مقالات مختارة

سمعنا الجنرال وبانتظار السياسي

1300x600
كتب فهمي هويدي: كل ما قاله المشير عبدالفتاح السيسي عن الحاضر والمستقبل في كفة، وكلامه عن الإسلام السياسي والإخوان في كفة أخرى، الأمر الذي يستلزم تحريرا ومناقشة.

(1)

فى الحوار التليفزيونى الذى أجرى يوم 5/ 5 سألته الإعلامية لميس الحديدى: هل انتهت جماعة الإخوان المسلمين؟ فى رده قال السيسى: لست أنا الذى أنهيتها، أنتم يا مصريون أنهيتموها حين قلتم لا فى 30/ 6.

محاوره الآخر الأستاذ إبراهيم عيسى عاد ليسأل: إذا قرر المواطن أن ينتخبك رئيسا فهل سيكون واثقا من أنك انهيت جماعة الإخوان، وأنه خلال مدة رئاستك لن يكون هناك شىء اسمه الإخوان ــ رد المشير جاء فى كلمة واحدة هى: نعم.

فى لقائه مع رئيس تحرير الصحف قال السيسى (طبقا لما نشرته جريدة الشروق فى 8/ 5):

• إن الإقصاء يتعارض مع الديمقراطية، لكن السؤال هو: هل المزاج العام للرأى العام يقبل بالإقصاء أم لا.. وهل بنية المجتمع مناسبة أم لا؟ ــ هذا ما ينبغى مناقشته.

• ينبغى أن نناقش أيضا تأثير الإسلام السياسى. ذلك إن الأوروبيين حسموا علامة الدين بالدولة منذ أربعة قرون. وفى حالنا فإن جزءا كبيرا من المجتمع لا يقبل تيار الإسلام السياسى، لأنه خاف وقلق على حاضره ومستقبله، فكيف سنتصرف حيال هذا الوضع؟

• الذين يتحدثون عن المصالحة عليهم أن يعالجوا هذه المسألة مع المصريين وليس مع السلطة. ذلك إنها المرة الأولى فى مصر التى لا يوجد خلالها أى تعاطف مع ذلك التيار، لذلك فإن الشعب المصرى أصبح بحاجة إلى اعتذار وترضية أولا.

(2)

الكلام عن «شطب» الإخوان من الواقع السياسى المصرى، أقله فى ظل فترة الرئاسة المفترضة للمشير السيسى تحولت إلى خبر تناقلته مختلف وكالات الأنباء. وترددت أصداؤه فى العديد من عواصم العالم. وكان بعض تلك الأصداء يحاول التخفيف من وقعه (كما فعل وزير الخارجية السيد نبيل فهمى والسيد عمرو موسى الذان كان فى واشنطن وقتذاك) فمن قائل إن المشير كان يقصد العنف المنسوب إلى الجماعة، وقائل بأن الكلام ينسحب على الجماعة ولا ينسحب بالضرورة على حزب الحرية والعدالة الذى يمثلها. وفى الداخل حاول البعض تأويل الكلام بالحديث عن تخلى الجماعة عن بعض أفكارها (الدكتور ياسر برهامى تحدث عن فكرة التكفير) والادعاء بأن اقتلاعها بالكامل ليس واردا.

أبرز تعليق فى الصحافة المصرية نشرته «المصرى اليوم» فى 7/5 فى الزاوية التى يوقعها كاتبها باسم «نيوتن»، ولم يخف صاحبنا فيما كتب أنه رافض للإخوان وسيئ الظن بهم. ومع ذلك فإنه وصف كلام السيسى بأنه «شديد الخطورة». ولم يحاول تأويله أو التخفيف من وقعه، وإنما قال إن المشير حسم الموقف بما قال، وإجابته كانت جاهزة، ولم تكن طارئة. وتساءل بعد ذلك:

هل ما قاله السيسى ممكن.. وهل يقدر على ذلك؟ وهل يقصد القضاء على أيديولوجيا الإخوان؟ وكيف يمكن أن يفعل ذلك فى فكر عمره قرن؟ ثم..... هل سيتخلى الشباب عن تنظيمهم، وهل يمكن أن يترك الإخوان جماعتهم؟ وكيف سيدفعهم السيسى إلى ذلك، هل بمزيد من الضغط والحصار؟ وماذا سيفعل فى النتائج السلبية، التى ستترتب على قراره، الذى ذكر فيها احتمال اتجاه الإخوان إلى العمل السرى والتحرك تحت الأرض.

سألنى اثنان من المراسلين الأجانب عن رأيى فى كلام السيسى، فقلت إنه فضفاض يحتمل تأويلات متعددة، ثم إنه يثير العديد من الأسئلة، التى توضح حدود حقيقة ما يعنيه المشير. وفى كل الأحوال فان القدر الذى أعلن فى الحوار يعبر عن تبسيط واختزال وتعجل. ولا مفر من الانتظار حتى نرى كيف سيترجم على أرض الواقع.

