قضايا وآراء

حول مراجعات الحركات الإسلامية

1300x600
حسنا فعل مركز الجزيرة للدراسات أن جمع قبل أيام ثلة من قياديي ومفكري ومراقبي الحركات الإسلامية العربية وأدار بهم ندوة حول تحولات الحركات الإسلامية؛ فالحركات الإسلامية هي أهم مكون سياسي في المنطقة العربية، وكما يقول د. عزمي بشارة فإن مستقبل الديمقراطية في المنطقة العربية يعتمد على ثلاثة مكونات تعدّ الفاعل الأساسي فيها وهي: الإسلاميون والجيوش والنخبة.

والحقيقة أن اجتماع هذا العدد ليناقش مشاكل الحركات الإسلامية وتحولاتها ويمارس نقدا ذاتيا في الأفق المفتوح هو عمل إيجابي ودليل قوة وحضور لا ضعف وغياب، فالحركات الإسلامية وإن تراجعت مواقعها إلا أن نجمها لم يأفل ولا يزال ساطعا في السماء العربية. وتكمن أهمية هذه الممارسة بأنها:

أولا: رغم أن مقاومة ثقافة الحوار والنقد ليست خاصا (بالإسلاميين) وحدهم لكنها عندهم أشد بروزا، فمن الصعوبة بمكان مناقشة شخص مؤدلج من أنصار الحركات الإسلامية، وذلك لأنه تلقى شحنا هائلا من التبريرات لجميع التصرفات لقيادته التي يثق بها بل ويتعبد الله بذلك كما أنه يقف موقفا متشككا من المخالف، الذي قد يحسبه جزءا من المؤامرة على الإسلام أو من المتساقطين على طريق الدعوة. 

ففي وجدانه -وإن لم يصرح- الحركة ربانية والقيادات ملهمة، وإن أخطأت لا يجب أن نقول ذلك، وإن قلنا فهو ليس على الملأ، وليس بالإمكان أفضل مما كان ومهما عملنا لوصلنا لنفس النتيجة.
 
ثانيا: تعيد تصحيح المفاهيم السائدة في أوساط أنصار الحركات الإسلامية التي كانت تستنكف عن ثقافة المراجعة والتصحيح وتعبره أمرا خارقا لأعرافها التنظيمية فالنقد عندها لا يكون إلا داخليا وعبر التسلسل الهيكلي، وهذا الطرح -كما أنه طرح متهافت قد تجاوزه الزمن ولم يعد له اعتبار واقعي- فهو أيضا لا يعير اهتماما لجماهير من المناصرين والمفكرين الذين لم يطيقوا البقاء في الأطر التنظيمية ويعتبرهم مجرد منفذين لسياسات الحركة دون أن يكونوا شركاء في صناعة القرار، وهو أمر غير منطقي فكيف تطلب من الناس النصرة والدعم الذي قد يكلفهم حياتهم دون أن يكونوا شركاء في صناعة القرار.

وثالثا: رغم أن سيلا من المراجعات قد طرح على يد كتاب وأصحاب رأي لكنها مع الأسف كانت تقابـــل بالمكابرة والإنكار والتشكيك بدلاً من الأخذ بها وهذه طبيعة التنظيمات المغلقة التي لا ترى في الرأي الآخر أمرا مفيدا، لكن هذا الرأي نفسه إن طرح على يد قيادات لها رصيد عن جمهور الحركة الإسلامية مثل الأستاذ خالد مشعل –مثلا- عندها يكون التعاطي معه مختلفا، ولا مجال هنا للمزايدة لأنه سيوقعهم في الحرج الشديد.

