا زالت حاضرة فيه، وقد يكون ذلك بسبب تخوفها من انضمام أعضاء جدد (غير إسلاميين)، ما يؤثر على توجه الحزب الجديد، وإيثارها التدرج في الخطوات، أو قد يكون بسبب ارتباطها العاطفي بحركة مناضلة قدمت لها وضحت من أجل مبادئها.
ولكن الأولى في نظري، كان خروج رموز العمل الدعوي والمجتمعي من التشكيلة القيادية للحزب، وانخراطها بقوة في مؤسسات المجتمع المدني، لتكون رافدا مجتمعيا للحزب الجديد، ففي الديمقراطيات الحديثة لا أحزاب قوية دون قاعدة مجتمعية قوية.
لقد أعاد المؤتمر بعضا من الروح والأمل في المجتمع التونسي المحبط، وعلى قيادة الحزب الآن ممثلة بالشيخ الجليل راشد
الغنوشي تحديدا مسؤولية كبيرة في إدارة هذه المرحلة الحساسة، وظني أن الشيخ يملك رؤية متكاملة لإدارة المرحلة القادمة، بما عرف عنه من حنكة وبعد النظر، وعليه دور كبير أيضا في المزيد من مأسسة حزب النهضة الجديد، وإعداد رموز وقيادات قوية للصف الثاني والثالث بحيث لا تبقى الصورة الذهنية التي يجادل بها البعض بأن الحركة عبارة عن شيخ له حركة، لا حركة لها شيخ.
وقد وصلته رسالة الإصلاح واضحة في المؤتمر، وهو المعني الأول بتحقيقها والحفاظ على تماسك الصفوف ووحدتها، كما أن على الحزب الجديد أن يترفق بشبابه المناضلين الذين ناضلوا سنين لتصل الحركة إلى ما وصلت إليه وعدم جرحهم بالمبالغة في التقليل من شأنهم في المرحلة القادمة، فهم أبناء النهضة، وهي أمهم التي لا يعرفون أما سواها.