كتاب عربي 21

حدود القدرة الدعائية للاحتلال وعدوانه

1300x600
كانت بكائيات ذوي المجندين الثلاثة منذ فقدهم في منطقة الخليلبمثابة نقطة البدء لدعاية العدوان الحربي الجديد على غزة. فمنذ أن بالغت أبواق دعائية ومنابر إعلامية في إبراز البكائيات عبر العالم، اتّضح أنّه المنحى التبريري الاستباقي المعهود الذي يستعمل الدموع لتسويغ العدوان الآتي.

وقد تبيّن عبر الأيام القليلة الماضيةأنّ آلة الدعاية التي تديرها منظومة الاحتلال في البيئات الغربية وغيرها، دولة وجيشاً ومؤسسات وسفارات ووسائل متعدِّدة وامتدادات خارجية ومسارات إسناد عبر العالم؛ قد سجّلت في هذه الجولة العسكرية أيضاً حضورها وجهّزت جيوشها في مسارات متعدِّدة لخوض المعركة على الوعي؛ بكثير من جهود التضليل وتوظيف المؤثِّرات.

لكنّ المبالغة في التجييش الدعائي لا تضمن النجاح تلقائياً في المعركة على الوعي العالمي، فللقدرة الدعائية حدودها مهما أوتيت من إمكانات. وقد بات واضحاً منذ زمن أنّ دعاية الاحتلال تعاني من أزمة مصداقية وموثوقية متفاقمة، وهو ما يحدّ من فرص أيِّ نجاحات يمكن للجهد الدعائي الإسرائيلي أن يُحرزها في سياق أيّ تطوّر كان. 

ولهذا فإنّ دعاية الاحتلال الخارجية تناور أساساً في الهامش التكتيكيّ، أي ضمن الجزئيّات والتفاصيل، مع انحسار متزايد في قدرتها على التأثير الاستراتيجي الذي يراهن على كسب العقول والقلوب لصالح مشروع الاحتلال برمّته. 

إنّ أزمة المصداقية والموثوقية التي تشوب دعاية الاحتلال في الفضاء العالمي إجمالاً، والغربي خاصّة، تعود في منشئها إلى عوامل وتطوّراتتقع في مركزها تلك الصورة الكريهة التي ينطوي عليها واقع الاحتلال ذاته، بكل ما يتفرّع عنه من سياسات وإجراءات وممارسات. وبالتالي فإنّ فرص النجاح تبقى محدودة لأي جهد دعائي يأتي معزولاً عن الواقع.

أي أنّ الحقائق على الأرض هيالأفصح من أيِّ متحدِّث رسميّ أو شبه رسميّ. فنقطة الضعف الجوهرية في الدعاية الإسرائيلية هي واقع الاحتلال وممارساته، بما تشتمل عليه من تفاصيل صادمة؛ مثل قتل الأطفال وسحق سيارات الإسعاف وقصف مكاتب الصحافييِّن وممارسة الترويع بحقّ السكّان ونزعهم من منازلهم، فضلاً عن تشييد جدار رمادي كئيب في مواجهة التجمّعات السكانية.

ثمّ إنّ الأساطير الدعائية الكلاسيكية التي رافقت احتلال فلسطين قد تضعضعت منذ زمن وتهاوَت؛ ومنها مثلاً: أسطورة "طهارة السلاح الصهيوني"، وأسطورة "التفوّق الأخلاقي" للجيش الإسرائيلي، وأسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وأسطورة "تزهير الصحاري وتجفيف المستنقعات"، وغيرها. إنّ تبدّد هذه الأساطير التي استقرّت في الوعي الجمعي للشعوب في أنحاء متفرقة من العالم ردحاً من الزمن جاء بمفعول صدمات الحقائق التي يفيض بها الواقع في ميدان الحرب والقصف، وفي ميدان الاستيطان والجدار، وفي التعامل مع الإنسان وتراثه الحضاريّ، وفي مجال النُّظُم القانونيّة والإجرائيّة.

