كتاب عربي 21

تونس تستعيد أصنامها

1300x600
في سعيها المحموم إلى أن تستكمل دورتها تامةً تسعى الثورة المضادة في مهد الربيع العربي إلى استعادة الإرث الاستبدادي الثقيل للوكيل الاستعماري الأول “الحبيب بورقيبة” أول رئيس للجمهورية التونسية بعد ما سُمّي زورا بالاستقلال عن المستعمر الفرنسي في حين يمثل العهد البورقيبي الممهّد الحقيقي للحقبة المظلمة للرئيس الهارب "بن علي". الفكرة العبقرية جادت بها قريحة أحد مستشاري الرئيس التسعيني وأحد التلاميذ النجباء المخلصين لمنظمة "بيت الحرية" الأمريكية أي شبكة "فريدم هاوس" الاستخباراتية وتتمثل الفكرة في إعادة أصنام “الحبيب بورقيبة” إلى الساحات والشوارع التي كانت بها قبل أن يزيلها قائد الانقلاب الطبي “بن علي” وقد نفذه ليلة 7 نوفمبر 1987.

جوهر الفكرة  ـ عند من يرى نفسه منظر الدولة العميقة الجديد أي غلام “فريدم هوس” ومن يحركه من وراء الأطلسي ـ هو القفز على “المرحلة التجمعية” أي فترة “حزب التجمع الدستوري الديمقراطي” حزب “بن علي” فيكون النكوص إلى الوراء خيارا ثوريا جديدا يسمح بامكانية إعادة إنتاج الشكل الأول للنظام القمعي في تونس في وجهه المخفف أي الحقبة الدستورية التي يدعي الحزب الحاكم اليوم حزب “نداء تونس” أنه إمتداد لها. فنظام ين علي قد أحرق كل مراكبه وفقَد كل سند أو تعاطف شعبي يمكن التأسيس عليه في المرحلة المقبلة لصناعة صورة “الزعيم الموحد للأمة”. وهو نفس المنوال الذي يسعى عرّابوا الانقلابات في المنطقة العربية إلى فرضه في ليبيا من خلال قائد الانقلاب الجديد واستعادة صورة القائد الثائر أو من خلال حالة الجنرال الانقلابي في مصر تأسيسا على صورة طاغية عسكري قديم  ـ من عبد الناصر إلى مبارك ـ أو صورة زعيم المليشيات الحوثية في اليمن مستحضرا هيئة زعيم حزب إيران في جنوب لبنان. 

استعادة صورة الزعيم هي في الأصل استثمار في الاستبداد وفي الإرث الاستبدادي للنظام الرسمي العربي من خلال ما تُحققه هالة الزعيم في المخيال الجمعي وفي التصور الشعبي القاعدي من أبعاد ثلاثة  أولها بعدٌ يخص الجماهير الشعبية ويهدف إلى ترسيخ سلوك الطاعة لدى “الرعية” التي لازلت تؤمن بالأب الملهم والقائد المخلّص والزعيم الأوحد. وهو بعدٌ  مكّن له التصحير الكبير للوعي النقدي وتجفيف الخلايا التي بها يبني الانسان العربي وعيه بنفسه وبالعالم وتجريف كل الآليات القادرة على مجابهة تراكمات الفكر الخرافي ومطبات الوهم والتزييف التي حصّن بها الاستبداد نفسه طوال تاريخه الدموي الطويل. صورة الزعيم تهدف رأسا إلى تحقيق “مبدأ الالغاء” يمثل بحق أخطر جرائم النظام الشمولي لأنه يلغي الفردَ إلغاء ويصهره في صورة الزعيم وهو من ناحية الفعل مبدأ ثنائيّ الوظيفة حيث يغيّب الزعيمُ الفردَ عن تخطيط و عن وعي  من جهة أولى  ويلغي الفرد نفسه عن غير وعي من جهة ثانية وهي أعلى درجات العبودية الجديدة. 

البعد الثاني هو بُعد يخص المستبد نفسَه ويتمثل في طرح صورة المقدس وبسط هالة القداسة عليه فيتجاوز بذلك الصورة الانسانية نحو وضعية أقرب إلى وضعية النبي أو المبعوث المرسَل ـ غير بعيد عن وصف العجوز التونسي التسعيني “بمبعوث العناية الإلاهية” من طرف أحد مريديه ـ. وهي وضعية شبيهة بما يسميه التراث الاغريقي “أنصافَ الآلهة” التي يستعيدها التراث السياسي العربي وكذلك الاسلامي في صورة الوسائط البشرية التي تكاد تتجاور في حالات كثيرة مع مقامات الأنبياء والمرسلين. 