(3)

الأسئلة التى طرحها كاتب «المصرى اليوم» الرافض للإخوان مشروعة ومهمة. ولا يحتاج المرء لأن يكون إخوانى الهوى لكى يستغرب أو يشكك فى جدوى قرار الشطب ويحذر من مغبته. حيث يكفى أن يكون لديه عقل سياسى لكى يطرحهما، لا حبا فى الإخوان ولكن تعبيرا عن القلق على مستقبل الاستقرار فى الوطن. من هذه الزاوية أضيف من عندى بعض الأسئلة التى منها ما يلى: هل المتظاهرون فى الشارع وفى الجامعات هم الإخوان وحدهم أم ان هناك آخرين لديهم أسبابهم التى دفعتهم إلى الغضب والتظاهر؟ وهل الإسلام السياسى الذى انتقده المشير مقصور على الإخوان وحدهم أم أن هناك جماعات وأحزابا أخرى تدخل فى نطاقه يتعين التمييز بينها؟ وهل الإسلام السياسى له موقف واحد من التحولات التى جرت فى مصر أم أن لمكوناته مواقف متباينة؟ وما هى الآلية التى يستند إليها فى تقرير مدى قبول أو رفض الإسلام السياسى؟ هل هى تقارير الأجهزة الأمنية أم وسائل الإعلام والحشود التى تدعى للخروج إلى الشارع أم هو مؤسسات الدولة المنتخبة ودستورها وقوانينها؟ وهل التفويض الذى منح للمشير يعطيه الحق فى شطب أو إجازة القوى السياسية والتيارات الفكرية الموجودة فى البلد؟ وهل الرأى العام الذى أشار إلى رفضه الإسلام السياسى يقبل بالتطرف العلمانى المعلن فى مصر أو بالمجموعات الشيوعية، التى تنشط فى المجال العام أو بدعوات الدفاع عن الحركة النسوية والمثليين والبهائيين؟ وفيما خص العنف الذى يحتج به فى شطب الإسلام السياسى والإخوان لماذا لا تقبل السلطة المصرية بإجراء تحقيق محايد تجريه مفوضية حقوق الإنسان فى جينيف مثلا فى حوادث إحراق الكنائس وقتل الجنود والمتظاهرين والمذابح، التى جرت فى رابعة والنهضة وأمام مقر الحرس الجمهورى؟ وإذا كنا قد تحمسنا للمراقبة الدولية للانتخابات الرئاسية المقبلة، فلماذا لا نقبل بالتحقيق الدولى فى جرائم العنف التى وقعت لطمأنة الجميع ولتطهير ذلك الجرح الكبير من المرارات والشكوك والثأرات؟ لك أن قتل أكثر من خمسة آلاف شخص منذ قامت الثورة (حسب تقدير موقع ويكى ثورة المستقل) دون حساب أو عقاب ليس بالأمر الهين، الذى يمكن أن تطويه الذاكرة بمضى الوقت.

(4)

قرار الشطب باعث على الدهشة حقا، لكن التفكير فيه باعث على الحيرة أيضا، ذلك انه كاشف عن ان خطوة بهذه الأهمية لم تخضع لدراسة جادة لا من وجهة نظر المصلحة الوطنية ولا من زاوية الخبرة التاريخية. لقد ذهب الرئيس السورى السابق حافظ الأسد إلى أبعد فى ثمانينيات القرن الماضى حين أصدر قانونا قضى بإعدام كل من ينتسب الإخوان، وفعلها الرئيس معمر القذافى فى ليبيا حتى أنشأ كيانا لقمع الإسلام السياسى أسماه جهاز «مكافحة الزندقة»، ولم ينجح أى منهما فى انجاز عملية الشطب، ورحل الرجلان دون أن يتمكنا من لى ذراع التاريخ وتطويعه لحساب مزاجهما السياسى.

إن أى دارس لتاريخ الأفكار وحركات الإصلاح والتغيير الاجتماعى يدرك أنها ليست نبتا شيطانيا يأتى من فراغ. ولكنها عادة ما تكون استجابة لظروف تاريخية تمر بها المجتمعات والأوطان. وظهور جماعة الإخوان التى تأسست فى عام 1928 ان بين الأصداء التى ترتبت على الفراغ الذى نشأ عن إلغاء الخلافة الإسلامية فى عام 1924. وترددت تلك الأصداء فى أنحاء عدة من العالم الإسلامى من الهند والصين إلى جنوب أفريقيا. ثم أن حسن البنا لم يكن مجرد داعية ذاع صيته، ولكنه كان امتدادا لحلقة موصولة بالإصلاحيين الذين كان جمال الدين الأفغانى على رأسهم، ومن بينهم الإمام محمد عبده ورشيد رضا. وكان جزءا من المدرسة التى ضمت محب الدين الخطيب والشيوخ العلماء الكبار مصطى المراغى ومحمود شلتوت ومحمد شاكر وطنطاوى والجوهرى والأحمدى الظواهرى ومحمود خطاب السبكى، فى الوقت ذاته فانه صار جزءا من نسيج عريض ضم شكيب رموزا إصلاحية معروفة بينهم أرسلان وصالح حرب ومحمد على علوبة عبدالرحمن عزام وعزيز المصرى وغيرهم وغيرهم من أعلام ذلك الزمان ورجالاته. ثم إنه لم يثبت حضورا فى مصر وحدها، ولكنه مد بصره إلى المغرب، وأنشأ مكتب الاتصال بالمغرب العربى فى القاهرة لتأييد مقاومة الاحتلال الفرنسى (الحبيب بورقيبة كان من ضيوفه الدائمين)، ومشهور دور الجماعة فى حرب فلسطين كما سقط شهداؤها فى مقاومة الاحتلال البريطانى المتمركز فى قناة السويس، وجيلنا لا يزال يذكر منهم الشهيدان عمر شاهين وأحمد المنيسى.

إننى هنا أفرق بين المشروع الفكرى والدور النضالى، وبين الاجتهاد السياسى، والأول صار جزءا من تاريخ الوطن وليس الجماعة وحدها. أما الاجتهادات السياسية بإخفاقاتها أو نجاحاتها فإنها تمثل لحظات عابرة تقدر بقدرها، وينبغى ألا تصبح ذريعة للعدوان على التاريخ بتجريحه أو محوه.

أدرى أن أجواء الاحتقان والاستقطاب الراهنة سمَّمت المشاعر بحيث ما عاد البعض مستعدا لاستقبال فكرة الإنصاف ناهيك عن المصالحة. وهو ما يدعونى إلى التذكير ببعض البديهيات السياسية، التى منها أن صدق الممارسة الديمقراطية لا يُقاس بمدى الترحيب بالمؤيدين والموالين، ولكنه يُقاس بالقدرة على احتواء المخالفين وحتى الخصوم، منها أيضا أن الوطن لن يقدر له أن يعرف الاستقرار إلا إذا وضعت نهاية للحرب الأهلية الدائرة فيه على مستويات عدة طوال تسعة أشهر. وهذا الاستقرار شرط أساسى لدوران عجلة التنمية المشلولة فى الوقت الراهن. وأكرر ما سبق ما ان قلته من أن العدل والإنصاف هو الباب الوحيد الذى يضمن بلوغ تلك الغاية. من تلك البديهيات أيضا انه حين تغلق أبواب المشاركة المشروعة فى العمل السياسى، فإن الأبواب تنفتح تلقائيا أمام العمل السرى والممارسات غير المشروعة الأخرى، التى قد يكون العنف من بينها. وبعد الدماء الغزيرة، التى سالت خلال السنوات الثلاث الماضية فإن التربة باتت مهيأة لاستنبات ذلك الخيار الأخير.

(5)

لقد قلت فى مستقل مناقشة كلام السيسى إن حضور الجنرال فيما صدر عنه كان أقوى من حضور السياسى المرشح للرئاسة، ولكم تمنيت أن يكون داعيا إلى التهدئة ومهادنا فى الإجابة على أسئلة الداخل بقدر مهادنته التى ظهرت فى الإجابة على أسئلة الخارج. وإذ أتصور أن ما صدر عنه كان مرتبا متفقا عليه قبل التسجيل والبث، وأنه أراد أن يوجه رسائل معينة إلى الرأى العام وبداية حملته الانتخابية. إلا أننى أزعم أن بعض تلك الرسائل جانبها التوفيق لأنه تحدث بلغة الجنرال ومنطقه، وحديثه عن حل مشكلة البطالة نموذج لذلك فى الشق الاقتصادى الذى يتحرج كثيرون من الخبراء فى الخوض فيه لأسباب تتعلق بالحسابات والملاءمات السياسية. أما الشق السياسى فما نحن بصدده نموذج له.

لذلك تمنيت أن يفتح الأبواب لا أن يغلقها، وأن يدعو إلى عدم التسرع فى تحديد المواقف وإصدار الأحكام وله أن يحتج ذلك بأن كل ملفات المستقبل مفتوحة وخاضعة للدراسة، تمنيت أيضا ألا يعمم فى إدانته واستهجانه للإسلام السياسى، وأن يلجأ إلى التمييز فى الحديث عنه بين المعتدلين فى صفوفه والمتطرفين. ولو أنه قال إن الظروف لم تنضج بعد لإجراء المصالحة لأن مضمونها وشروطها لم تتوفر بعد لكان أعدل. ولربما كان أحكم لو أنه رد على السؤال الخاص بوجود الإخوان ومستقبلهم بقوله إن فى البلد قانون من احترمه قبلناه ومن خاصمه خاصمناه.

لقد سمعنا صوت الجنرال عاليا، وأرجو ألا يطول انتظارنا لكى نسمع صوت السياسى لأن ذلك مهم جدا لمصر قبل أن يكون مهما للإخوان.

(الشروق المصرية)