رابعا: أن جمهورا ممن تبنى في السابق سياسة تبرير الأخطاء ورفض المراجعات، تحول إلى سؤال: حسنا عرفنا أخطاءنا.. كفوا عن النقد وأعطونا الحلول! والحقيقة أن سؤال: ما الحل؟ هو سؤال مشروع إن طرح في إطار الدعوة للحوار والأخذ والرد والنقاش المفتوح الموسع، أما من ينتظر حلا رأسيا ينزل عليه من السماء فهو نفسه ابن المدرسة التي ترفض ثقافة النقد والمراجعة، فالحلول تقتضي: أولا حوارا لا محدود يطرح كل المسائل على طاولة النقاش ويبدأ بالمفاهيم الأساسية ويضعها تحت المجهر بجرأة ولا ينتهي بالاستراتيجيات والوسائل والسياسات، وثانيا أن طبيعة العصر ومقتضيات هذا الزمن أن حلوله أفقية وليست رأسية، فلا تنتظروا مفكرا جهبذا ليكتب لكم بضع صفحات ويعطيكم الحلول ليكون دوركم التنفيذ بل على الجميع أن يفتح أفقه للإسهام في الخروج من المأزق الراهن، وثالثا أن الحل لا يأتي دفعة واحدة بل هي حلول تراكمية تسعى للأفضل وأن هذا الحراك الفكري سيصب في النهاية في مسار التصحيح.   

ولكن ما الذي على الحركات الإسلامية أن تراجعه؟

على أجندة المراجعات تبرز محاور عدة لا تزال تحتاج إجابات من جمهور المهتمين:
بدءا من التأصيل الشرعي لمبرر وجود هذه الحركات، فالمتعارف عند هذه الحركات أنها نشأت كبديل للخلافة بعد سقوطها وأن هدفها النهائي هو إعادة إحياء الخلافة، وبما أن وجود الخلافة أمر واجب شرعا، إذن يكون الانتماء لهذه الحركات واجب شرعا فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويبرز هنا سؤال كيف يكون واجبا الانتماء لجماعة لم تتمكن من تحقيق الواجب رغم مرور السنين؟ كما أنه ظهر أن حجم التدهور الذي أصاب الأمة الإسلامية أكبر بكثير من أن تتمكن جماعة ما مهما كانت من أن تطرح نفسها كبديل قادر على إعادة نهضة الأمة، وبالتالي فهذا التأصيل أساسا يحتاج لمراجعة وإعادة نظر لتتحول الجماعة من أمر واجب الانضمام له (غاية) إلى وسيلة من وسائل عدة كلها تسهم في وضع لبناتها لإعادة نهضة الأمة، وبالتالي يكون التفكير في كيفية تفعيل المجتمع وتمكينه لا في كيفية التمكين للجماعة في المجتمع.

ومنها النظر في كيفية التعامل الإيجابي مع جمهور المتعاطفين مع الحركات الإسلامية واستيعابهم، فالأمة فيها الخير وفيها الاستعداد للبذل والتضحية، لكن على الحركة أن تكون واضحة وشفافة أمام الناس، فلا يعقل أن يطالب الناس بدعم حركة لا يعرفون سبيل الانضمام إليها، والهياكل الهرمية التقليدية لم تعد تصلح لاستيعاب الناس، وهي ليست إلا هياكل للحفاظ على التنظيم وليست لتحقيق المشروع المطلوب.

ومنها النظر في الدور المناط بالحركة فالحركة الإسلامية في الأساس هي حركة دعوة وظيفتها الرئيسية مد يدها للناس كافة وتوجيههم ناحية القبلة ووضع أيديهم على المصحف، وبالتالي هي حركة ضغط تسهم في التغيير المجتمعي عبر إنشاء حالة وعي وسلوك إيجابي في المجتمع، مما سيكون له انعكاسه السياسي على الدولة، أما العمل السياسي الحزبي فهو عمل متقلب لا يجب أن تشغل الحركة الأم نفسها به لتكون مرجعا لجميع الشعب، بل يقوم به كوادرها المتمكنون من السياسة ومسالكها وبالتالي يجب إعادة تحديد الأدوار في إطار المشروع النهضوي للأمة، أما حركات التحرر الوطني مثل حركة حماس فلها وضعها المختلف الذي يحتم عليها أن تجيش الشعب كله للتحرير.