البعد الثالث وهو الأهم فيتمثل في تحصين المستبد من كل مطالبة بالتغيير مما يخلق وضعا شبيها بالوضع القائم قبل الربيع العربي حيث القاعدة منذ القرون الوسطى هي “سلطانٌ غشوم خيرٌ من فتنة تدوم” إذ ربط التنظير الاستبدادي منذ فجر تأسيسه بين التسلط والقمع من الناحية والقدرة على دفْع الفتنة من ناحية ثانية. “الفتنةُ والخوف من الفتنة” كابوسٌ من أعمق كوابيس الفكر العربي الإسلامي منذ فجر تأسيسه صاحَب نشأة الدولة وواكب بداية الخلافة منذ أحداث " سقيفة بني ساعدة" الشهيرة وتأصلَ مفهوم الفتنة كمانع أساسي للتغير أو المطالبة بالتغيير في حين أن عناصر الفتنة في فجر الدعوة الاسلامية لم تمنع من نشأة واحدة من أعظم الحضارات في تاريخ البشرية إن لم نقل أعظمها علمياّ على الإطلاق. صورة الزعيم المقدس من ناحية أخرى هي الصورة المركزية التي حاربها الفكر العربي الاسلامي منذ الفترة التأسيسية الأولى فعمل على نسف فكرة الإنسان المقدس التي شملت حتى الرسول الأكرم ـ عليه صلوات ربه ورحمته ـ منذ حكمة أبي بكر الشهيرة “من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”. 

استدعاء صورة الزعيم أو “ المجاهد الأكبر” كما يحلو له أن يسميه “الاعلام التونسي” به هو قفز الدولة العميقة اليوم نحو الماضي الذي لا يتذكره أغلب الشباب التونسي فهو جيل لا يستحضر من اسم بورقيبة غير شعارات فارغة كمُحرر المرأة وباني تونس الحديثة ورائد العلمانية والحداثة العربية. شباب تونس اليوم لا يسمع في “ إعلام العار الوطني” عن الجرائم التي ارتكبها نظام “الطاغية المثقف” من تصفية لأنصار التيار اليوسفي في زنازين التعذيب بسجن “صباط الظلام” الشهير أو سجن “برج الرومي” المرعب أو معتقل “حربوب” أو حتي أقبية وزارة الداخلية التي عرفت أبشع صور التنكيل والاغتصاب والقتل والتصفية التي طالت كل المعارضين “ للمجاهد الأكبر” من الاسلاميين خاصة ومن اليساريين الوطنيين ومن كل المشارب الفكرية التي كان يرى فيها بورقيبة خطرا على سلطانه. 

هذا الشباب يعيش اليوم في قلب الآثار المدمرة لحكم المجاهد الأكبر على الهوية العربية الاسلامية للبلاد التونسية التي بدأت بتصفيته التعليم الزيتونيّ وإغلاق الجامع الأعظم في وجه طلبة العلم ومحاربة قيم المجتمع التونسي المحافظ كالدعوة إلى الافطار في رمضان ونزع حجاب المرأة الذي يرى فيه المجاهد الأكبر رمزا للتخلف والرجعية وهو المحامي المتنور. 

تمدد العنف والتطرف وانتشار الغلوّ والإقصاء بين كل التيارات الفكرية في تونس بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 إرث من ميراث “مخطط تجفيف الينابيع” الذي دشّنه "بورقيبة" وأتمّه "بن علي" وهو يتواصل اليوم بعد الانقلاب الناعم على الثورة وعلى دماء الشهداء. لكنّ الجديد في الوضع الناشئ بالوطن العربي الكبير هو هذا الوعي الجديد وهذه الرؤية التي بدأت تتكون في وضع جنيني لن يسمح بالتخيير بين المستبد المثقف والمستبد الجاهل بين المستبد التنويري والمستبد الشرطي بين نظام بورقيبة ونظام بن علي لأنهما قد ماتا و" من يعبد الحرية فإن الحرية لا تموت أبدا ".