ويمكن الافتراض أنّ التّقدمة الأخلاقيّة الذرائعيّة لرواية احتلال فلسطين كان لها مع مُضِيّ الوقت مفعول معاكس، إذ إنّ اقتراف أيِّ انتهاك من جانب سلطات الاحتلال يُنظَر إليه نقدياً من زاوية تلك الشعارات الأخلاقيّة أيضاً؛ فتكون محاكمته بالمعايير المزيّفة التي تباهى بها.

ومن التطوّرات التي تعرقل تمدّد الرواية الدعائية الإسرائيلية ما تحقّق للجماهير حول العالم من قدرات متزايدة في متابعة الواقع في فلسطين بالعديد من تفاصيله، وذلك أساساً بتأثير محطّات التلفزة والبثّ المباشر ومواقع الإنترنت والشبكات الاجتماعية وتناقل الصور والمشاهد والانطباعات المكتوبة.

ولا يمكن التقليل من تأثير فرص معايشة الواقع المتاحة للجمهور؛ سواء من خلال التواصل مع الفلسطينيين في شتاتهم حول العالم، أو زيارة الأراضي الفلسطينية بكلِّ ما تمثِّله من ملامسة عملية لواقع الاحتلال، وبما يحمله أولئك الزائرون لمجتمعاتهم من انطباعات.
إنّ المفارقة التي تواجهها دعاية الاحتلال؛ أنّ تشديد سياساتها في حصار الفلسطينيين ووضعهم في معازل سكانية وتشييد الجُدُر من حولهم وتقييد حركتهم وتنقلّهم وتحويلهم إلى أسرى في سجون مفتوحة؛ يأتي في زمن تتمكّن فيه وسائل الاتصال والإعلام من تجاوز الحدود والأسلاك واختراق شتى العوائق؛ بما يساهم في نقل واقع هذا الاحتلال إلى الفضاء الإنساني الواسع على نحو غير مسبوق.

وقد حدثت تحوّلات ذات شأن كان لها أثرها،منها تنامي الجهود الإعلامية الفلسطينية، وتوسّع النشاط المناهض للاحتلال والمؤيِّد للحقِّ الفلسطيني في أوساط التجمّعات الجماهيرية ومنظمات المجتمع المدني حول العالم، وهي بدورها تقوم بجهود إعلامية متعدِّدة تتصدّى للرواية التي يقدِّمها الاحتلال للأحداث.

إنّ هذا التطوّر متعدِّد المسارات، فمنه ما يتعلّق بالشتات الفلسطيني ذاته وتطوّر آليّات عمله وتأثيره، ومنه ما يأتي في أنساق ذات خلفيّات عربيّة وإسلاميّة، وضمن تشكيلات تضامنيّة واسعة ومتنوِّعة ينحو بعضها منحى تخصّصياً؛ مثلاً كالتجمّعات المهنيّة والنقابيّة الداعمة لفلسطين، أو حركة المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات على الاحتلال الإسرائيلي، وغيرها من التشكيلات والتجارب.

أمّا المربّع التقليدي المرتبط بمشروع الاحتلال الذي مثّلته التجمّعات اليهودية حول العالم، فهي أقلّ اندفاعاً من أيِّ وقت مضى في ما يتعلّق بتلقّف رواية الاحتلال. ومنذ تأجّج "انتفاضة الأقصى" بالتحديد برزتفي أوروبا وأمريكا الشمالية أصوات يهودية، على هيئة منظّمات وشخصيّات ووسائل إعلام، تعلن مناهضتهاللاحتلال الإسرائيلي، وتسجِّل حضوراً متزايداً في مشهد التضامن مع الشعب الفلسطيني.

وبعض هذه القوى عبارة عن تجمّعات يهودية علمانية تحرص على مناهضة الاحتلال؛ بل يُطالِب بعضها بتفكيك الدولة التي أقامتها الصهيونية في فلسطين؛ ويقابلها الموقف المبدئي التقليديّ لجماعات يهودية حسيدية مثل "ناطوري كارتا" تناهض إقامة دولة لليهود في فلسطين أساساً. فضلاً عن ذلك؛ تتفاعل بعض المراجعات بشأن الموقف من الاحتلال والسياسات الإسرائيلية، في أوساط صهيونية كلاسيكية في أوروبا وأمريكا الشمالية، وقد عبّرت هذه المراجعات عن نفسها في عرائض ومذكّرات ومقالات؛بل وفي تشكيلات جديدة مثل "جي ستريت" و"جي كول" - (J Street) و(J Call) - تضمّ وجوهاً معروفة بماضيها الصهيوني.

وتضيق حدود الممكن أمام دعاية الاحتلال إذا أُضيفت إلى ما سبق حالات التخبّط التي انتابت الأداء الإعلامي لحكومة الاحتلال في بعض المحطّات التي شهدتها السنوات الأخيرة، مثل واقعة القرصنة والمجزرة بحقّ "أسطول الحرية"، وكذلك المفعول الإعلامي لجرائم الحرب التي اقترفها جيش الاحتلال في عدوان 2008/2009 وعدوان 2012، والصور المروِّعة المنقولة من وقائع الميدان، علاوة على ما جاء من انتهاكات موثّقة في "تقرير غولدستون"الذي خرجت به لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ قبل تنصّل غولدستون المُريب من تقريره. 

ثمّة عوامل ديمغرافية تلقي بظلالها على دعاية الاحتلال، دفعت بنُخَب من نمط خاصّ، وهي إجمالاً ذات خلفيات روسية وشرقية، إلى مشهد القيادة الإسرائيلية في وزارة الخارجية والحكومة والبرلمان.لقد أدّى ذلك إلى تراجع نسبيّ في قدرات قيادة الاحتلال على مخاطبة العالم؛ خاصّةالغرب. ويمثِّل نموذجأفيغدور ليبرمان بالتحديد شاهداً قوياً على هذا التحوّل، علاوة على صفوفمن السياسيِّين والمسؤولين والنواب الذين ينتمون إلى معسكر "شاس" مثلاً.  
يُضاف إلى التحوّلات التي طرأت؛ كسرُ احتكار الاحتلال لبعض وسائل التواصل والتعبيرات التضامنيّة. فبعد عقود من هيمنة التواصل الدعائي مع تجربة احتلال فلسطين، الذي تجسّد بشكل خاصّ في الوفود الشبابيّة إلى المستوطنات التعاونية الزراعية المسمّاة "الكيبوتس"، وتلقّف المقولات الدعائية الصهيونية بانبهار لا يتيح مجالاً للحسّ النقديّ أو النقاش؛ اضمحّلت تجارب "الكيبوتس" ذاتها، وأصبحت الوفود التضامنية تتدفّق بدلاً من ذلك إلى "الجانب الآخر" في فلسطين.

لقد تطوّرت بالفعل تجاربالوفود التضامنية مع فلسطين، ومجموعات المساعدة في قطاف الزيتون، وقوافل إسناد غزة المُحاصَرة. بلإنّ هذا الجهد التضامني والإسنادي أخذ يركِّز ببراعة على صناعة الحدث الإعلامي من خلال مبادرات متجدِّدة مثل "أسطول الحرية" الذي أبحر صوب فلسطين، ووفود "أهلاً وسهلاً في فلسطين" التي هبطت من الأجواء.

مع كلِّ ما سبق؛ فمن الخطأ التهوين من قدرات القدرات الدعائية للاحتلال وعدوانهلمجرّد إدراك حدود التصرّف المتاحة لها.إنّ المواجهة المفتوحة لا تستعر في الميدان وحده؛ فالمعركة في ذروتها أيضاً في وسائل الإعلام والتشبيك الإلكتروني. 

*حسام شاكر كاتب واستشاري إعلامي مقيم في فيينا