وعلى الحركة أن تدرس الموقف الدولي والإقليمي جيدا وتحدد خياراتها المستقبلية في ضوء الواقع بين الهم المحلي أو الأممي، فهل هي تعترف بالدولة الوطنية التي قامت في إثر الحرب العالمية الأولى؟ أم أنها تسعى للعالمية؟ أم أن لها خريطتها التي تريد أن تسعى إليها؟ فحالة السيولة في المنطقة العربية المشرقية تحديدا، كما أنها حالة فوضوية لكنها تحوي في طياتها فرصة بإمكان الحركة الإسلامية استغلالها إن أحسنت قراءة الواقع وامتلاك الأدوات المناسبة للتعامل معه. وهذه التقلبات في عالم الواقع اليوم لا ينبغي التعامل معها بالجمود على القديم ولا بردات الفعل، وإنما بالتطور والمراجعة وشجاعة القيادات الفكرية والسياسية التي تدرك متى تتقدم ومتى تتراجع.

وعلى الحركات الإسلامية أن تحدد منظومة تحالفاتها على أساس قيم الديمقراطية والعدالة والحرية، وأن معركتها هي ضد الفساد والاستبداد، وعليها أن تحدد عدوها بدقة، ولا تنسى في هذا الإطار أن عدوها الأساسي هو (إسرائيل)، ولا تنسى في غضون الغرق في الشأن المحلي أن الصراع العربي الإسرائيلي هو صراع محلي إسرائيلي أيضا، وأنه لا تقدم ولا نهضة لأية دولة عربية طالما دولة الاحتلال قائمة.

والمستجدات التاريخية التي حدثت تحتم على الحركة الانتقال من العموم إلى الخصوص ومن الشعارات إلى البرامج، ومن التردد إلى الجرأة، ولم يعد مقبولا التمترس في خندق المعارضة المريح بل التقدم لمربع الحكم بكل استحقاقاته، وما يستدعيه ذلك من إعادة تكييف بنيتها الداخلية وخطابها للناس، فمن السهل تأطير جمهور الشباب الناقم على الأوضاع في أي دولة لكن من الصعب تأطيره وجعله يتبني خيارات الحزب الحاكم، وبالتالي فهي بحاجة إلى إعادة النظر في مناهجها وكوادرها وخطابها.

ولو نظرنا في مخيلة أي عضو من أعضاء الحركات الإسلامية لوجدناه ينظر لحركته باعتبارها الحزب القائد للدولة والمجتمع، وهو مفهوم قد انتهى في عالم اليوم، لصالح التوافق والشراكات الوطنية والوصول للقواسم المشتركة، وإذا كان هذا ضروريا في أي دولة تريد أن تبني نفسها فإنه أكثر ضرورة في منطقة تعج بالخلافات الطائفية والعرقية والأيديولوجية، والتأخر في إدراك هذه الحقيقة ستدفع ثمنه المنطقة دما وفوضى وخلافات حتى تصل في النهاية لهذه الحقيقة أنه لا بديل عن التوافق الوطني.
 
تبقى نقطة أظنها في غاية الأهمية، وهي أنه لا تكفي ندوة أو ندوات للحوار حول مراجعات (الإسلاميين)، بل من المهم انتقال هذا الحوار والنقاش إلى القواعد التنظيمية في الحركات الإسلامية للوصول إلى حالة اقتناع بأهمية المراجعة والنقد الذاتي للوقوف على مكامن النجاح والفشل والصواب والخطأ، ليكون الكلام في النهاية معبرا عن الجسم التنظيمي وألّا يبقى حديث المفكرين والقياديين في الندوات أو في الصحف، وإلا فهو ليس إلا كلاما في الهواء.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع